شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب تفسير العرايا

          ░84▒ بَابُ تَفْسِيرِ العَرَايَا
          وقَالَ(1) مَالِكٌ: العَرِيَّةُ أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ النَّخْلَةَ، ثُمَّ يَتَأَذَّى بِدُخُولِهِ عَلَيْهِ، فَرُخِّصَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ بِثَمَرٍ(2).
          وَقَالَ ابنُ إِدْرِيسَ: العَرِيَّةُ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالكَيْلِ(3) مِنَ التَّمْرِ(4) يَدًا بِيَدٍ لَا تَكُونُ بِالجِزَافِ، وَمِمَّا يُقَوِّيهِ قَوْلُ سَهْلِ بنِ أبي حَثْمَةَ: بِالأَوْسُقِ المُوَسَّقَةِ، وَقَالَ سُفْيَانُ بنُ حُسَيْنٍ: العَرَايَا كَانَتِ النَّخْلُ تُوهَبُ لِلْمَسَاكِينِ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَنْتَظِرُونهَا(5) رُخِّصَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهَا بِمَا شَاؤُوا مِنَ التَّمْرِ(6).
          وفي «صحيح مسلمٍ» أنَّه ◙ أرخص في العرية يأخذها أهل البيت تمرًا يأكلونها رطبًا، وفي «كتابِ النَّسَائيِّ» أنَّ رَسُولَ اللهِ رخَّص في بيع العرايا بالرُّطب وبالتَّمر، ولم يرخِّص في غير ذلك(7).
          وفيهِ(8) زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم رَخَّصَ في العَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا كَيْلًا). [خ¦2192]
          قالَ أبو عُبَيْدٍ: وفي العرايا تفسيرٌ آخرُ غير ما فسَّره مالكٌ وهو أنَّ العرايا هي النَّخلات(9) يستثنيها الرَّجُلُ مِنْ حائطه إذا باع ثمرته لا(10) يُدخلها في البيع فيُبقيها لنفسه وعياله، فتلك الثَّنايا لا تخرص عليهم(11) لأنَّه قد عُفي لهم عما يأكلون. سُمِّيَتْ عرايا لأنَّها أُعريت مِنْ أن تُباع أو تُخرص في الصَّدقة فأرخص النَّبيُّ صلعم لأهل الحاجة والمسكنة الَّذين لا وَرِقٌ لهم ولا ذهبٌ، وهم يقدرون على التَّمر(12) أن يبتاعوا بتمرهم(13) مِنْ تمر(14) هذا العرايا بخرصها رفقًا بأهل الفاقة الَّذين لا يقدرون على الرُّطب، ولم يرخِّص لهم أن يبتاعوا منه ما يكون لتجارةٍ ولا ادَّخارٍ.
          قالَ أبو عُبَيْدٍ: وهذا أصحُّ في المعنى مِنَ الأوَّل، والعرايا مستثناةٌ مِنْ جملة نهي النَّبيِّ صلعم عن بيع التَّمر بالثَّمر(15)، وعن المزابنة. هذا قول عامَّة أهل العلم، ويجوز عند مالكٍ أن يعري مِنْ حائطه ما شاء غير أنَّ البيع لا يكون إلَّا في خمسة أوسقٍ فما دون في حقِّ كلِّ واحدٍ ممَّن أعرى. /
          وإنَّما تُباع العرايا بخرصها مِنَ التَّمر في رؤوس النَّخل إلى جذاذها ولا يجوز أن يبتاعها بخرصها نقدًا، وليست له مكيلةٌ لأنَّه أنزل بمنزلة(16) التَّولية والإقالة والشَّركة ولو كان بمنزلة البيوع ما أشرك أحدٌ أحدًا في طعامٍ حتَّى يستوفيه، ولا أقاله منه ولا ولاه حتَّى يقبضه المبتاع. قال: ولا يبيعها إلَّا مِنَ المعرِّي خاصَّةً، ولا يجوز مِنْ غيره إلَّا على سنُّة بيع الثَّمار في غير العرايا، ولا يشتريها بطعامٍ إلى أجلٍ ولا بتمرٍ نقدًا وإن وجدها في الوقت.
          وقالَ الشَّافعيُّ: العرية بيع ما دون خمسة أوسقٍ مِنَ التَّمر، وجعل هذا المقدار مخصوصًا مِنَ المزابنة، وذكر ابنُ القَصَّارِ عن مالكٍ مثله، قالَ الشَّافعيُّ: ويجوز بيعها(17) مِنَ المعرِّي وغيره يدًا بيدٍ، ومتى افترقا ولم ينقده بَطُلَ العقد وبه قالَ أحمدُ.
          قالَ المُزَنِيُّ: ويفسخ البيع في خمسة أوسقٍ لا شكَّ لأنَّ أصل بيع الثَّمر بالثَّمر في رؤوس النَّخل حرامٌ، ولا(18) يجوز فيه إلَّا ما استوفيت الرُّخصة فيه، وذلك ما دون خمسة أوسقٍ.
          قالَ ابنُ القَصَّارِ: ومِنْ حجَّة هذه المقالة أيضًا ما رواه أبو سَعِيْدٍ الخُدْرِيُّ أنَّ النَّبيَّ صلعم قالَ: ((لَا صَدَقَةَ في العَرِيَّةِ))، فلو كانت العرية في خمسة أوسقٍ جائزةً لوجبت فيها الصَّدقة، فعُلم بسقوط الصَّدقة عنها أنَّها دون خمسة أوسقٍ(19).
          واحتجَّ الشَّافعيُّ بما(20) رواه مُحَمَّدُ بنُ إِسْحَاقَ عن مُحَمَّدِ بنِ يحيى بنِ حِبَّانَ عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ: ((أَنَّ النَّبيَّ صلعم رَخَّصَ في العَرَايَا في الوَسَقِ وَالوَسَقَيْنِ والثَّلَاثَةِ وَالأَرْبَعَةِ)) قالَ: فجاءت رواية جابرٍ بغير شكٍّ، و ثبتت رواية مالكٍ عن داودَ الَّتي جاءت بالشَّكِّ في خمسة أوسقٍ أو دون خمسةٍ.
          وقول البخاريِّ وممَّا يقوِّيه قول سَهْلِ بنِ أبي حَثْمَةَ بالأوسق الموسَّقة، فإنَّما أردفه على قوله: لا تكون العرية بالجزاف، وهذا إجماعٌ، وهو مستغنٍ عن تقويةٍ، ولم يأت ذكر الأوسق الموسَّقة إلَّا في حديث مالكٍ عن داودَ بنِ الحُصَيْنِ، وفي حديث جابرٍ مِنْ رواية ابنِ إِسْحَاقَ، لا في رواية سَهْلِ بنِ أبي حَثْمَةَ، وإنَّما يُروى عن سَهْلٍ مِنْ قوله مِنْ رواية اللَّيْثِ عن جَعْفَرَ بنِ أبي رَبِيْعَةَ عن الأعرجِ قالَ: سمعت سَهْلَ بنَ أبي حَثْمَةَ(21) قالَ: لا يباع التَّمر(22) في رؤوس النَّخل بالأوساق الموسَّقة إلَّا أوسق ثلاثةٍ أو أربعةٍ أو خمسةٍ يأكلهنَّ النَّاس وهي المزابنة، ففي قول سَهْلٍ حجَّةٌ لمالكٍ في مشهور قوله أنَّه يجوِّز العرايا في خمسة أوسقٍ، وقد يجوز أن يكون الشَّكُّ في دون خمسة أوسقٍ، واليقين في خمسةٍ(23)، إذ الواو لا تعطي رتبةً، فلذلك ترجَّح قول مالكٍ في ذلك، والله أعلم، ووجه قول مالكٍ أنَّه لا يبيعها(24) إلَّا مِنَ المعرِّي خاصَّةً قوله ◙ في حديث سَهْلٍ: (يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا) ولا أهل لها إلَّا الَّذي أعراها، فجاز أن يبيعها مِنَ المعرِّي خاصَّةً لما يقطع مِنْ تطرُّق المعرَّى عليه(25) لأنَّهم كانوا يسكنون بعيالاتهم(26) في حوائطهم ويستضرُّون بدخول المعرِّي، ولم يكن قصدهم المعروف، فرخِّص لهم في ذلك، ولذلك قال مالكٌ: لا يجوز بيعها يدًا بيدٍ لأنَّ المشتري لم يقصد بشرائها الفضل والمتجر، وأمَّا الكوفيُّون فإنَّهم أبطلوا سُنَّة العرية وقالوا: هي بيع الثَّمر بالثَّمر، وقد نهى رَسُولُ اللهِ صلعم عن ذلك.
          قالَ ابنُ المُنْذِرِ: فبيع العرايا جائزٌ على ما ثبتت به الأخبار عنه ◙، والَّذي رخَّص في بيع العرايا هو الَّذي نهى عن بيع التَّمر بالثَّمر في لفظٍ واحدٍ ووقتٍ واحدٍ، مِنْ رواية جابرٍ وسَهْلِ بنِ أبي حَثْمَةَ على ما تقدَّم في الباب قبل هذا، وليس قبول إحدى السُّنَّتين أَولى مِنَ الأخرى، ولا فرق بين نهيه ◙ عن بيع ما ليس عندك(27) وبين إذنه في السَّلم، وهو بيع ما ليس عندك، وبين نهيه عن بيع الثَّمر(28) بالثَّمر وإذنه في العرايا ومَنْ قَبِلَ إحدى السُّنَّتين وترك الأخرى فقد تناقض.


[1] في (ز): ((قال)).
[2] في المطبوع: ((بتمرٍ)).
[3] في (ز): ((بالمكيل)).
[4] في (ز): ((الثَّمر)).
[5] في (ز) صورتها: ((ينتظروا بها)).
[6] في (ز): ((الثَّمر)).
[7] قوله: ((وفي «صحيح مسلم» أنَّه ◙ أرخص في العرية يأخذها أهل البيت تمرًا يأكلونها رطبًا، وفي كتاب النَّسائي أنَّ رسول الله رخصَّ في بيع العرايا بالرُّطب وبالتَّمر، ولم يرخص في غير ذلك)) ليس في (ز).
[8] في (ز): ((فيه)).
[9] قوله: ((هي النَّخلات)) ليس في (ص).
[10] في (ز): ((فلا)).
[11] في (ز): ((عليه)).
[12] في (ز): ((الثَّمر)).
[13] في (ز): ((بثمرهم)).
[14] في (ز): ((ثمار)).
[15] في (ص): ((الثَّمر بالثَّمر)).
[16] في (ص): ((مكيلة فإنَّه بمنزلة)).
[17] في (ز): ((بيعه)).
[18] في (ز): ((فلا)).
[19] قوله: ((أوسق)) ليس في (ز).
[20] في (ز): ((لما)).
[21] قوله: ((وإنَّما يروى عن سهلٍ من قوله من رواية اللَّيث، عن جعفر بن أبي ربيعة، عن الأعرج قال: سمعت سهل بن أبي حثمة)) ليس في (ز).
[22] في (ز): ((الثَّمر)).
[23] زاد في المطبوع: ((أوسق))، وغير واضحة في (ص).
[24] في المطبوع: ((لا يجوز بيعها))، وغير واضحة في (ص).
[25] في المطبوع: ((على المعرِّي)).
[26] في المطبوع: ((بعيالهم)).
[27] قوله: ((عندك)) ليس في (ز).
[28] في المطبوع: ((التَّمر)).