شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما جاء في قول الله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في}

          ░1▒ بَابُ(1) مَا جَاءَ في قَوْلِ اللهِ ╡: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ}[الجمعة:10]إلى آخِرِ السُّورَةِ(2).
          وَقَوْلِهِ تعالى: {لَا(3) تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}[النِّساء:29]
          فيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ: (قَالَ: إِنَّكُمْ تَقُولُونَ(4): إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الحَدِيثَ(5) عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم، وَتَقُولُونَ: مَا بَالُ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ لا يُحَدِّثُونَ(6) عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم بِمِثْلِ حَدِيثِ أبي هُرَيْرَةَ؟ وإِنَّ(7) إِخْوَانِي مِنَ المُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ صَفْقٌ بِالأَسْوَاقِ، وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ صلعم على مِلْءِ بَطْنِي، فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا، وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا، وَقَدْ قَالَ النَّبيُّ صلعم: إِنَّهُ أنْ(8) يَبْسُطَ أَحَدٌ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي هَذِهِ، ثُمَّ يَجْمَعَ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ إِلا وَعَى مَا أَقُولُ، فَبَسَطْتُ نَمِرَةً عَلَيَّ حَتَّى إِذَا قَضَى رَسُولُ اللهِ صلعم مَقَالَتَهُ جَمَعْتُهَا إلى صَدْرِي، فَمَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَةِ رَسُولِ اللهِ صلعم تِلْكَ مِنْ(9) شَيْءٍ). [خ¦2047]
          وفيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ(10): (لَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ آخَى رَسُولُ اللهِ(11) صلعم بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ سَعْدُ بنُ الرَّبِيْعِ(12): إِنِّي لَأَكْثَرُ(13) الأنْصَارِ مَالًا، فَأَقْسِمُ لَكَ نِصْفَ مَالِي، وَانْظُرْ أيَّ زَوْجَتَيَّ هَوِيتَ نَزَلْتُ(14) لَكَ عَنْهَا، فَإِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا، فَقَالَ لَهُ(15) عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لا حَاجَةَ لِي في ذَلِكَ، هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ؟ قَالَ: سُوقُ قَيْنُقَاعٍ، قَالَ:(16) فَغَدَا إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحمنِ(17) فَأَتَى(18) بِأَقِطٍ وَسَمْنٍ) الحديثَ. [خ¦2048]
          وفيهِ ابنُ عَبَّاسٍ كَانَتْ عُكَاظٌ وَمَجَنَّةُ وَذُو المَجَازِ أَسْوَاقًا في الجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاء الإِسْلامُ كَأَنَّهُمْ تَأَثَّمُوا فِيهِ، فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}[البقرة:198]في مَوَاسِمِ الحَجِّ. [خ¦2050]
          قال المُؤَلِّفُ: أباح الله تعالى التِّجارة في كتابه وأمر بالابتغاء مِنْ فضله، وكان أفاضل الصَّحابة يتَّجرون ويتحرَّفون في طلب المعاش، وقد نهى العلماء والحكماء عن أن يكون الرُّجل لا حرفة له ولا صناعة خشية أن يحتاج إلى النَّاس فيذلَّ لهم، وقد رُوِيَ(19) عن لُقْمَانَ أنَّه قال لابنه: يا بُنَيَّ، خذ مِنَ الدُّنيا بلاغك، وأنفق مِنْ كسبك(20) لآخرتك، ولا ترفض الدُّنيا كلَّ الرَّفض فتكون عيالًا وعلى أعناق الرِّجال كلًّا.
          ورُوِيَ عن حَمَّادِ بنِ زَيْدٍ أنَّه قال: كنت عند الأوزاعيِّ فحدَّثه شيخٌ كان عنده، أنَّ عِيسَى ابنَ مريمَ ◙(21) قال: إنَّ اللهَ يحبُّ العبدَ يَتَعَلَّمُ المهنةَ يستغني بها عَنِ النَّاسِ، وإنَّ اللهَ تعالى يبغضُ العبدَ يَتَعَلَّمُ العلمَ يتَّخذه مهنةً.
          وقال أبو قِلَابَةَ لأَيَّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ: إنِّي(22) يا أَيُّوبُ ألزم السُّوق فإنَّ الغنى مِنَ العافية.
          قال المُهَلَّبُ: وفي حديث عبد الرَّحمن مِنَ الفقه: أنَّه لا بأس للشَّريف أن يتصرَّف في السُّوق في البيع والشِّراء(23)، ويتعفَّف بذلك عمَّا يُبذل له من المال وغيره.
          وفيه: الأخذ بالشِّدَّة(24) على نفسه / في أمرِ معاشه، وأنَّ العيش مِنَ الصِّناعات أولى بنزاهة الأخلاق مِنَ العيش مِنَ الهبات والصَّدقات وشبهها.
          وفيه: بركة التِّجارة، وفيه: المؤاخاة في الإسلام على(25) التَّعاون في أمر الله، وبذل المال لمَنْ يؤاخي عليه، وفيه معانٍ(26) ستأتي في كتاب النِّكاح إن شاء الله [خ¦5072].
          وفي(27) حديث أبي هريرةَ: الحرص على التَّعَلُّمِ(28) وإيثار طلبه على طلب المال.
          وفيه: فضيلةٌ لأبي هريرةَ وهي(29) أنَّ النَّبيَّ صلعم خصَّه بأن يبسط(30) له رداءه، وقال: ضمَّه، فما نسي مِنْ مقالة النَّبيِّ صلعم تلك مِنْ شيءٍ، وقد تقدَّم في كتاب العلم [خ¦119].
          وأمَّا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ(31)}[النِّساء:29]فإنَّ إِسْمَاعِيْلَ بن إِسْحَاقَ(32) قال: كلُّ شيءٍ حرَّمه الله مِنَ القمار ومِنَ البيوع الفاسدة فهو(33) مِنْ أكل المال بالباطل، لأنَّ المقامر يقول لصاحبه: إن كان كذا فلي كذا، وإن لم يكن فلك كذا، وكذلك(34) البيع الفاسد مِنَ الغرر لأنَّه يبيع صاحبه البيع الَّذي فيه غررٌ، فإن سلم غلبه(35) المشتري، وإن لم يسلم غلبه(36) البائع.
          وأمَّا الرِّبا فليس فساده من وجه القمار والغرر، ولكنَّه أخذ من صاحبه عوضًا للتَّأخير الَّذي لم يجعله(37) الله له ثمنًا، والقرض الَّذي يجرُّ منفعةً، وما أشبه ذلك.
          وقوله: (مِنْ مَسَاكِيْنِ الصُّفَّةِ) فإنَّ العرب(38) تقول: صففت البيت وأصففته: جعلت له صفَّةً، وهي السَّقيفة أمامه، وأصحاب الصُّفَّة: الملازمون لمسجد النَّبيِّ صلعم.
          وقوله: (فَبَسَطْتُ(39) نَمِرَةً) النَّمرة ثوب مخملٍ مِنْ وبرٍ أو صوفٍ.


[1] قوله: ((باب)) ليس في (ص).
[2] في (ز): (({فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وابتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ} الآية))، وزاد أيضًا في (ز): (({وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ})).
[3] في (ز): ((وقوله تبارك وتعالى: {وَلَا})).
[4] في (ص): ((لتقولون)).
[5] قوله: ((يكثر الحديث)) ليس في (ص).
[6] في (ص): ((لا يتحدَّثون)).
[7] في (ز): ((إنَّ)).
[8] في (ز): ((ذو مجاز)).
[9] قوله: ((من)) ليس في (ص).
[10] قوله: ((ابن عوف)) ليس في (ز).
[11] في (ز): ((النَّبيُّ)).
[12] قوله: ((ابن الرَّبيع)) ليس في (ز).
[13] في (ز): ((أكثر)).
[14] في (ز): ((أنزل)).
[15] قوله: ((له)) ليس في (ز).
[16] قوله: ((قال)) ليس في (ز).
[17] قوله: ((عبد الرَّحمن)) ليس في (ص).
[18] في (ص): ((فأُتي)) مضبوطًا.
[19] في (ز): ((لهم, وروي)).
[20] في (ز): ((أنفق فضول كسبك)).
[21] في (ز): ((ابن مريم صلَّى الله على نبيِّنا وعليه)).
[22] قوله: ((إنِّي)) ليس في (ص).
[23] في (ص): ((والشِّرى)).
[24] في (ز): ((بشدَّة)).
[25] العبارة في (ص): ((وفيه: الأخذ بالشِّدَّة على نفسه في المسجد الحرام وهو ينظر في تلك الأراضي والبقاع الَّتي ليس من العيش من الهبات والصَّدقات وشبهها، لذلك المكان وقوله اتَّفقوا على)).
[26] في (ص): ((معان)) مطموسة.
[27] في (ص): ((في)).
[28] في (ز): ((العلم)).
[29] في (ص): ((وفيه)).
[30] في (ز): ((بسط)).
[31] قوله: ((منكم)) ليس في (ز).
[32] قوله: ((فإنَّ إسماعيل بن إسحاق)) ليس في (ص).
[33] في (ص): ((فهي)).
[34] في (ز): ((وكذا)).
[35] في (ز): ((عينه)).
[36] في (ز): ((عينه)).
[37] في (ز): ((يجعل)).
[38] في (ز): ((فالعرب)).
[39] قوله: ((فبسطت)) ليس في (ص).