شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا

          ░44▒ بَابُ البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا(1)
          وَبِهِ قَالَ ابنُ عُمَرَ وَشُرَيْحٌ والشَّعْبِيُّ(2) وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ وَابنُ أبي مُلَيْكَةَ.
          فيهِ حَكِيمٌ(3)، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا في بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا). [خ¦2110]
          وفيهِ ابنُ عُمَرَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (المُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلَّا بَيْعَ الخِيَارِ). [خ¦2111]
          وترجم لهما(4): بَابُ إِذَا كَانَ البَائِعُ بِالخَيَارِ هَلْ يَجُوْزُ البَيْعُ؟
          اختلف العلماء في معنى التَّفرُّق المذكور في هذا الحديث، فذهبت طائفةٌ إلى أنَّ المراد به التَّفرُّق بالأبدان، وأنَّ المتبايعين(5) إذا عقدا بيعهما، فكلُّ واحدٍ منهما بالخيار في إتمامه وفسخه ما داما في مجلسهما لم يفترقا(6) بأبدانهما، رُوِيَ هذا القول عن ابنِ عُمَرَ وأبي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ وجماعةٍ مِنَ التَّابعين، ذكرهم البخاريُّ / وقد رُوِيَ عن سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ والزُّهْرِيِّ، وبه قال اللَّيْثُ وابنُ أبي ذِئْبٍ(7) والثَّوْرِيُّ والأوزاعيُّ و أبو يوسفَ والشَّافعيُّ وأحمدُ وإِسْحَاقُ وأبو ثَوْرٍ.
          وذهبت طائفةٌ إلى أنَّ البيع يتمُّ بالقول دون الافتراق بالأبدان، ومعنى قوله ◙: (البَيِّعَانِ(8) بِالخَيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا(9)) أنَّ البائع إذا قال له: قد بعتك، فله أن يرجع ما لم يقل المشتري: قد قبلت. والمتبايعان هما المتساومان. رُوِيَ هذا القول عن النَّخَعِيِّ، وهو قول رَبِيْعَةَ ومالكٍ وأبي حنيفةَ ومُحَمَّدٍ. واحتجَّ مَنْ جعل التَّفرُّق بالأبدان بأنَّ ابنَ عُمَرَ راوي(10) الحديث وهو أعلم بمخرجه، وقد رُوِيَ عنه أنَّه بايع عُثْمَانَ بنَ عَفَّانَ قال: فرجعت على عقبي كراهة أن يُرَادَّنِي البيع.
          قالوا: فالتَّفرُّق عند ابنِ عُمَرَ بالبدن لا باللَّفظ. وقالوا: إنَّ مَنْ جعل المتبايعين في هذا الحديث المتساومين لا وجه له لأنَّه معقولٌ أنَّ كلَّ واحدٍ في سلعته بالخيار قبل السَّوم، وما دام متساومًا(11) حتَّى يمضي البيع ويعقده، وكذلك المشتري بالخيار قبل الشِّراء وفي(12) حال(13) المساومة، وإذا كان هذا كذلك(14) بطلت فائدة الخبر، وقد جلَّ رسول الله صلعم عن أن يُخبر بما(15) لا فائدة فيه.
          واحتجَّ(16) عليهم مَنْ جعل التَّفرُّق بالقول فقال(17): أمَّا قولكم أنَّ(18) مَنْ جعل المتبايعين المتساومين لا وجه له، لأنَّه لا يكون في الكلام فائدةٌ، فالجواب عن ذلك أنَّ فائدته صحيحةٌ، وذلك أنَّ المتبايعين لا يبعد أن يختلفا قبل الافتراق بالأبدان، فلو كان كلُّ واحدٍ منهما بالخيار لم يجب على البائع ثمنٌ(19) ولا تَرَادٌّ لأنَّ التَّرَادَّ إنَّما يكون فيما قد تمَّ مِنَ البيوع.
          قال الطَّحَاوِيُّ: ومَنْ لم يسمِّ المتساومين متبايعين فقد أغفل سعة اللُّغة، لأنَّه يحتمل أن يتسمَّيا متبايعين لقربهما مِنَ التَّبايع وإن لم يتبايعا، كما سُمِّي إِسْحَاقُ ذبيحًا لقربه مِنَ الذَّبح وإن لم يكن ذُبِحَ، وقد سمَّى النَّبيُّ صلعم المتساومين متبايعين، فقال ◙: ((لَا يَسُومُ الرَّجُلُ عَلَى سَومِ أَخِيْهِ)) وقال: ((لَا(20) يَبِعِ الرَّجُلُ عَلَى بِيْعِ أَخِيْهِ)) ومعناهما واحدٌ، وهو اللَّازم لهم، والتَّفرُّق في لسان العرب بالكلام معروفٌ كعقد النِّكاح، وكوقوع الطَّلاق الَّذي سمَّاه(21) الله فراقًا، قال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِّنْ سَعَتِهِ}[النِّساء:130]وأجمعت الأمَّة أنَّ التَّفرُّق في هذه الآية أن يقول لها: أنت طالقٌ. وقال ◙: ((تَفْتَرِقُ أُمَّتِي)) ولم يُرد التَّفرُّق بالأبدان.
          وأجمعوا أنَّ رجلًا لو اشترى قرصًا أو.....(22) ماء، فأكل القرص أو شرب الماء قبل التَّفرُّق لكان ذلك له جائزًا، وكان قد أكل ماله، وسيأتي عند(23) ذكر مبايعة ابن عُمَرَ لعُثْمَانَ بعد هذا إن شاء الله فبان مذهب ابن عُمَرَ، وأنَّه حُجَّةٌ لمَنْ قال التَّفرُّق(24) بالكلام.
          قال ابن المُنْذِرِ: وإثبات النَّبيِّ صلعم الخيار للمتبايعين ما لم يفترقا(25)، إنَّما هو على ما سوى بيع الخيار لقوله ◙: ((المُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالخَيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا(26) إِلَّا بَيْعَ الخَيَارِ)). فاستثنى بيع الخيار فيما(27) قد تمَّ فيه البيع بالتَّفرُّق، وبقي الخيار في بيع الخيار بعد التَّفرُّق حتَّى يتمَّ أمد الخيار فيختار البيع أو يردَّ.


[1] في (ص): ((يفترقا)).
[2] قوله: ((والشَّعبيُّ)) ليس في (ص).
[3] زاد في (ص): ((قال)).
[4] في (ص): ((له)).
[5] في (ص): ((المتبايعان)).
[6] في (ز): ((يتفرَّقا)).
[7] في (ز): ((ذؤيب)).
[8] في (ز): ((البائعان)).
[9] في (ز): ((يتفرَّقا)).
[10] في (ز): ((روى)).
[11] في (ز): ((مساومًا)).
[12] في (ص): ((في)).
[13] في (ز): ((حين)).
[14] في (ص): ((كلَّه)).
[15] في (ص): ((فيما)).
[16] في (ز): ((فاحتجَّ)).
[17] في (ز): ((فقال)).
[18] قوله: ((أنَّ)) ليس في (ز).
[19] في (ز) صورتها: ((يمينٌ)).
[20] في (ص): ((أخيه ولا يبع)).
[21] في (ز): ((سمَّى)).
[22] في (ز) و(ص): قد كلمتين غير واضحتين، ولعلَّه اسم وعاء للماء.
[23] قوله: ((عند)) ليس في (ص).
[24] في (ز): ((بالتَّفرُّق)).
[25] في (ص): ((يفترقا)).
[26] في (ز): ((يتفرَّقا)).
[27] في (ز): ((ممَّا)).