شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا اشترى شيئًا فوهب من ساعته قبل أن يتفرقا ولم ينكر

          ░47▒ بَابٌ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا فَوَهَبَ(1) مِنْ سَاعَتِهِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ(2) وَلَمْ يُنْكِرِ البَائِعُ عَلَى المُشْتَرِي أَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ.
          وَقَالَ طَاوُسٌ فِيمَنْ يَشْتَرِي(3) السِّلْعَةَ عَلَى الرِّضَا ثُمَّ بَاعَهَا: وَجَبَتْ لَهُ والرِّبْحُ لَهُ(4).
          فيهِ ابنُ عُمَرَ: (كُنْتُ مَعَ النَّبيِّ صلعم فِي سَفَرٍ، فَكُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ لِعُمَرَ، فَكَانَ يَغْلِبُنِي فَيَتَقَدَّمُ أَمَامَ القَوْمِ، فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ ويَرُدُّهُ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ، فَقَالَ(5) النَّبيُّ صلعم لِعُمَرَ: بِعْنِيهِ، قَالَ(6): هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ(7): بِعْنِيهِ، فَبَاعَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ، وَقَالَ الرَّسُولُ هُوَ(8) لَكَ يَا عَبْدَ اللهِ بنَ عُمَرَ، تَصْنَعُ بِهِ مَا شِئْتَ). [خ¦2115]
          وفيهِ ابنُ عُمَرَ قَالَ(9): بِعْتُ مِنْ(10) أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ مَالًا بِالوَادِي(11) بِمَالٍ لَهُ بِخَيْبَرَ، فَلَمَّا تَبَايَعْنَا، رَجَعْتُ عَلَى عَقِبِي حَتَّى خَرَجْتُ مِنْ بَيْتِهِ، خَشْيَةَ أَنْ يُرَادَّنِي البَيْعَ، وَكَانَتِ السُّنَّةُ أَنَّ المُتَبَايِعَيْنِ بِالخِيَارِ حَتَّى(12) يَتَفَرَّقَا، قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَلَمَّا وَجَبَ بَيْعِي وَبَيْعُهُ رَأَيْتُ بأَنِّي قَدْ غَبَنْتُهُ بِأَنْ سُقْتُهُ إِلَى أَرْضِ ثَمُودَ بِثَلاثِ لَيَالٍ، وَسَاقَنِي إِلَى المَدِينَةِ بِثَلاثِ لَيَالٍ. [خ¦2116]
          هذا الباب حُجَّةٌ لمَنْ يقول الافتراق بالكلام في قوله ◙: ((البَيِّعَانِ بِالخَيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا(13)))، وحديث(14) عُمَرَ بَيِّنٌ في ذلك، ألا ترى أنَّ النَّبيَّ صلعم وهب الجمل مِنْ ساعته لابنِ عُمَرَ قبل التَّفرُّق مِنْ عُمَرَ، ولو لم يكن الجمل للنَّبيِّ صلعم، لما(15) جاز له أن يهبه لابنِ عُمَرَ حتَّى يجب له بافتراق الأبدان، وأمَّا حديث ابن عُمَرَ في مبايعته لعُثْمَانَ، فقد احتجَّ به مَنْ قال: أنَّ(16) الافتراق بالأبدان، واحتجَّ به مَنْ قال: إنَّ الافتراق بالكلام، وكان مِنْ حجَّة الَّذين جعلوا الافتراق بالكلام أن قالوا: لو كان معنى الحديث التَّفرُّق بالأبدان، لكان المراد به الحضُّ والنَّدب إلى حسن المعاملة مِنَ المسلم للمسلم، وألَّا يفترسه في البيع على(17) استخباره عن الدِّاء(18) والغائلة، وقد قال ◙: ((مَنْ أَقَالَ نَادِمًا(19) أَقَالَ(20) اللهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ)) مِنْ حديث أبي هريرةَ، ألا ترى قول ابن عُمَرَ: وكانت السُّنَّة أنَّ المتبايعين بالخيار ما لم يفترقا(21)، فحكى(22) ابن عُمَرَ أنَّ النَّاس كانوا يلتزمون حينئذٍ النَّدب لأنَّه كان زمن(23) مكارمه(24)، وأنَّ الوقت الَّذي حدَّث ابن عُمَرَ هذا(25) الحديث كان التَّفرُّق بالأبدان متروكًا، ولو كان التَّفرُّق بالأبدان على الوجوب ما قال ابن عُمَرَ: وكانت السُّنَّة بل كان يقول: وكانت السُّنَّة، ويكون أبدًا(26). فلذلك جاز أن يرجع على عقبيه(27) لأنَّه فهم أنَّ المراد بالحديث الحضُّ والنَّدب، لا سيِّما وهو الَّذي حضر فعل النَّبيِّ صلعم في هبته البكر له بحضرة البائع قبل التَّفرُّق.
          وقال الطَّحَاوِيُّ: يحتمل قول(28) ابن عُمَرَ الوجهين جميعًا، فنظرنا في ذلك فروينا عنه ما يدلُّ أنَّ رأيه كان في الفرقة بخلاف ما ذهب إليه مَنْ قال: إنَّ البيع لا يتمُّ إلَّا بها، وهو ما حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ شُعَيْبٍ حدَّثنا بِشْرُ بنُ بَكْرٍ حدَّثنا الأوزاعيُّ قال(29) حدَّثني الزُّهْرِيُّ عن حمزةَ بنِ عبدِ اللهِ أنَّ ابنَ عُمَرَ قال: ما أدركت(30) الصَّفقة حيًّا فهو مِنْ مال المبتاع. قال ابن المُنْذِرِ: يعني في السِّلعة تتلف عند البائع قبل أن يقبضها المشتري بعد تمام البيع. قال ابن المُنْذِرِ: هي(31) مِنْ مال المشتري لأنَّه لو كان عبدًا فأعتقه المشتري كان عتقه جائزًا(32) ولو أعتقه البائع لم يجز عتقه.
          قال الطَّحَاوِيُّ: فهذا ابن عُمَرَ قد كان(33) يذهب فيما أدركت الصَّفقة حيًّا فهلك بعدها أنَّه مِنْ مال المشتري، فدلَّ ذلك(34) أنَّه كان يرى أنَّ البيع يتمُّ بالأقوال قبل الفرقة الَّتي تكون بعد ذلك، وأنَّ المبيع ينتقل بالأقوال مِنْ ملك البائع إلى ملك المبتاع حتَّى يهلك مِنْ ماله إن هلك، وهذا مِن ابن عُمَرَ دالٌّ(35) على مذهبه في الفرقة الَّتي سمعها مِنَ النَّبيِّ صلعم فيما(36) ذكروا، وقد وجدنا عن رسول الله صلعم ما يدلُّ على أنَّ المبيع يملكه المشتري بالقول دون التَّفرُّق بالأبدان، وذلك أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((مَنِ ابتَاعَ طعامًا، فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبَضْهُ)) / فكان ذلك دليلًا(37) على أنَّه إذا قبضه(38) حلَّ له بيعه ويكون(39) قابضًا له قبل افتراق بدنه مِنْ(40) بدن بائعه، ورُوِيَ عن سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ قال: سمعت عُثْمَانَ يخطب على المنبر ويقول(41): ((كُنْتُ أَشْتَرِي التَّمْرَ فَأَبِيْعَهُ بِرِبْحِ الآصُعِ(42)، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهُ صلعم: إِذَا اشتَرَيتَ فَاكتَلْ، وَإِذَا بِعْتَ فَكِلْ))، فكان مَنِ ابتاع طعامًا مكايلةً فباعه قبل أن يكتاله لا يجوز بيعه، فإذا ابتاعه فاكتاله وقبضه ثمَّ فارق بائعه فكلٌّ قد أجمع أنَّه لا يحتاج(43) بعد الفرقة إلى إعادة الكيل، وخُولف بين اكتياله إيَّاه بعد البيع قبل التَّفرُّق وبين اكتياله إيَّاه قبل البيع، فدلَّ ذلك أنَّه إذا اكتاله اكتيالًا(44) يحلُّ له به بيعه، فقد كان ذلك اكتيالٌ(45) له وهو له مالكٌ، وإن اكتاله(46) اكتيالًا(47) لا يحلُّ به(48) بيعه، فقد كاله وهو غير مالكٍ له، فثبت بما ذكرنا وقوع ملك المشتري في المبيع بابتياعه إيَّاه قبل فرقةٍ تكون بعد ذلك، فهذا وجهٌ(49) مِنْ طريق الآثار.
          وأمَّا مِنْ طريق النَّظر فرأينا الأموال تُملك بعقودٍ في أبدانٍ وفي أموالٍ وفي أبضاعٍ وفي منافعٍ، فكان ما يُملك من الأبضاع هو النِّكاح، فكان يتمُّ بعقده لا بفرقةٍ بعد العقد، وكان ما يُملك به المنافع هو الإجارات، فكان ذلك أيضًا مملوكًا بالعقد لا بفرقةٍ بعد العقد، فالنَّظر على ذلك أن تكون كذلك الأموال المملوكة بسائر العقود مِنَ البيوع وغيرها، تكون مملوكةً بالأقوال لا بفرقةٍ بعدها قياسًا ونظرًا، وفي حديث ابن عُمَرَ جواز بيع الشَّيء الغائب على الصِّفة، وسيأتي ذلك(50) بعد هذا إن شاء الله تعالى.
          وأجمع العلماء أنَّ البائع إذا لم يُنكر على المشتري ما أحدثه مِنَ الهبة أو العتق(51) أنَّه بيعٌ جائزٌ، واختلفوا إذا أنكر ولم يرضَ بما(52) أحدثه المشتري، فالَّذين يرون أنَّ البيع يتمُّ بالكلام يجيزون هبته وعتقه، ومَنْ يرى التَّفرُّق بالأبدان لا يُجيز شيئًا مِنْ ذلك إلَّا بعد التَّفرُّق، وحديث عُمَرَ حُجَّةٌ عليهم، والله الموفِّق.


[1] في (ز): ((فوهبه)).
[2] في (ز): ((أن يفترقا)).
[3] في (ص): ((اشترى)).
[4] في (ز): ((وجب له البيع)).
[5] في (ز): ((عمر فيردُّه، فقال)).
[6] في (ز): ((فقال)).
[7] زاد في (ص): ((رسول الله)).
[8] في (ز): ((من النَّبيِّ صلعم، فقال: هو)).
[9] قوله: ((قال)) ليس في (ز).
[10] قوله: ((من)) ليس في (ص).
[11] في (ز): ((بوادي القرى)).
[12] في (ص): ((ما لم)).
[13] في (ز): ((يتفرَّقا)).
[14] زاد في المطبوع: ((ابن)).
[15] في (ز): ((ما)).
[16] قوله: ((أنَّ)) ليس في (ز).
[17] في (ز): ((عن)).
[18] في (ص): ((الدَّار)).
[19] زاد في (ز): ((بيعته)).
[20] في (ز): ((أقاله)).
[21] في (ز): ((يتفرَّقا)).
[22] في (ز): ((يحكي)).
[23] في (ز): ((من)).
[24] في (ص): ((مكادمة)).
[25] في (ز): ((هذا)).
[26] قوله: ((بل كان يقول: وكانت السُّنَّة، ويكون أبدًا)) ليس في (ص).
[27] في (ز): ((على عقبه)).
[28] في (ز): ((ويحتمل حديث)).
[29] قوله: ((قال)) ليس في (ز).
[30] في (ز): ((أدركنا)).
[31] في (ز): ((وهي)).
[32] في (ص): ((جائز)).
[33] قوله: ((قد كان)) ليس في (ص).
[34] زاد في (ز): ((على)).
[35] في (ز): ((أدلُّ)).
[36] في (ز): ((ممَّا)).
[37] في (ص): ((دليل)).
[38] زاد في (ز): ((فقد)).
[39] في (ز): ((بيعه وقد يكون)).
[40] قوله: ((من)) ليس في (ز).
[41] في (ز): ((يقول)).
[42] قوله: ((الآصع)) ليس في (ص).
[43] في (ز): ((يجوز)).
[44] زاد في (ز): ((لا)).
[45] في (ص): ((الاكتيال)).
[46] في (ز): ((كاله)).
[47] في (ص): ((اكتيال)).
[48] في (ز): ((له)).
[49] في (ز): ((وجهه)).
[50] قوله: ((ذلك)) ليس في (ز).
[51] في (ص): ((الهبة والعتق)).
[52] في (ز): ((ما)).