شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب بيع ما ليس عندك

          ░54▒ [بَابُ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ
          فيهِ مَالِكُ بنُ أَوْسٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ عِنْدَهُ صَرْفٌ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنَا، حَتَّى يَجِيءَ خَازِنُنَا مِنَ الغَابَةِ، فقَالَ عُمَرُ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالبُرُّ بِالبُرِّ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ(1)، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ). [خ¦2134] /
          قال المؤلِّف: لا يجوز بيع ما ليس عندك، ولا في ملكك وضمانك مِنَ الأعيان المكيلة والموزونة والعروض كلِّها، لنهي رسول الله صلعم عن ذلك.
          ورُوِيَ النَّهي عن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن عن النَّبيِّ صلعم مِنْ حديث عَمْرِو بنِ(2) شُعَيْبٍ عن أبيه عن جدِّه، ومِنْ حديث حَكِيْمِ بنِ حِزَامٍ، ولم يكن إسناده مِنْ شرط البخاريِّ، فاستنبط معناه مِنْ حديث مالكِ بنِ أوسٍ، وذلك أنَّه يدخل في(3) باب بيع ما ليس عندك بالمعنى ما يكون في ملكك غائبًا مِنَ الذَّهب والفضَّة، لا يجوز بيع غائبٍ منها بناجزٍ، وكذلك البُرُّ والتَّمر والشَّعير لا يُباع شيءٌ منها بجنسه ولا بطعام ٍمخالفٍ لجنسه إلَّا يدًا بيدٍ، وكذلك ما كان في معناها مِنْ سائر أنواع الطَّعام، لا يُباع منها طعامٌ بطعامٍ إلَّا يدًا بيدٍ، لقوله ◙: (إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ)، يعني خُذْ وأعطِ حياطةً مِنَ الله تعالى لأصول الأموال وحرزًا لها، إلَّا ما خصَّت السُّنَّة بالجواز مِنْ بيع ما ليس عندك، ومِنْ ربح ما لم يضمن وهو السَّلم، فجوَّزت فيه بيع ما ليس عندك ممَّا يكون في الذِّمة مِنْ غير الأعيان، توسعةً مِنَ الله تعالى لعباده ورفقًا بهم.
          قال ابن المُنْذِرِ: وبيع ما ليس عندك يحتمل معنيين: يحتمل أن يقول: أبيعك عبدًا لي أو دارًا مغيَّبةً عنَّي في وقت البيع، فلعلَّ الدَّار أن تتلف أو لا يرضاها، وهذا يشبه بيع الغرر، ويحتمل أن يقول: أبيعك هذه الدَّار بكذا على أن أشتريها لك مِنْ صاحبها، أو على أن يُسلِّمها لك صاحبها، وهذا مفسوخٌ على كلِّ حالٍ، لأنَّه غررٌ، إذ قد يجوز أن لا يقدر على تلك السِّلعة، أو لا يُسلِّمها إليه مالكها، وهذا أصحُّ القولين عندي، لأنَّي لا أعلمهم يختلفون أنَّه يجوز أن أبيع جاريةً رآها(4) المشتري ثمَّ غابت عنِّي وتوارت بجدارٍ وعقدنا البيع ثمَّ عادت إليَّ، فإذا أجاز الجميع هذا البيع لم يكن فرقٌ بين أن تغيب عنِّي بجدارٍ أو تكون بيني وبينها مسافةٌ وقت عقد البيع.
          قال(5) غيره: ومِنْ بيع ما ليس عندك العينة، وهي ذريعةٌ إلى دراهم بدراهمٍ أكثر منها إلى أجلٍ، كأنَّ رجلًا سأل رجلًا أن يسلفه دراهم بدراهمٍ أكثر منها، فقال له: هذا لا يحلُّ، ولكن أبيعك في الدَّراهم الَّتي سألتني سلعة كذا ليست عندي، أبتاعها لك فبكم تشتريها منِّي؟ فيوافقه على الثَّمن ثمَّ(6) يبتاعها ويُسلِّمها إليه، فهذه العينة المكروهة، وهي بيع ما ليس عندك وبيع ما لم تقبضه، فإن وقع هذا البيع فُسِخَ عند مالكٍ في مشهور مذهبه وعند جماعة العلماء، وقيل للبائع: إن أعطيت السِّلعة لمبتاعها منك بما اشتريتها جاز ذلك، وكأنَّك إنَّما أسلفته الثَّمن الَّذي ابتاعها به.
          وقد رُوِيَ عن مالكٍ أنَّه لا يفسخ البيع، لأنَّ المأمور كان ضامنًا للسِّلعة لو هلكت.
          قال ابن القَاسِمِ: وأحبُّ إليَّ لو تورَّع عن أخذ ما ازداده عليه، وقال عِيسَى بنُ دينارٍ: ويفسخ(7) البيع إلَّا أن تفوت السِّلعة، فتكون فيها القيمة، وعلى هذا سائر العلماء بالحجاز والعراق]
(8).


[1] زاد في المطبوع: ((رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ)).
[2] قوله: ((ابن)) ليس في (ز).
[3] في المطبوع: ((من)).
[4] في (ز) صورتها: ((قلبها)).
[5] في المطبوع: ((وقال)).
[6] قوله: ((ثمَّ)) ليس في المطبوع.
[7] في المطبوع: ((بل يفسخ)).
[8] ما بين معقوفتين غير واضح في (ص) بسبب الطَّمس.