شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب النهي عن تلقي الركبان

          ░71▒ بَابُ النَّهْي عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، وَبَيْعَهُ مَرْدُودٌ لأَنَّ صَاحِبَهُ عَاصٍ آثِمٌ إِذَا كَانَ بِهِ عَالِمًا، وَهُوَ خِدَاعٌ في البَيْعِ، وَالخِدَاعُ لاَ يَجُوزُ
          فيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ: (نَهَى النَّبيُّ صلعم عَنِ التَّلَقِّي، وَأَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ)، وَقَالَ طَاوُسٌ: سَأَلْتُ ابنَ عَبَّاسٍ عَنْ مَعْنَى(1) قَوْلِهِ: (لَا يَبِيعَنَّ حَاضِرٌ لِبَادٍ؟) فَقَالَ: لَا يَكُنْ(2) لَهُ سِمْسَارًا. [خ¦2162]
          وفيهِ ابنُ مَسْعُودٍ: (نَهَى النَّبيُّ صلعم عَنْ تَلَقِّي البُيُوعِ). [خ¦2164]
          وفيهِ ابنُ عُمَرَ: أَنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ: (لاَ تَلَقَّوُا السِّلَعَ حَتَّى يُهْبَطَ بِهَا الأَسْوَاقُ). [خ¦2165]
          قالَ ابنُ المُنْذِرِ: كره(3) تلقِّي السِّلع للمشتري(4) مالكٌ واللَّيْثُ والأوزاعيُّ والشَّافعيُّ وأحمدُ وإِسْحَاقُ، وأجاز ذلك أبو حنيفةَ.
          واختلفوا في معنى التَّلقِّي: فذهب مالكٌ إلى أنَّه لا يجوز تلقِّي السِّلع حتَّى تصل إلى السُّوق، ومَنْ تلقَّاها فاشتراها منهم شركه(5) فيها أهل السُّوق(6) إن شاؤوا، فكان(7) واحدًا منهم.
          قالَ ابنُ القَاسِمِ: وإن(8) لم يكن للسِّلعة سوقٌ / عُرِضَتْ على النَّاس في المصر فيشتركون(9) فيها إن أحبُّوا، فإنْ أخذوها، وإلَّا ردُّوها عليه، ولم أردَّها على بائعها. وقالَ غيرُ ابنِ القَاسِمِ: يفسخ البيع في ذلك.
          وقالَ الشَّافعيُّ: مَنْ تلقَّى فقد(10) أساء، وصاحب السِّلعة بالخيار إذا قدم بها السُّوق في إنفاذ البيع أو ردِّه لأنَّهم يتلقَّونهم فيخبرونهم بكساد السِّلع وكثرتها، وهم أهل غِرَّةٍ، ومكرٍ(11) وخديعةٍ، وحجَّته ما رواه أَيُّوبُ عن ابنِ سِيرِينَ عن أبي هُرَيْرَةَ: ((أَنَّ النَّبيَّ صلعم نَهَى عَنْ تَلَقِّي الجَلَبِ، فَإِنْ تَلَقَّاهُ فاشتَرَاهُ، فصَاحِبُهُ بالخَيَارِ إذا أَتَى السُّوْقَ)) فذهب(12) مالكٌ أنَّ نهيه ◙ عن التَّلقِّي إنَّما أُريد به نفع أهل السُّوق، لا نفع ربِّ السِّلعة، وعلى ذلك يدلُّ مذهب الكوفيِّين والأوزاعيِّ.
          وقالَ الأَبْهَرِيُّ: معنى النَّهي عن التَّلقِّي لئلَّا يستبدَّ الأغنياء وأصحاب الأموال بالشِّراء دون أهل الضَّعف فيؤدي ذلك إلى الضَّرر بهم في معايشهم، ولهذا المعنى قالَ مالكٌ: إنَّه يشرك بينهم إذا تلقَّوا السِّلع ليشترك(13) فيها مَنْ أرادها مِنْ أهل الضَّعف، ولا ينفرد بها الأغنياء.
          ومذهب الشَّافعيِّ أنَّه إنَّما أُريد بالنَّهي نفع ربِّ السِّلعة لا نفع أهل السُّوق، وهذا أشبه بمعنى قوله ◙: (فَإِنْ تَلَقَّاهَا فَصَاحِبُهَا(14) بالخَيَارِ) فجعل النَّبيُّ صلعم(15) الخيار للبائع لأنَّه المغرور، فثبت أنَّ المراد بذلك نفع ربِّ السِّلعة.
          وقالَ أبو حنيفةَ وأصحابُهُ: إذا كان التَّلقِّي في أرضٍ لا يضرُّ بأهلها فلا بأس به، وإن كان يضرُّهم(16) فهو مكروهٌ، وعن الأوزاعيِّ نحوه.
          واحتجَّ الكوفيُّون بحديث ابنِ عُمَرَ قالَ: ((كُنَّا نَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ فَنَشْتَرِي مِنْهُمُ الطَّعَامَ، فَنَهَانَا النَّبيُّ صلعم أَنْ نَبِيْعَهُ حَتَّى نَبْلُغَ بِهِ سُوْقَ الطَّعَامِ)).
          وقالَ الطَّحَاوِيُّ: في(17) هذا الحديث إباحة التَّلقِّي، وفي الأحاديث الأولى النَّهي عنه، فأَولى بنا أن نجعل ذلك على غير التَّضَادِّ، فيكون ما نُهي عنه مِنَ التَّلقِّي لما في ذلك مِنَ الضَّرر على غير المتلقِّين المقيمين في السُّوق، وما(18) أُبيح مِنَ التَّلقِّي هو ما لا ضرر عليهم فيه(19).
          قالَ المؤلِّفُ: وتأويل هذا الحديث يأتي(20) ذكره في باب منتهى التَّلقِّي بعد هذا(21).
          قالَ الطَّحَاوِيُّ: والحجَّة في إجازة الشِّراء مع التَّلقِّي المنهي عنه ما حدَّثنا عليُّ بنُ مَعْبَدٍ حَدَّثَنا عبدُ اللهِ بنُ أبي بَكْرٍ السَّهْمِيُّ حَدَّثَنا هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: ((لَا تَلَقَّوُا(22) الجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَهُوَ بَالخَيَارِ إِذَا أَتَى السُّوْقَ))، ففي هذا الحديث عن الرَّسُولِ(23) صلعم النَّهي عن تلقِّي الجَلَبِ، ثمَّ جعل للبائع الخيار في ذلك(24) إذا دخل السُّوق، والخيار لا يكون إلَّا في بيعٍ صحيحٍ لأنَّه لو كان فاسدًا لأجبر بائعه ومشتريه على فسخه.


[1] قوله: ((معنى)) ليس في (ص).
[2] في (ص): ((تكون)).
[3] في (ص): ((يكره)).
[4] في (ز) صورتها: ((للشرى)).
[5] في (ز): ((شرك)).
[6] في (ز): ((الأسواق)).
[7] في (ز): ((وكان)).
[8] في (ز): ((فإن)).
[9] في (ز): ((فيشركون)).
[10] قوله: ((فقد)) ليس في (ص).
[11] في (ز): ((وهذا مكر)).
[12] في (ز): ((فمذهب)).
[13] في (ز): ((ليسوي)).
[14] في (ز): ((تلقَّاه فصاحبه)).
[15] قوله: ((النَّبيُّ صلعم)) ليس في (ص).
[16] في (ز): ((يضرُّ بهم)).
[17] في (ز): ((قال الطَّحاويُّ وفي)).
[18] في (ز): ((ولمَّا)).
[19] في (ز): ((لا ضرر فيه عليهم)).
[20] في (ز): ((قال المؤلِّف: وتأوُّل هذا الحديث الَّذي فيه إباحة التَّلقِّي ما يأتي)).
[21] زاد في (ز): ((إن شاء الله)).
[22] في (ص): ((تلقَّى)).
[23] في (ز): ((النَّبيِّ)).
[24] في (ز): ((في ذلك الخيار)).