شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا اشترط شروطًا في البيع لا تحل

          ░73▒ بَابٌ إِذَا شَرَطَ(1) في البَيْعِ شُرُوطًا لَا تَحِلُّ
          فيهِ حديثُ بَرِيرَةَ وقولُ النَّبيِّ صلعم: (مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ في كِتَابِ اللهِ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ في كِتَابِ اللهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ). [خ¦2168]
          أجمع العلماء على أنَّه مَنِ اشترط في البيع شروطًا لا تحلُّ أنَّه لا يجوز شيءٌ منها لقوله ◙: (مَنِ اشتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ في كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ).
          واختلفوا في غيرها مِنَ الشُّروط في البيع على مذاهبَ مختلفةٍ، فذهبت طائفةٌ إلى أنَّ البيع جائزٌ والشَّرط باطلٌ على نصِّ حديث بَرِيْرَةَ وهو قول ابنِ أبي ليلى والحَسَنِ البَصْرِيِّ والشَّعْبِيِّ والنَّخَعِيِّ والحَكَمِ، وبه قالَ أبو ثَوْرٍ، قالوا: ودلَّ هذا الحديث أنَّ الشُّروط كلَّها في البيوع(2) تبطل وتثبت البيوع.
          وذهبت طائفةٌ إلى أنَّ البيع(3) والشَّرط جائزٌ، واحتجُّوا بحديث جابرٍ: ((أَنَّ النَّبيَّ صلعم اشتَرَى مِنْهُ جَمَلًا وَشَرَطَ رُكُوْبَهُ إِلَى المَدِيْنَةِ)) رُوِيَ ذلك عن ابنِ شُبْرُمَةَ وبعض التَّابعين.
          وذهبت طائفةٌ إلى أنَّ البيع باطلٌ والشَّرط باطلٌ، واحتجُّوا بحديث عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ عن أبيه عن جَدِّهِ: ((أَنَّ النَّبيَّ صلعم نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ)) وهو قول الكوفيِّين والشَّافعيِّ، فحملوا هذه الأحاديث الَّتي نزعوا بها على العموم، ولكلِّ واحدٍ منها موضعٌ(4) لا يتعدَّاه، ولها عند مالكٍ أحكامٌ مختلفةٌ، وقد يجوز عنده البيع والشَّرط في مواضع فأمَّا إجازته للبيع والشَّرط، فمثل أن يشترط(5) المشتري على البائع(6) شيئًا مما في ملك البائع مما لم يدخل في صفقة البيع، وذلك أن يشتري منه زرعًا ويشترط على البائع حصاده، أو يشتري منه دارًا ويشترط البائع سكناها مدَّةً يسيرةً، أو يشترط ركوب الدَّابَّة يومًا أو يومين، وقد رُوِيَ عنه أنَّه لا بأس أن يشترط سكنى الدَّار الأشهر والسَّنة. ووجه إجازته لذلك أنَّ البيع وقع على الشَّيئين معًا على الزَّرع وعلى الحصاد، والحصاد إجارةٌ، والإجارة بيع منفعةٍ، وكذلك وقع البيع على الدَّار غير سكنى المدَّة، و على الدَّابَّة غير الرُّكوب، وأبو حنيفةَ والشَّافعيُّ لا يجيزان هذا البيع كلَّه لأنَّه عندهم بيعٌ وإجارةٌ(7) ولا يجوز لأنَّ(8) الإجارة عندهم بيع منافع طارئةٍ في ملك البائع لم تخلق بعد، وهو من باب بيعتين(9) في / بيعةٍ، ومما أجاز فيه مالكٌ(10) البيع والشَّرط شراء(11) العبد على أن يُعتق اتَّباعًا للسُّنَّة في بَرِيْرَةَ، وهو قول اللَّيْثِ، وبه قال الشَّافعيُّ في رواية الرَّبِيْعِ، ولم يقس عليه غيره مِنْ أجل نهيه ◙ عن بيعٍ وشرطٍ، وأجاز ابنُ أبي ليلى هذا البيع وأبطل الشَّرط، وبه قال أبو ثَوْرٍ.
          وأبطل أبو حنيفةَ البيع والشَّرط، وأخذ بعموم نهيه ◙ عن بيعٍ وشرطٍ، إلَّا أنَّ أبا حنيفةَ يقول: إنَّ المبتاع إذا أعتقه كان مضمونًا عليه بالثَّمن، وهذا(12) خلاف أصوله لأنَّه كان ينبغي أن يكون مضمونًا عليه بالقيمة، كما قال وقلنا في البيع الفاسد، ومضى أبو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ على القياس فقالا: يكون مضمونًا عليه بالقيمة.
          قالَ ابنُ المُنْذِرِ: وما قالوه خطأٌ لأنَّ البيع إن كان غير جائزٍ والعبد في ملك البائع لم يزل ملكه عنه، وعتق المشتري له باطلٌ لأنَّه أعتق ما لا(13) يملك.
          وممَّا أجاز فيه مالكٌ البيع وأبطل الشَّرط، وذلك شراء العبد على أن يكون الولاء للبائع، وهذا البيع أجمعت الأمَّة على جوازه، وإبطال(14) الشَّرط فيه لمخالفته السُّنَّة في أنَّ الولاء لمَنْ أعتق، وأنَّ النَّبيَّ صلعم أجاز هذا البيع وأبطل الشَّرط، وكذلك من باع سلعةً وشرط أنَّه إن لم ينفذه المشتري إلى ثلاثة أيامٍ أو نحوها مما يرى أنَّه لا يريد تحويل الأسواق والمخاطرة، فالبيع جائزٌ والشَّرط باطلٌ عند مالكٍ.
          وأجاز ابنُ المَاجَشُونِ البيع والشَّرط وحملَه محمل بيع الخيار إلى وقتٍ مسمَّى، فإذا جاز الوقت فلا خيار له، وممَّنْ أجاز هذا البيع والشَّرط الثَّوْرِيُّ ومُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ وأحمدُ وإِسْحَاقُ، ولم يفرِّقوا بين ثلاثة أيامٍ وأكثر(15) منها، وأجاز أبو حنيفةَ البيع والشَّرط إلى ثلاثة أيامٍ، فإن(16) قال: إلى أربعة أيامٍ بطل البيع عنده(17) لأنَّ الخيار لا يجوز عنده اشتراطه أكثر مِنْ ثلاثةِ أيَّامٍ(18)، وبه قالَ أبو ثَوْرٍ.
          وممَّا يبطل فيه عند مالكٍ البيع والشَّرط، وذلك مثل أن يبيعه جاريةً على ألَّا يبيعها ولا يهبها وعلى(19) أن يتخذها أمَّ ولدٍ، فالبيع عنده فاسدٌ، وهو قول أبي حنيفةَ والشَّافعيِّ، واعتلُّوا في فساد البيع بفساد الشَّرط فيه، وذلك عدم تصرُّف المشتري في المبيع، وكما لا يجوز عند الجميع أن يشترط المبتاع على البائع عدم التَّصرُّف في الثَّمن، فكذلك لا يجوز أن يشترط البائع على المبتاع عدم التَّصرُّف فيما اشتراه، وهذا عندهم معنى نهيه ◙ عن بيعٍ وشرطٍ.
          وأجازتْ طائفةٌ هذا البيع وأبطلت الشَّرط، هذا قول النَّخَعِيِّ والشَّعْبِيِّ والحَسَنِ وابنِ أبي ليلى(20) وبه قالَ أبو ثَوْرٍ، وقال حمادٌ والكوفيُّون(21): البيع جائزٌ والشَّرط لازمٌ.
          قالَ ابنُ المُنْذِرِ: وقد أبطل النَّبيُّ صلعم ما اشترطه أهل بَرِيْرَةَ مِنَ الولاء وأثبت البيع، ومثال(22) هذا أنَّ كلَّ مَنِ اشترط في المبيع شرطًا(23) خلاف كتاب الله سبحانه وسنَّة رَسُولِ اللهِ(24) صلعم أنَّ الشَّرط باطلٌ والبيع ثابتٌ استدلالًا بحديث بَرِيْرَةَ، واشتراطُ البائع على المشتري ألَّا يبيع ولا يهب ولا يطأ، شروطٌ(25) ينبغي إبطالها وإثبات البيع لأنَّ الله تعالى أحلَّ وطء ما ملكت اليمين، وأحلَّ للنَّاس أن يبيعوا أملاكهم ويهبوها، فإذا اشترط البائع(26) شيئًا مِنْ هذه الشُّروط خلاف(27) كتاب الله، فهو(28) مثل اشتراط موالي بَرِيْرَةَ ولاءها لهم، فأجاز ◙(29) ذلك البيع(30) وأبطل الشَّرط، فكذلك ما كان مثله.
          وممَّا يبطل فيه عند مالكٍ والكوفيِّين والشَّافعيِّ البيع والشَّرط: بيع الأَمَةِ والنَّاقة واستثناء ما في بطنها، وهو عندهم مِنْ بيوع الغرر لأنَّه لا يُعلم مقدار ما يصلح أن يحطَّ مِنْ ثمنها قيمة الجنين، وقد أجاز هذا البيع والشَّرط النَّخَعِيُّ والحَسَنُ، وبه قال أحمدُ وإِسْحَاقُ وأبو ثَوْرٍ، واحتجُّوا بأنَّ ابنَ عُمَرَ أعتق جاريةً واستثنى ما في بطنها.
          قالَ ابنُ المُنْذِرِ: وهذا البيع معلومٌ، ولا يضرُّهما أن يجهلا ما لم يدخل في البيع، ولا أعلمُهم يختلفون أنَّه يجوز بيع جاريةٍ وقد(31) أعتق ما في بطنها، / ولا فرق بين ذلك لأنَّ المبيع في المسألتين جميعًا الجارية دون الولد.
          قالَ المُهَلَّبُ: وحديثُ بَرِيْرَةَ أصلٌ في العقوبة في الأموال لأنَّ مواليها أَبَوا الوقوف عند حكم الله وحكم السُّنَّة، فلما عرَّفت عائشةُ النَّبيَّ صلعم بإبائهم واستمرارهم(32) على خلاف الحقِّ باشتراطهم ما لا يجوز قال لها: ((اشتَرِطِي لَهُمْ ذَلِكَ)) فإنَّ ذلك غير نافعهم، ولا ناقضٌ لبيعهم(33) فعاقبهم في المال بتخسيرهم(34) ما وضعوا مِنَ الثَّمن مِنْ أجل اشتراط الولاء واستبقائه لهم، ولم يعطهم قيمته عقوبةً لهم.
          قالَ أبو عبدِ اللهِ: فلو وقع اليوم مثل هذا وباع رجلٌ جاريةً على أن يتَّخذها المشتري أمَّ ولدٍ وعلى(35) ألَّا يبيعها ولا يهبها ثبت البيع ورجع البائع بقيمة ما وضع.


[1] في (ز): ((اشترط)).
[2] في (ص): ((البيع)).
[3] زاد في (ز): ((جائز)).
[4] في (ز): ((موضع)).
[5] في (ز): ((يشرط)).
[6] قوله: ((المشتري على البائع)) ليس في (ص).
[7] في (ص): ((إجارة)).
[8] في (ز): ((أنَّ)).
[9] في (ص): ((بيعين)).
[10] في (ز): ((مالك فيه)).
[11] في (ز): ((اشتراء)).
[12] في (ز): ((وهو)).
[13] في (ز): ((لم)).
[14] في (ص): ((وأبطل)).
[15] في المطبوع: ((أو أكثر))، وفي (ز): ((فأكثر)).
[16] في (ز): ((وإن)).
[17] قوله: ((عنده)) ليس في (ص).
[18] في (ز): ((من ثلاث)).
[19] في (ص): ((أو على)).
[20] في (ص): ((ثور)).
[21] في (ز): ((والكوفيُّ))، وفي (ص): ((والكوفيِّين)).
[22] في (ز): ((فمثال)).
[23] في (ز): ((من اشترط في العبد المبيع شرطًا)).
[24] في (ز): ((رسول الله)). في (ز): ((رسوله)).
[25] في (ص): ((ولا يهب شروطًا)).
[26] قوله: ((البائع)) ليس في (ص).
[27] في (ز): ((هذه فقد اشترط خلاف)).
[28] في (ز): ((وهو)).
[29] زاد في (ز): ((مع)).
[30] في (ص): ((المبيع)).
[31] في (ز): ((قد)).
[32] في (ز) صورتها: ((بآياتيهم وأقسم أنَّهم)).
[33] في (ز): ((ولا ناقض لحكم الله تعالى)).
[34] في (ص): ((بتخسير)).
[35] في (ص): ((أو على)).