شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا اشترى متاعًا أو دابة فوضعه عند البائع أو مات قبل أن

          [░57▒ بَابُ إِذَا اشْتَرَى دَابَّةُ أَوْ مَتَاعًا(1) فَوَضَعَهُ عِنْدَ البَائِعِ فَضَاعَ(2)، أَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ.
          وَقَالَ ابنُ عُمَرَ: مَا أَدْرَكَت الصَّفْقَة حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنَ المُبْتَاعِ.
          فيهِ عَائِشَةُ: (لَقَلَّ يَوْمٌ كَانَ يَأْتِي عَلَى النَّبيِّ صلعم، إِلَّا يَأْتِي فِيهِ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَيِ النَّهَارِ، فَلَمَّا أُذِنَ لَهُ فِي الْخُرُوجِ إلى المَدِينَةِ لَمْ يَرُعْنَا إِلَّا وَقَدْ أَتَانَا ظُهْرًا، فَخُبِّرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: مَا جَاءَنَا(3) هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا مِنْ حَدَثَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ، قَالَ لأبِي بَكْرٍ: أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ،(4) عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ، فقَالَ: أَشَعَرْتَ أَنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِي في الخُرُوجِ، قَالَ: الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: الصُّحْبَةَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ عِنْدِي نَاقَتَيْنِ أَعْدَدْتُهُمَا لِلْخُرُوجِ، فَخُذْ إِحْدَاهُمَا فقَالَ: قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ). [خ¦2138]
          اختلف العلماء في هلاك المبيع قبل القبض(5)، فذهب أبو حنيفةَ والشَّافعيُّ إلى أنَّ ضمانه إن تلف مِنَ البائع، وقال أحمدُ وإِسْحَاقُ وأبو ثَوْرٍ: تلافه مِنَ المشتري. وفرَّق مالكٌ بين الثِّياب والحيوان، فقال: ما كان مِنَ الثِّياب والطَّعام، وما يُعاب عليه فهلك قبل القبض، فضمانه مِنَ البائع. قال ابن القَاسِمِ: لأنَّه لا يعرف هلاكه ولا بيِّنة عليه، ويتهم أن يكون ندم فيه وعيَّبه(6)، وأمَّا الدَّواب والحيوان والعقار فمضيته(7) مِنَ المشتري.
          وقال ابن حَبِيْبٍ: اختلف العلماء فيمَنْ باع عبدًا واحتبسه بالثَّمن، وهلك في يديه قبل أن يأتي المشتري بالثَّمن، وكان سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ ورَبِيْعَةُ واللَّيثُ يقولون: هو مِنَ البائع، وأخذ به ابن وَهْبٍ، وكان مالكٌ قد أخذ به أيضًا، وكان سُلَيْمَانُ بن يَسَارٍ يقول: مضيته(8) مِنَ المشتري سواءٌ حبسه البائع وثيقةً مِنَ الثَّمن أم لا. ورجع مالكٌ إلى قول سُلَيْمَانَ بن يَسَارٍ، واحتجَّ الكوفيُّون والشَّافعيُّ بفساد بيع الصَّرف قبل القبض، فدلَّ أنَّه في ضمان البائع، قالوا: ولا خلاف أنَّه مَنِ اشترى طعامًا مكايلةً فهلك قبل القبض في يد البائع، أنَّه مِنْ مال البائع، فكذلك ما سواه في القياس، واحتجُّوا أنَّ(9) النَّبيَّ صلعم نهى عن بيع ما لم يُقبض(10) / لأنَّه لم يُضمن.
          قال(11) ابن القَصَّارِ: والحجَّة عليهم في قياسهم على الصَّرف، فإنَّ(12) البيع يتمُّ فيه بالعقد، ثمَّ يبطل بالتَّفرُّق قبل القبض، لأنَّه عقدٌ خُصَّ بألَّا يفترقا وبينهما معاملةٌ، لأنَّ سنَّة الصَّرف يدًا بيدٍ، وهاءَ بهاءٍ، لوجود الرِّبا في كلِّ واحدٍ مِنَ العوضين، وأمَّا الطَّعام إذا اشتُرِيَ مكايلةً فإنَّ البيع قد تمَّ بالقول، ثمَّ وجب على البائع حقُّ التَّوفية، وهو الكيل الَّذي يلزمه بإجماع، وكذلك المبيع إذا كان فيه حقٌّ يوفيه مِنْ وزنٍ أو عددٍ ثمَّ تلف(13) قبل القبض فضمانه مِنَ البائع، وأمَّا احتجاجهم بنهيه ◙عن بيع ما لم يُقبض(14) إذا لم يُضمن، بدليل أنَّ المشتري لو أتلف المبيع كان ضمانه منه(15) بالثَّمن لا بالقيمة، لأنَّه بحكم الملك أثبته(16)، فيجب إذا تلف المبيع مِنْ قبل الله تعالى أن يكون مِنْ ضمانه.
          قال المُهَلَّبُ: ووجه استدلال البخاريِّ بحديث عائشةِ في هذا الباب أنَّ قول النَّبيِّ صلعم(17) لأبي بَكْرٍ في النَّاقة: (قَدْ أَخَذْتُهَا) ولم(18) يكن أخذًا باليد، ولا بحيازة شخصها، وإنَّما كان التزامه لابتياعها بالثَّمن، وإخراجها مِنْ ملك أبي بَكْرٍ، لأنَّ قوله: (قَدْ أَخَذْتُهَا) يوجب أخذًا صحيحًا، وإخراجًا واجبًا للنَّاقة مِنْ ذمِّة أبي بَكْرٍ إلى ذمَّة النَّبيِّ صلعم بالثَّمن الَّذي يكون عوضًا منها، فهل يكون الضَّياع أو التَّصرُّف بالبيع قبل القبض إلَّا لصاحب الذِّمَّة الضَّامنة لها؟!
          قال ابن المُنْذِرِ: ولا مخالف لابن عُمَرَ في الصَّحابة، فهو كالإجماع]
(19).
          قال المُهَلَّبُ: وفيه مِنَ الفقه: إخفاء السِّرِّ في أمر(20) الله ╡ إذا خشي مِنْ أهل العصر(21).
          وفيه: أنَّ أبا بَكْرٍ أوثق النَّاس عند رسول الله صلعم، وأنَّه أمنُّ النَّاس عليه في صحبته وماله، لأنَّه لم يرغب بنفسه عنه في حضرٍ ولا سفرٍ(22)، ولا استأثر بماله دونه، ألا ترى أنَّه أعطاه إحدى ناقتيه بلا ثمنٍ، فأبى رسول الله صلعم إلَّا بالثَّمن، وفي استعداد أبي بَكْرٍ بالنَّاقتين دليلٌ على أنَّه أفهم النَّاس لأمر الدِّين لأنَّه أعدَّهما قبل أن ينزل الإذن في الخروج مِنْ مكَّة إلى المدينة، كأنَّه قبل ذلك رجا أنَّه(23) لا بدَّ أن يؤذن له فأعدَّ لذلك.
          وفيه(24): أنَّ الافتراق الَّذي يتمُّ به البيع في قوله ◙: (البِيِّعَانِ بِالخَيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا(25)) إنَّما يكون بالكلام لا بالأبدان، لقول النَّبيِّ صلعم لأبي بَكْرٍ: (قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ) قبل أن يفترقا، وتمَّ البيع بينهما، وسيتأتي بعض معاني هذا الحديث في كتاب اللِّباس في باب التَّقنُّع إن شاء الله تعالى [خ¦77/16-8647].


[1] في المطبوع: ((متاعًا أو دابَّةً)).
[2] قوله: ((فضاع)) ليس في المطبوع.
[3] زاد في المطبوع: ((النَّبيُّ ◙ في)).
[4] زاد في المطبوع: ((يعني)).
[5] في المطبوع: ((أن يقبض)).
[6] في المطبوع: ((فعيَّبه)).
[7] في المطبوع: ((فضمانه)).
[8] في المطبوع: ((وقال سليمان بن يسارٍ: مضيته)).
[9] في المطبوع: ((بأنَّ)).
[10] زاد في المطبوع: ((وربح ما لم يضمن، قالوا: ألا ترى أنَّه ◙ نهى عن بيع ما لم يقبض وربح ما لم يضمن، فكأنَّه نهى عن بيع ما لم يقبض)).
[11] في المطبوع: ((وقال)).
[12] في المطبوع: ((بأنَّ)).
[13] في المطبوع: ((عدد وتلف)).
[14] زاد في المطبوع: ((فالجواب: عليه أنَّه نهى عن بيع ما لم يقبض)).
[15] في المطبوع: ((فيه)).
[16] في المطبوع: ((أتلفه)).
[17] في المطبوع: ((الرَّسول)).
[18] في المطبوع: ((لم)).
[19] ما بين معقوفتين غير واضح في (ص) بسبب الطَّمس.
[20] في (ز): ((بأمر)).
[21] في المطبوع: ((الفجر))، وغير واضحة في (ص).
[22] في (ز): ((في هجرةٍ ولا حضرٍ)).
[23] في المطبوع: ((قد رجا أنَّه))، وفي (ز): ((قبل ذلك قد ركن إلى أنَّه)).
[24] قوله: ((وفيه)) ليس في (ص).
[25] في (ز): ((يتفرَّقا)).