شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات

          ░2▒ بَابٌ الحَلالُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبَهَاتٌ
          فيهٍ النُّعْمَانُ بنُ بَشِيرٍ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (الحَلالُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشَتَبِهَةٌ(1)، فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ، كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ، وَمَنِ اجْتَرَأَ على مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإثْمِ، أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ، وَالمَعَاصِي حِمَى اللهِ، مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ). [خ¦2051]
          قال المُؤَلِّفُ:(2) ما نصَّ الله تعالى على تحليله فهو الحلال البيِّن، كقوله تعالى: {اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}[المائدة:5]{وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ}[البقرة:275]{وَأُحِلَّ لَكُمْ(3) مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ}[النِّساء:24]وما نصَّ تعالى(4) على تحريمه فهو الحرام البيِّن، مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}[النِّساء:23]إلى آخر الآية {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}[المائدة:96]وتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وكلُّ(5) ما جعل الله فيه حدًّا أو عقوبةً أو وعيدًا(6) فهو الحرام، كأكل أموال اليتامى، وأكل أموال(7) النَّاس بالباطل، وهذا بابٌ يتَّسع القول فيه، وهو واضحٌ يُغني عن تدبُّره وطلبه، وأمَّا المشتبهات فكلُّ ما تنازعته الأدلَّة من الكتاب والسُّنَّة وتجاذبته المعاني، فوجهٌ منه يعضده دليل الحرام، ووجهٌ منه يعضده دليل الحلال، فهذا هو(8) الَّذي قال فيه ◙: (وَبِيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ)، وقال فيه: (مَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ فَقَدِ استَبْرَأَ لِدِيْنِهِ وَعِرْضِهِ)، فالإمساك عنه ورعٌ، والإقدام عليه لا يقطع عالمٌ بتحريمه لأنَّ الحرام ما عُرِفَ بعينه منصوصًا عليه أو في معنى المنصوص.
          وقد اختلف العلماء في(9) معنى (الشُّبُهَاتِ)، فقالت طائفةٌ: الشُّبهات الَّتي أشار إليها ◙ في هذا الحديث حرامٌ أو في حيِّز الحرام، واستدلُّوا بقوله ◙: (فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ استَبْرَأَ لِدِيْنِهِ وَعِرْضِهِ)، قالوا: ومن لم يستبرئ لدينه وعرضه(10) فقد واقع الحرام.
          وقال آخرون: الشُّبهات المذكورة في هذا الحديث حلالٌ بدليل قوله ◙ فيه: (كَالرَّاعِي حَوْلَ الحِمَى) فجعل الشُّبهات ما حول الحمى، وما حول الحمى غير الحمى، فدلَّ أنَّ ذلك حلالٌ وأن تركه ورعٌ، والورع عند ابن عُمَرَ ومَنْ ذهب مذهبه ترك قطعةٍ مِنَ الحلال خوف مواقعة الحرام.
          وقال آخرون: الشُّبهات لا نقول إنَّها حلالٌ ولا إنَّها حرامٌ، لأنَّ النَّبيَّ صلعم قال: (الحَلَالُ
           / بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ) وجعل الشُّبهات غير الحلال البيِّن والحرام البيِّن(11)، فوجب أن نتوقَّف عندها، وهذا مِنْ باب الورع أيضًا، ويقضي عليه قوله ◙: (لا يعلمها كثير من الناس) فدل أن منهم من يعلمها، فمن علمها فهي عنده في أحد الحيِّزين الحلال أو الحرام، وسأتقصَّى الكلام في هذا المعنى في الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى.
          وقال أبو الحَسَنِ بنِ القَابِسِيِّ: افهموا تكرير أسانيد هذا الحديث، ذُكِرَ في الإسنادين الأوَّلين الشَّعْبِيُّ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ سَمِعْتُ النَّبيَّ صلعم، وفي(12) الإسناد الثَّالث النُّعْمَانُ عن النَّبيِّ صلعم، وفي الرَّابع النُّعْمَانُ(13) قال النَّبيُّ صلعم، وإنَّما ذُكِرَ هذا لأنَّ يحيى بنَ مَعِيْنٍ قال: قال أهل المدينة: إنَّ النُّعْمَانَ بنَ بَشِيْرٍ لا يصحُّ له سماعٌ مِنَ النَّبيِّ صلعم حديثٌ علنيٌّ، أي فلا بدَّ أنَّه عَقِلَ عن النَّبيِّ صلعم مجاوبته لأبيه(14).


[1] في (ز): ((وبينهما مشتبهاتٌ)).
[2] قوله: ((قال المؤلِّف:)) ليس في (ز).
[3] قوله: (({وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ}، {وَأُحِلَّ لَكُمْ})) ليس في (ز).
[4] قوله: ((تعالى)) ليس في (ص).
[5] في (ز): ((وكان)).
[6] في (ص): ((وعدًا)).
[7] في (ص): ((اليتامى وأموال)).
[8] قوله: ((هو)) ليس في المطبوع و(ص).
[9] زاد في (ز): ((حمله)).
[10] قوله: ((قالوا: ومن لم يستبرئ لدينه وعرضه)) ليس في (ص).
[11] في (ص): ((البيِّن والحرام البيِّن)) غير واضحة.
[12] في (ص): ((في)).
[13] قوله: ((النُّعمان)) ليس في (ص).
[14] العبارة في (ص): ((لا يصحُّ له سماعٌ من النَّبيِّ ◙، وقال أهل العراق: سماعه منه صحيحٌ والَّذي يشهد لصحَّة سماعه من النَّبيِّ ◙ حديث أبي قلابة أنَّه عَقِلَ عن النَّبيِّ صلعم مجاوبته لأبيه)).