شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة

          ░54▒ بَابُ مَا يُذْكَرُ في بَيْعِ الطَّعَامِ وَالحُكْرَةِ
          فيهِ ابنُ عُمَرَ: (رَأَيْتُ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مُجَازَفَةً يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم(1) حَتَّى يُؤْوُهُ إِلَى رِحَالِهِمْ). [خ¦2131]
          وفيهِ(2) ابنُ عَبَّاسٍ: (نَهَى الرَّسُولُ(3) صلعم أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ طَعَامًا حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ، قُلْتُ لابنِ عَبَّاسٍ(4): كَيْفَ ذَلكَ؟ قَالَ: دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ، وَالطَّعَامُ رَجَاءٌ(5)). [خ¦2132]
          اختلف العلماء في بيع الطَّعام جزافًا قبل أن يُقبض، فذهب أبو حنيفةَ وأصحابه والثَّوْرِيٌّ والشَّافعيُّ وأحمدُ وأبو ثَوْرٍ إلى أنَّه لا يجوز بيعه قبل قبضه، وروى الوَقَّارُ عن مالكٍ مثله، وقال ابن عبدُ الحَكَمِ: إنَّه استحسانٌ مِنْ قوله.
          وقالت طائفةٌ: يجوز بيع الطَّعام الجزاف قبل قبضه، رُوِيَ ذلك عن عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ، وهو قول سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ والحَسَنِ البصريِّ والحَكَمِ وحَمَّادٍ، وهو المشهور عن مالكٍ، وبه قال الأوزاعيِّ وإِسْحَاقَ.
          وحجَّة القول الأوَّل ظاهر حديث ابن عُمَرَ، وعموم نهيه ◙ عن بيع الطَّعام قبل استيفائه، فدخل فيه الجزاف والمكيل، وقد أشار ابن عبَّاس ٍإلى أنَّه إذا باعه قبل قبضه أنَّه دراهمُ بدراهمَ، والطَّعام لغوٌّ، فأشبه عنده العينة، وقال الأَبْهَرِيُّ: العينة عنده(6) مِنْ باب سلفٍ جرَّ منفعةً.
          والحجَّة لقول مالكٍ ومَنْ وافقه أنَّ مَن ابتاع جزافًا فلم يبتع(7) إلَّا ما وقعت حاسَّة العين عليه، ولذلك سقط الكيل عن البائع، والاستيفاء إنَّما يكون بالكيل أو الوزن(8)، هذا هو(9) المشهور عند العرب، ويشهد لذلك قوله ╡: {فَأَوْفِ لَنَا الكَيْلَ}[يوسف:88]{وَأَوْفُوا الكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ}[الإسراء:35]وقوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ(10)}[المطفِّفين:2-3]فإنَّما عنى بالاستيفاء في المكيل والموزون خاصَّةً، وما عدا هذه(11) الصِّفة فلم(12) يبقَ فيه إلَّا التَّسليم، فبه يُستوفى مِنْ جُزاف الطَّعام كالعقار وشبهه.
          فإن قيل: لو كان كما زعمتم لم يتأكَّد النَّهي عن ذلك حتَّى يضرب النَّاس عليه، فدلَّ على أنَّ حكم الجزاف كحكم المكيل.
          فالجواب: أنَّهم إنَّما أُمروا بانتقال طعامهم وإن كان جزافًا، لأنَّهم كانوا بالمدينة يتبايعون بالعينة، وكذلك / [يجب أن يُؤمر بانتقال الجزاف في كلِّ موضعٍ يُشهر(13) فيه العمل بالعينة ليكون حاجزًا بين دراهم بأكثر منها، كان الطَّعام لغوًا وكانت دراهم بأكثر منها، وقد رُوِيَ عن ابن عُمَرَ أنَّ النَّهي إنَّما ورد في المكيل خاصَّةً، ذكر ابن وَهْبٍ قال: حدَّثني عَمْرُو بنُ الحارثِ عن المُنْذِرِ بنِ عُبَيْدٍ المدينيِّ، أنَّ القَاسِمَ بنَ مُحَمَّدٍ حدَّثه، أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ حدَّثه: ((أَنَّ النَّبيَّ(14) صلعم نَهَى أَنْ يَبِيْعَ أَحَدٌ طَعَامًا اشتَرَاهُ بِكَيْلٍ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ)).
          وفي قول(15) ابن عُمَرَ: (رَأَيْتُ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الطَّعام مجازفةً يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبيِّ صلعم حَتَّى يُؤْوُهُ إِلَى رِحَالِهِمْ) إباحة الحكرة لأنَّه لو لم يجز لهم احتكاره لتقدَّم إليهم في بيعه، ولم يؤذن لهم في حبسه، هذا قول أئمَّة الأمصار.
          ورخَّصت طائفةٌ لمَنْ رفع الطَّعام مِنْ أرضه أو مَنْ جلبه مِنْ مكان في جنبه، ومنعت مِنْ ذلك لمشتريه مِنَ السُّوق للحكرة، رُوِيَ(16) ذلك عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ والحَسَنِ(17) البصريِّ ☻ وبه قال الأوزاعيُّ.
          وقال مالكٌ: مَنْ(18) رفع طعامًا في ضيعته فرفعه فليس بحكرةٍ. وقال أحمدُ بنُ حنبلٍ: إنَّما يحرم احتكار الطَّعام الَّذي هو قوتٌ دون سائر الأشياء.
          وقالت طائفةٌ: احتكار الطَّعام في الحرم إلحادٌ فيه, رُوِيَ هذا عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ ومُجَاهِدٍ.
          فإن قيل: قد رُوِيَ عن النَّبيِّ صلعم أنَّه قال: ((لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ)) مِنْ حديث سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ عن مَعْمَرِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ نَضْلَةَ، عن النَّبيِّ صلعم، ورُوِيَ عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ وعُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ أنَّهما نهيا عن الحكرة.
          قيل: معنى هذا النَّهي عند الفقهاء في وقت الشِّدَّة وما ينزل بالنَّاس مِنَ الحاجة، يدلُّ على ذلك أنَّ ابن المُسَيَّبِ روى هذا الحديث وكان يحتكر الزَّيت، فقيل له في ذلك، فقال: كان مَعْمَرٌ يحتكر، وقد علما مخرج الحديث.
          وقال أبو الزِّنَادُ: قلت لابن المُسَيَّبِ: أنت تحتكر؟ قال: ليس هذا بالَّذي قال رسول الله صلعم إنَّما قال: أن يأتي الرَّجل السِّلعة عند غلائها فيغالي بها، وأمَّا أن يشتريه إذا أبضع ثمَّ يرفعه، فإذا احتاج النَّاس إليه أخرجه، فذلك خيرٌ، فبان أنَّ معنى النَّهي عن الحكرة في وقت حاجة النَّاس.
          روى ابن القَاسِمِ عن مالكٍ أنَّه قال: مَنِ اشترى طعامًا في وقت لا يضرُّ بالنَّاس شراؤه فلا(19) يضرُّه أن يتربَّص(20) به ما شاء، وهو قول الكوفيِّين والشَّافعيِّ.
          قال مالكٌ: وجميع الأشياء في ذلك كالطَّعام، وقال الأوزاعيُّ: لا بأس أن يشتري في سنة الرُّخص طعامًا لسنتين(21) لنفسه وعياله مخافة الغلاء، قال مالكٌ: وأمَّا إذا قلَّ الطَّعام في السُّوق، واحتاج(22) النَّاس إليه، فمَنِ احتكر منه شيئًا فهو مضرٌّ بالمسلمين، فليخرجه إلى السُّوق وليبعه بما ابتاعه ولا يزدد فيه، فعلى هذا التَّأويل(23) تتفق الآثار، ألا ترى أنَّ النَّاس إذا استوت حالتهم في الحاجة، فقد صاروا شركاء، ووجب على المسلمين المواساة في أموالهم فكيف لا يمنع الضَّرر عنهم وقد جمع النَّبيُّ صلعم الأزواد بالصَّهباء عند الحاجة، ونهى عن ادِّخار اللُّحوم بعد ثلاثٍ للدَّافَّة، وجمع أبو عُبَيْدَةَ أزواد السَّريَّة وقسمها بين مَنْ لم يكن له زادٌ وبين مَنْ كان له، وأراد عُمَرُ(24) أن يحمل في عام الرَّمادة على أهل كلِّ بيت مثلهم مِنَ الفقراء، وقال: إنَّ المرء لا يهلك عن نصف شبعه.]
(25)


[1] زاد في المطبوع: ((أن يبيعوه)).
[2] في (ز): ((فيه)).
[3] في (ز): ((النَّبيُّ)).
[4] في (ص): ((لابن عمر)).
[5] في المطبوع: ((مرجأٌ))، وغير واضح في (ص).
[6] قوله: ((عنده)) ليس في (ز).
[7] في المطبوع: ((يبع))، وفي (ص): ((يبيع)).
[8] في (ز): ((والوزن)).
[9] قوله: ((هو)) ليس في (ز).
[10] قوله: (({وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ})) ليس في المطبوع و(ص).
[11] في (ز): ((هذه)) غير وضحة بسبب التَّصوير.
[12] في (ز): ((لم)).
[13] في المطبوع: ((يشتهر)).
[14] في المطبوع: ((أنَّه ◙)).
[15] في المطبوع: ((حديث)).
[16] في المطبوع: ((وروي)).
[17] في المطبوع: ((وعن الحسن)).
[18] في المطبوع: ((فيمن)).
[19] في المطبوع: ((لا)).
[20] في المطبوع: ((إن تربَّص)).
[21] في المطبوع: ((لسنين)).
[22] في المطبوع: ((فاحتاج)).
[23] في المطبوع: ((القول)).
[24] في المطبوع: ((من كان له زاد، وأمر عمر)).
[25] ما بين معقوفتين غير واضح في (ص) بسبب الطَّمس.