شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: هل يبيع حاضر لباد بغير أجر؟وهل يعينه أو ينصحه؟

          ░68▒ بَابٌ هَلْ يَبِيعُ(1) حَاضِرٌ لِبَادٍ بِغَيْرِ أَجْرٍ وَهَلْ يُعِينُهُ أَوْ يَنْصَحُهُ؟
          وَقَالَ(2) صلعم: (إِذَا اسْتَنْصَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ(3) فَلْيَنْصَحْ لَهُ)، وَرَخَّصَ فِيهِ عَطَاءٌ.
          فيهِ جَرِيرٌ قَالَ:(4) بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ(5) صلعم عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَ اللهُ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، مختصرٌ. [خ¦2157]
          وفيهِ ابنُ عَبَّاسٍ، قَالَ(6) صلعم: (لَا تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ، وَلاَ يَبِعْ(7) حَاضِرٌ لِبَادٍ، فَقُلْتُ لابنِ عَبَّاسٍ: مَا قَوْلُهُ: لاَ يَبِعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ؟ قَالَ(8): لاَ يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا). [خ¦2158]
          نهى النَّبيُّ صلعم أن يبيع حاضرُ لبادٍ، عند العلماء أُريد(9) به نفع أهل الحضر(10)، لما روى سُفْيَانُ عن أبي الزُّبَيْرِ، عن جابرٍ أنَّ النَّبيَّ صلعم، قال: ((لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ)).
          قال الطَّحَاوِيُّ: فعلمنا مِنْ هذا(11) أنَّ الحاضر إنَّما نُهِيَ أن يبيع للبادي لأنَّ الحاضر يعلم أسعار الأسواق، فيستقصي على الحاضرين فلا يكون لهم في ذلك ربحٌ، وإذا باعهم أعرابيٌّ(12) على غرَّته وجهالته(13) بأسعار الأسواق ربح عليه الحاضرون، فأمر النَّبيُّ صلعم أن يُخلَّى بين الأعراب والحاضرين في البيوع.
          واختلف العلماء في ذلك، فأخذ قومٌ بظاهر الحديث، وكرهوا أن يبيع الحاضر للباد(14)، رُوِيَ ذلك عن أَنَسٍ وأبي هريرةَ وابن عُمَرَ، وهو قول مالكٍ واللَّيثِ والشَّافعيِّ.
          ورخَّص في ذلك آخرون، رُوِيَ ذلك عن عَطَاءٍ ومُجَاهِدٍ، وقال مُجَاهِدٌ: إنَّما نهى رسول الله عن ذلك صلعم(15) في زمانه، فأمَّا اليوم فلا، وهو قول أبي حنيفةَ وأصحابه، وقالوا: قد عارض هذا الحديث قوله ◙: ((الدُّينُ النَّصِيْحَةُ)) لكلِّ مسلمٍ. فيُقال لهم: ((الدِّينُ النَّصِيْحَةُ)) عامٌّ، و(لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ) خاصُّ، والخاصُّ يقضي على العامِّ، لأنَّ الخصوص استثناءٌ، كأنَّه قال ◙: الدِّين النَّصيحة إلَّا أنَّه لا يبع حاضرٌ لبادٍ، فيُستعملان جميعًا، فيُستعمل العامُّ منهما فيما عدا الخاصِّ.
          وقال مالكٌ في تفسير الحديث: لا أرى أن يبيع الحاضر للبادي ولا لأهل القرى، وأمَّا أهل المدن مِنْ أهل الرِّيف فليس بالبيع لهم بأسٌ، إلَّا مَنْ كان منهم يشبه أهل البادية، فإنِّي لا أحبُّ أن يبيع لهم حاضرٌ، وقال في البدويِّ يقدم المدينة فيسأل الحاضر عن السِّعر: أكره أن يُخبره، وقال مَرَّةً أخرى: لا بأس أن يُشير عليه، روى عنه ابن القَاسِمِ القولين جميعًا.
          وقال ابنُ المُنْذِرِ: قد(16) تأوَّل قومٌ(17) نهيه ◙ أن يبيع حاضرٌ / لبادٍ على وجه التَّأديب لا على معنى التَّحريم لقوله ◙: ((دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ)) قال: وليس يبين عندي أنَّ هذا الكلام يدلُّ على أنَّه نهي تأديبٍ، بل هو عندي على الحظر.
          واختلفوا هل يفسخ البيع؟ فروى عِيسَى عن ابن القَاسِمِ أنَّه يفسخ، فإن فات فلا شيء عليه، وروى سُحْنُونٌ عنه أنَّه يمضي البيع، وهو قول ابن وَهْبٍ والشَّافعيِّ.
          واحتجَّ الشَّافعيُّ على جواز البيع بقوله ◙: (دَعُوا النَّاَس يَرْزُقُ اللهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ) ولم يقع الفساد في ثمنٍ ولا مثمونٍ، ولا في عقد البيع، فلا ينبغي فسخه.


[1] في (ص): ((يبع)).
[2] زاد في (ز): ((النَّبيُّ)).
[3] في (ز): ((أخوه)).
[4] قوله: ((قال)) ليس في (ز).
[5] في (ز): ((النَّبيَّ)).
[6] زاد في (ز): ((النَّبيُّ)).
[7] في (ز): ((يبيع)).
[8] في (ز): ((فقال)).
[9] في (ز): ((حاضرٌ لبادٍ، فلمَّا أُريد)).
[10] في (ز): ((الأسواق)).
[11] في (ز): ((بهذا)).
[12] في (ز): ((الأعرابيُّ)).
[13] في (ز): ((وجهله)).
[14] في (ز): ((للبادي)).
[15] في (ز): ((إنَّما نهى عن ذلك رسول الله صلعم)).
[16] في (ز): ((وقد)).
[17] زاد في (ز): ((أنَّ)).