شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: لا يذاب شحم الميتة ولا يباع ودكه

          [░103▒ بَابٌ لاَ يُذَابُ شَحْمُ المَيْتَةِ وَلَا يُبَاعُ وَدَكُهُا.
          رَوَاهُ جَابِرٌ(1).
          فيهِ ابنُ عَبَّاسٍ: بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ فُلاَنًا بَاعَ خَمْرًا، فَقَالَ: قَاتَلَ اللهُ فُلاَنًا، أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ النَّبيَّ(2) صلعم قَالَ: (قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا؟). [خ¦2223]
          أجمع العلماء على تحريم بيع الميِّتة، لتحريم الله تعالى لها / بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ}[المائدة:3]قالَ الطَّبَرِيُّ: إن قال قائلٌ(3): ما وجه قوله في بيع الخمر: (لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُوْمُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا(4)) وأنت تعلم أنَّ أشياء كثيرةً حرَّم الله أكلها ولم تُحَرَّمْ أثمانها، كالحُمُرِ الأهليَّة وسباع الطَّير كالعقبان والبزاة وشبهها؟ قلنا(5): المعنى الَّذي خالف بينهما مع اشتباههما في الوجه الَّذي وصفت بيِّنٌ وهو أنَّ الله تعالى جعل الخمر والخنزير نجسين، فحكمهما في أنَّه لا يحلُّ بيعهما ولا شراؤهما ولا أكل أثمانهما حكم سائر النَّجاسات مِنَ الميِّتة والدَّم والعذرة والبول، وذلك هو المعنى الَّذي مثِّل به بائع الخمر وآكل ثمنها بالبائع(6) مِنَ اليهود الشُّحوم وآكل أثمانها، إذ كانت الشُّحوم حرامًا(7) أكلها على اليهود، نجسةً عندهم نجاسة الخمر والميتة في ديننا، فكان بائعها منهم وآكل ثمنها نظير بائع الخمر والخنزير منَّا وآكل ثمنها، فالواجب أن يكون كلُّ ما كان نجسًا حرامًا(8) بيعه وشراؤه، وأكل ثمنه، وكلُّ ما حُرِّمَ أكله وهو طاهرٌ، فحلالٌ بيعه وشراؤه، والانتفاع به فيما لم يحظر الله تعالى الانتفاع به، فبان الفرق بينهما.
          قالَ المؤلِّفُ: واختلف العلماء في جواز بيع العذرة والسِّرقين، فكره مالكٌ والكوفيُّون بيع العذرة، وقالوا: لا خير في الانتفاع بها وأجاز الكوفيُّون بيع السِّرقين.
          قالَ الطَّحَاوِيُّ: وزبل الدَّوابِّ عند مالكٍ نجسٌ، فينبغي أن يكون كالعذرة، وأمَّا بعر الإبل وأخثاء(9) البقر فلا بأس ببيعه عند مالكٍ، وقالَ الشَّافعيُّ: لا يجوز بيع العذرة ولا الرَّوث، ولا شيء مِنَ الأنجاس.
          قالَ الطَّحَاوِيُّ: وقد جرت عادت النَّاس بالانتفاع بالسِّرقين وإن كان نجسًا وتمريغ دوابهم فيه، وخلطه بالطِّين والبناء للفخَّار ولوقود النِّيران غير منكرٍ ذلك عندهم، فهو مِنَ النَّجاسات الَّتي أُبيح الانتفاع بها، فدلَّ أنَّها مملوكةٌ، وأنَّ على مستهلكها ضمانها، وكان(10) دلالةٌ على أنَّه يجوز بيعه لأنَّه مالٌ، وإذا كان كذلك فالحاجة إلى العذرة قائمةٌ في الانتفاع بها للأرضين، فوجب أن تكون كذلك، وفي سماع ابنِ القَاسِمِ أنَّه سُئِلَ عن قومٍ لهم خربةٌ فرمى النَّاس فيها زبلًا فأرادوا ضربه طوبًا وبيعه، ليعمروا به تلك الأرض، قال: ذلك لهم.
          وقوله: (فَجَمَّلُوهَا) يعني أذابوها، يُقَالُ: جَمَلْتُ الشَّحْمَ أَجْمُلُهُ جَمْلًا واجتَمَلْتُهُ، إذا أَذَبْتُهُ، والجميلُ: الوَدَكَ.]
(11)


[1] زاد في المطبوع: ((عن النَّبيِّ ◙)).
[2] في المطبوع: ((رسول الله)).
[3] في المطبوع: ((فإن قيل)).
[4] زاد في المطبوع: ((أثمانها)).
[5] في المطبوع: ((قلت)).
[6] في (ز): ((فالبائع)).
[7] في المطبوع: ((حرام)).
[8] في المطبوع: ((حرام)).
[9] في المطبوع: ((وخثى)).
[10] في المطبوع: ((فكان)).
[11] ما بين معقوفتين غير واضح في (ص) بسبب الطَّمس.