شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما ذكر في الأسواق

          ░49▒ بَابُ مَا يُذْكَرُ(1) فِي الأَسْوَاقِ.
          وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَن بنُ عَوْفٍ: لَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ قُلْتُ هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ؟ وَقَالَ(2): سُوقُ قَيْنُقَاعَ، وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ(3)، وَقَالَ عُمَرُ: أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالأسْوَاقِ.
          فيهِ عَائِشَةُ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (يَغْزُو جَيْشٌ الكَعْبَةَ فيُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ) قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: (يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ). [خ¦2118]
          وفيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: النَّبيُّ صلعم: (صَلاةُ أَحَدِكُمْ فِي جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلاتِهِ فِي سُوقِهِ وَبَيْتِهِ) الحديثَ. [خ¦2119]
          وفيهِ أَنَسٌ: (كَانَ النَّبيُّ صلعم فِي السُّوقِ _وَقَالَ مَرَّةً: فِي البَقِيع(4)_ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا القَاسِمِ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبيُّ صلعم فَقَالَ: إِنَّمَا دَعَوْتُ هَذَا، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: سَمُّوا(5) بِاسْمِي، وَلا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي). [خ¦2120]
          وفيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ: (خَرَجَ النَّبيُّ صلعم فِي طَائِفَةِ(6) النَّهَارِ لا يُكَلِّمُنِي وَلَا أُكَلِّمُهُ(7)، حَتَّى أَتَى سُوقَ بَنِي قَيْنُقَاعَ، فَجَلَسَ بِفِنَاءِ بَيْتِ فَاطِمَةَ، فَقَالَ: أَثَمَّ لُكَعُ، أَثَمَّ لُكَعُ(8)، فَحَبَسَتْهُ(9) شَيْئًا، فَظَنَنْتُ أَنَّهَا تُلْبِسُهُ سِخَابًا أَوْ تُغَسِّلُهُ(10)، فَجَاءَ يَشْتَدُّ حَتَّى عَانَقَهُ وَقَبَّلَهُ...) الحديثَ. [خ¦2122]
          وفيهِ ابنُ عُمَرَ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْترُونَ(11) الطَّعَامَ مِنَ الرُّكْبَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبيِّ صلعم فَيَبْعَثُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَمْنَعُهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ(12) حَيْثُ اشْتَرَوْهُ، حَتَّى يَنْقُلُوهُ(13) حَيْثُ يُبَاعُ الطَّعَام قَالَ: وَحَدِيْثُ ابنِ عُمَرَ: (نَهَى النَّبيُّ ◙ أَنْ يُبَاعَ الطَّعَامُ إِذَا اشْتَرَاهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ)(14). [خ¦2123] [خ¦2124]
          إنَّما أراد بذكر الأسواق إباحة المتاجر ودخول السُّوق(15)، والشِّراء فيه للعلماء والفضلاء، وكأنَّه لم يصحَّ عنده / الحديث الَّذي رُوِيَ ((شَرُّ البِقَاعِ الأَسْوَاقُ، وَخَيْرُهَا المَسَاجِدُ)) وهذا إنَّما خرج(16) على الأغلب لأنَّ المساجد يذكر فيها اسم(17) الله تعالى، والأسواق قد غلب عليها(18) اللَّغط واللهو والاشتغال بجمع المال، والكلَب على الدُّنيا مِنَ الوجه المباح وغيره، وأمَّا إذا ذُكِرَ الله في السُّوق فهو مِنْ أفضل الأعمال.
          روى(19) مُحَمَّدُ بنُ وَاسِعٍ أنَّه قال: سمعت سالمُ بنُ عبدِ اللهِ يقول: ((مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ بِيَدِه الخَيْرُ(20) يُحْيِي وَيُمِيْتُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ، كَتَبَ اللهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَ(21) عَنْهُ أَلْفُ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وبُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الجَنَّةِ)) وكذلك إذا لغا في المسجد أو لغط فيه، أو عصى ربَّه ╡ لم يضرَّ المسجد، ولا نقص مِنْ فضله، وإنَّما أضرَّ بنفسه، وبالغ في إثمه. وقد رُوِيَ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ ☺ أنَّه قال: مَنْ عَصَى اللهَ في المسجدِ فكأنَّما عَصَاهُ في الجَنَّةِ، ومَنْ عَصَاهُ في الحمَّام فكأنَّما عَصَاهُ في النَّار، ومَنْ عَصَاهُ في المقبرةِ فكأنَّما عَصَاهُ في عَرَصَاتِ القيامةِ، ومَنْ عَصَاهُ في البحرِ فكأنَّما عَصَاهُ على أكفِّ الملائكةِ.
          قال المُهَلَّبُ: وفي حديث عائشةَ أنَّ مَنْ كثَّر سواد قومٍ في معصيةٍ أو فتنةٍ أنَّ العقوبة تلزمه معهم إذا لم يكونوا مغلوبين على ذلك لأنَّ الخسف لمَّا(22) أخذ السُّوقة عقوبةً لهم شمل(23) الجميع.
          واستنبط منه مالكٌ ☼ أنَّ مَنْ وُجِدَ مع قومٍ يشربون الخمر، وهو لا يشرب أنَّه يعاقب، ويؤيِّد أنَّ المغلوبين على تكثير السَّواد ليسوا ممَّن يستحقُّ العقوبة بقوله(24) تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيْبَكُم مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ}[الفتح:25].
          وفيه: علَمٌ مِنْ أعلام النُّبوَّة، وهو إخباره ◙ بما(25) يكون.
          وفي(26) حديث أبي هريرةَ: (ثُمَّ أَتَى المَسْجِدَ لَا يَنْهَزُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ) النَّهز الدَّفع.
          وقوله: (أَثَمَّ لُكَعُ) فإنَّما أراد الحسنَ بنَ عليٍّ.
          فيه مِنَ الفقه: أنَّه لا بأس بمهازلة الصَّبيِّ وغيره إذا كان واقعًا تحت السِّنِّ والفضل، لا سيَّما إن عضد ذلك أبوه لأنَّ النَّبيَّ صلعم أبوه، والجدُّ أبٌ، واللُّكع اللَّئيم(27)، تقول العرب: لكع الرَّجل لكعًا ولكعةً: إذا لؤم، وهو لكعٌ ولكيعٌ وألكعٌ، والمرأة لكاعٌ.


[1] في (ز): ((ذكر)).
[2] في المطبوع: ((فقال)).
[3] في (ز): ((وقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَن: لَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ؟ وقَالَ: دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ)).
[4] في (ز): ((بالبقيع)).
[5] في (ز): ((تسمَّوا)).
[6] زاد في (ز): ((من)).
[7] قوله: ((ولا أكلِّمه)) ليس في (ز).
[8] في (ص): ((أثمَّ لكع)) لم يتكرر.
[9] في (ص): ((فحسبته)).
[10] في (ص): ((وتغسله)).
[11] في (ز): ((يشرون)).
[12] في (ز): ((يبيعوه)).
[13] في (ز): ((يبلغوه)).
[14] قوله: ((قَالَ: وحديث ابن عُمَرَ: نَهَى النَّبيُّ ◙ أَنْ يُبَاعَ الطَّعَامُ إذا اشْتَرَاهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ)) ليس في (ز).
[15] في (ز): ((الأسواق)).
[16] في (ز): ((خرج)).
[17] قوله: ((اسم)) ليس في (ز).
[18] في (ز): ((على أهلها)).
[19] في (ز): ((روي عن)).
[20] قوله: ((بيده الخير)) ليس في (ص).
[21] في المطبوع: ((ومحا)).
[22] في (ز): ((قد)).
[23] في (ز): ((شملت)).
[24] في (ز): ((قوله)).
[25] في (ز): ((ما)).
[26] في (ز): ((وقوله في)).
[27] في (ز): ((اسم)).