شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يكره من الخداع في البيع

          ░48▒ بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الخِدَاعِ في البَيْعِ
          فيهِ ابنُ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلًا ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صلعم أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي البُيُوعِ، فَقَالَ: (إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ). [خ¦2117]
          قال المُهَلَّبُ: قوله: (فَقُلْ: لَا خِلَابَة) أي لا تخلبوني فإنَّه لا يحلُّ، فإن اطَّلعت على عيبٍ رجعت به، وفي كتاب «العين»: الخلابة: المخادعة، ورجلٌ خلوبٌ وخلبوبٌ: خَدَّاعٌ.
          وقال غيره: هذا الرَّجل المذكور في الحديث مُنْقِذُ بنُ عَمْرٍو الأنصاريُّ جدُّ وَاسِعِ بنِ حَبَّانٍ، روى ذلك(1) ابن عُيَيْنَةَ عن مُحَمَّدِ بنِ إِسْحَاقَ عن نافعٍ عن ابنِ عُمَرَ: أنَّ مُنْقِذًا ضُرِبَ في رَأْسِهِ مأمومةً في الجاهليَّةِ فَحَبَّلَتْ لِسَانَهُ، وكانَ(2) يُخدَعُ في البيوعِ، فقالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلعم: ((بِعْ وَقُلْ: لَا خِلَابَةَ، وَأَنْتَ بِالخَيَارِ ثَلَاثًا))، قال ابنُ عُمَرَ: فسمعته يقول إذا بايع: لَا خِلَابَةَ لَا خِلَابَةَ(3)، وقيل: إنَّ حَبَّان بنَ مُنْقِذٍ هو الَّذي كان يُخدَعُ، وفيه جاء الحديث، والأوَّلُ أصحُّ.
          واختلف الفقهاء فيمَنْ باع بيعًا غبن فيه غبنًا لا يتغابن النَّاس بمثله، فقال مالكٌ: إن كانا عارفين بتلك السِّلعة، وبأسعارها(4) وقت البيع لم يُفسخ البيع كثيرًا كان الغبن أو قليلًا، وإن كانا أو أحدهما غير عارفٍ بتقلُّب السِّعر وبتغيُّره(5) وتفاوت الغبن، فُسِخَ البيع، إلَّا أن يريد أن يمضيه.
          ومِنْ أصحاب مالكٍ مَن اعتبر مقدار ثلث قيمة(6) السِّلعة، ولم يحدَّ مالكٌ في ذلك حدًّا، ومذهبه إذا خرج عن تغابن النَّاس في مثل تلك السِّلعة أنَّه يُفسخ، وبهذا قال أبو ثَوْرٍ.
          وقال أبو حنيفةَ والشَّافعيُّ: ليس له أن يفسخ في الغبن الكثير، كما لا يفسخ في القليل، وقد قال(7) ابن القَاسِمِ في «العُتْبِيَّة»: إنَّه لا يفسخ في الغبن الكثير، واحتجَّ الكوفيُّون فقالوا(8): إنَّ حَبَّانَ بنَ مُنْقِذٍ أصابته آفةٌ في رأسه فكان يُخدع في البيوع، فقال له النَّبيُّ صلعم: / ((إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ، وَلَكَ الخَيَارُ ثَلَاثًا)) قالوا: فموضع الدَّليل منه هو أنَّه كان يُخدع في البيع، ومَنْ كان يُخدع في عقله(9) بضعفٍ(10) يلحقه الغبن في عقوده، فجعل له النَّبيُّ صلعم الخيار لما يلحقه مِنْ ذلك، فلو كان الغبن شيئًا يملكه به فُسخ العقد لما احتاج إلى شرط الخيار مع استغنائه عنه، وقال مالكٌ: هذه الحجَّة لنا، لأنَّه ◙ قال له: لك الخيار، ولم يقل له: اشترط الخيار، وإنَّما قال له(11): (لَا خِلَابَةَ) أي لا خديعة، فلو كان الغبن(12) مباحًا لم يكن لقوله: (لَا خِلَابَةَ معنًى)، ولم ينفعه(13) ذلك، فلمَّا كان ذلك ينفعه جعل له النَّبيُّ صلعم الخيار بعد ذلك لينظر فيما باعه، ويسأل عن سعره، ويرى رأيه في ذلك(14) وإنَّما جعل ذلك في حَبَّانَ ليعلِّمنا الحكم في مثله، وإنَّما تُعرف الأحكام بما بيَّنه(15) ◙، فبيَّن ◙ حكم مَنْ يُغبن في بيعه إذا لم يكن عارفًا بما يبيعه، ودليلٌ آخر وهو قوله ◙: ((لَا تَلَقَّوا الرُّكبَانَ للبَيعِ، فَمَنْ تَلَقَّاهَا فَهُوَ بِالخَيَارِ إِذَا دَخَلَ السَّوقَ)).
          وإنَّما جُعل له الخيار في ذلك لأجل الغبن الَّذي يلحقه، لأنَّه لم يدخل السُّوق، ولا عرف سعر ما باع، ومَنْ يَتَلَقَّاهُ فإنَّما يقصد الغبن والاسترخاص، فعُلم بهذا أنَّ الغبن يوجب الخيار، وأيضًا فإنَّه لو ابتاع سلعةً فوجد بها عيبًا كان له الخيار في الرَّدِّ، لأجل النَّقص الموجود بها، فلا فرق بين أن يجد النَّقص بالسِّلعة أو بالثَّمن، لأنَّه في كلا الموضعين قد وجد النَّقص الَّذي يخرج به عن القصد.
          فإن قيل: يلزمكم(16) أن تفسدوا البيع وإن كان غبنًا يسيرًا.
          قيل: البيع لا يخلوا(17) من الغبن اليسير، لأنَّ كل واحد منهما يقصد الاسترخاص، فأُجيز على حسب تعارفهم به(18) فإذا خرج عن عرفهم ثبت فيه الخيار، ذكر هذا كلُّه ابنُ القَصَّارِ.
          وذكر ابنُ حَبِيْبٍ قال: سُئِلَ مالكٌ عن رجلٍ جاهلٍ باع حجرًا أو دُرَّةً(19) بدرهمين، فألفاه المشتري ياقوتةً، فلم يرَ فيه رجوعًا، لأنَّ الغلط ماضٍ على البائع والمبتاع في البيع على المساومة، وإنَّما يردُّ في البيع على المرابحة، إلَّا أن يبيعه بائعه على أنَّه زجاجٌ، فألفاه المشتري ياقوتةً(20) فإنَّه يردُّ البيع، وكذلك لو باعه على أنَّه ياقوتٌ فألفاه المشتري زجاجًا يردُّه أيضًا.


[1] في (ص): ((روي ذلك عن)).
[2] في (ز): ((فكان)).
[3] في (ص): ((لا خلابة)) لم يتكرَّر.
[4] زاد في (ز): ((في)).
[5] في (ز): ((وبتغييره)).
[6] قوله: ((قيمة)) ليس في (ص).
[7] في (ص): ((قاله)).
[8] قوله: ((فقالوا)) ليس في (ص).
[9] في (ز): ((عقله)) غير واضحة.
[10] في (ز): ((ضعف)).
[11] زاد في المطبوع: ((قل)).
[12] قوله: ((شيئًا يملكه به... فلو كان الغبن)) ليس في (ز).
[13] زاد في (ز): ((الخيار، وإنَّما قال)).
[14] في (ز): ((رأيه فيه)).
[15] في (ز): ((سنَّه)).
[16] في (ز): ((فيلزمكم)).
[17] في (ز): ((البيِّعان لا يخلوا)).
[18] في (ص): ((فيه)).
[19] في (ز): ((حجرًا وحدَّه)).
[20] في (ز): ((ياقوتًا)).