شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب بيع الملامسة

          ░62▒ بَابُ بَيْعِ المُلامَسَةِ
          قَالَ(1) أَنَسٌ: نَهَى النَّبيُّ صلعم عَنْهُ
          فيهِ أَبُو سَعِيدٍ: (نَهَى النَّبيُّ صلعم عَنِ المُنَابَذَةِ، وَهِي طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بِالبَيْعِ إِلَى الرَّجُلِ قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ، أَوْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَنَهَى عَنِ المُلامَسَةِ، وَالمُلامَسَةُ لَمْسُ الثَّوْبِ لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ). [خ¦2144]
          وفيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ: (نَهَى النَّبيُّ صلعم عَنِ اللِّمَاسِ وَالنِّبَاذِ). [خ¦2145]
          وترجم له: باب بيع(2) المنابذة. /
          لا يجوز بيع الملامسة والمنابذة عند جماعة العلماء، وهو مِنْ بيع الغرر والقمار، لأنَّه إذا لم يتأمَّل ما اشتراه ولا علم صفته فلا يدري حقيقته، وهو مِنْ أكل المال بالباطل، وكان مالكٌ يقول: المنابذة أن ينبذ الرَّجل ثوبه وينبذ الآخر إليه(3) ثوبه على غير تأمُّلٍ منهما، ويقول كلُّ واحدٍ منهما لصاحبه: هذا بهذا.
          ومِنْ هذا الباب بيع الشَّيء الغائب، واختلف العلماء في ذلك، فقال(4) مالكٌ: لا يجوز بيع الغائب(5) حتَّى يتواصفا(6) فإن وُجِدَ على الصِّفة لزم المشتري، ولا خيار له إذا رآه، وإن كان على غير الصِّفة فله الخيار. وهو قول أحمدَ وإِسْحَاقَ وأبي ثَوْرٍ والمَرْوَزِيِّ، ورُوِيَ مثله عن مُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ.
          وقال أبو حنيفةَ وأصحابه والثَّوْرِيُّ: يجوز بيع الغائب على الصِّفة وغير الصِّفة، وللمشتري خيار الرُّؤية إن وجده(7) على الصِّفة، ورُوِيَ مثله عن ابن عبَّاسٍ والشَّعْبِيِّ والنَّخَعِيِّ والحَسَنِ البصريِّ.
          وللشَّافعيِّ قولان: أحدهما كقول أبي حنيفةَ، والثَّاني: لا يجوز شراء الأعيان الغائبة، وهو قول الحَكَمِ وحَمَّادٍ، واحتجَّ الشَّافعيُّ بأنَّ مالكًا لم يُجز بيع الثَّوب المدرج في جرابه ولا الثَّوب المطويِّ في طيِّه حتَّى ينشر أو ينظر إلى ما جوفه(8)، وذلك مِنَ الغرر، وأجاز بيع الأعدال على الصِّفة والبرنامج، فأجاز الغرر الكثير ومنع اليسير، فيُقال له: قد سُئِلَ مالكٌ عن هذا فقال: فرق(9) ما(10) بين ذلك الأمر المعمول به وما مضى مِنْ عمل الماضين أنَّ بيع البرنامج لم يزل مِنْ بيوع النَّاس الجائزة بينهم، وأنَّه لا يُراد به الغرر ولا يُشبه الملامسة.
          واحتجَّ الكوفيُّون في جواز بيع ما لم يُرَ بأنَّ النَّبيَّ صلعم نهى عن بيع الحبِّ حتَّى يشتدَّ، فدلَّ ذلك على إباحة بيعه بعد ما يشتدُّ وهو في سنبله، لأنَّه لو لم يكن كذلك لقال: حتَّى يشتدَّ ويُزال(11) مِنْ سنبله، فلمَّا جعل الغاية في النَّهي عنه(12) هي شدَّته ويبوسته، دلَّ على أنَّ البيع بعد ذلك بخلاف ما كان عليه في أوَّل مَرَّةٍ، ودلَّ ذلك على جواز بيع ما لا يراه المتبايعان، إذا كانا يرجعان منه إلى معلومٍ، كما يرجع(13) في الحنطة المبيعة المغيَّبة في السُّنبل إلى حنطةٍ معلومةٍ.
          واحتجَّوا(14) بأنَّ الصَّحابة تبايعوا الأشياء الغائبة، فباع عُثْمَانُ مِنْ طَلْحَةَ دارًا بالكوفة بدارٍ بالبصرة، وباع عُثْمَانُ مِنْ عبدِ الرَّحمنِ فرسًا بأرضٍ له، وباع ابن عُمَرَ مِنْ عُثْمَانَ مالًا له بالوادي بمالٍ له بخيبر، وليس في الأحاديث عنهم صفة شيءٍ مِنْ ذلك.
          واحتجَّ أهل المقالة الأولى أن قالوا: إنَّ تبايع الصَّحابة للأشياء الغائبة محمولٌ إمَّا على الصِّفة، وإمَّا على خيار(15) الرُّؤية، وفي الخبر أنَّ عُثْمَانَ قيل له: غُبِنْتَ، فقال(16): لا أُبالي، لي الخيار إذا رأيت، فترافعا إلى جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ فقضى بالبيع، وجعل الخيار لعُثْمَانَ لأجل الغبن.
          قالوا: وقد صحَّت الأخبار بنهيه ◙ عن بيع(17) الملامسة والمنابذة، وإنَّما كان سبب بطلان ذلك أنَّ المبيع كان يدخل في ملك المبتاع قبل تأمُّله إيَّاه ووقوفه على صفته، فكلُّ ما اشتُرِيَ كذلك مِنْ غير صفةٍ ولا رؤيةٍ(18) فحكمه حكم بيع الملامسة والمنابذة.
          وأمَّا قول الشَّافعيِّ: إنَّ البيع على الصِّفة وبيع(19) البرنامج(20) مِنْ بيوع الغرر، فالجواب عنه: أنَّ الصِّفة تقوم مقام المعاينة، لأنَّ العلم يقع بحاسَّة السَّمع والشَّمِّ والذَّوق كما يقع بحاسَّة العين.
          وقد أجاز الجميع(21) بيع الطَّعام المُصَبَّر، والجوز في قشره، والحبِّ في سنبله، للحاجة إلى ذلك، ولأنَّ القصد لم يكن إلى الغرر، فكذلك يجوز بيع الأعدال على الصِّفة والبرنامج لضرورة النَّاس إلى البيع، لأنَّهم لو مُنعوا منه مُنعوا مِنْ وجهٍ يرتفقون به مِنْ فتح الأعدال ونشرها لمشقَّة ذلك عليهم، فإنَّه قد لا يشتريها مَنْ يراها، فجاز بيعها على الصِّفة، لأنَّها تقوم مقام العيان، كما تقوم في السَّلم، وجواز بيعه كجواز بيع العين، وليس الأعدال كالثَّوب الواحد المطويِّ أو الثَّوبين، لأنَّ نشرهما وطيَّهما لا مؤنةٌ فيه ولا ضررٌ، وقد قال ◙: ((لَا تَصِفُ المَرْأَةُ المَرْأَةَ لِزَوْجِهَا حَتَّى كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا))، فأقام الصِّفة مقام الرُّؤية. /


[1] في (ز): ((فيه)).
[2] قوله: ((بيع)) ليس في (ص).
[3] قوله: ((إليه)) ليس في (ز).
[4] في المطبوع: ((وقال)).
[5] قوله: ((واختلف العلماء في ذلك، فقال مالك: لا يجوز بيع الغائب)) ليس في (ص).
[6] في (ز) صورتها: ((يتواصفاه)).
[7] في (ص) تحتمل: ((وجد)).
[8] في المطبوع: ((جوفهما))، وفي (ص): ((ينشر وينظر إلى ما في جوفهما)).
[9] في (ص): ((قدر)).
[10] قوله: ((ما)) ليس في (ز).
[11] في (ز): ((ويبرأ)).
[12] في (ز): ((في البيع المنهيِّ عنه)).
[13] في (ص): ((يرجعان)).
[14] زاد في (ز): ((أيضًا)).
[15] في (ز): ((غير)).
[16] في (ص): ((قال)).
[17] قوله: ((بيع)) ليس في (ص).
[18] في (ز): ((من غير رؤيةٍ ولا صفةٍ)).
[19] في (ز): ((وبيع)) غير واضحة.
[20] زاد في (ز): ((هو)).
[21] في (ز): ((الجمع)).