شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها

          ░85▒ بَابُ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ / يَبْدُوَ صَلاَحُهَا
          وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ أبي الزِّنَادِ: (كَانَ عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ(1) يُحَدِّثُ عَنْ سَهْلِ بنِ أبي حَثْمَةَ الأَنْصَارِيِّ(2)، عَنْ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ، قَالَ: كَانَ النَّاسُ في عَهْدِ رَسُولِ اللهِ(3) صلعم يَتَبَايَعُونَ الثِّمَارَ، فَإِذَا جَدَّ النَّاسُ وَحَضَرَ تَقَاضِيهِمْ(4)، قَالَ المُبْتَاعُ:(5) أَصَابَ الثَّمَرَ الدُّمَانُ، أَصَابَهُ مُرَاضٌ _أَصَابَهُ قُشَامٌ_ عَاهَاتٌ يَحْتَجُّونَ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ(6) صلعم لَمَّا كَثُرَتْ(7) الخُصُومَةُ في ذَلِكَ: فإمَّا(8) لَا، فَلَا تَتَبَايَعُوا(9) حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُ الثَّمَرِ، كَالمَشُورَةِ يُشِيرُ بِهَا لِكَثْرَةِ خُصُومَتِهِمْ).
          وَكَانَ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ لاَ يَبِيعُ ثِمَارَ أَرْضِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا، فَيَتَبَيَّنَ الأَصْفَرُ مِنَ الأَحْمَرِ(10).
          وفيهِ(11) ابنُ عُمَرَ: (نَهَى النَّبيُّ صلعم عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، نَهَى البَائِعَ وَالمُبْتَاعَ). [خ¦2194]
          وفيهِ أَنَسٌ: (نَهَى النَّبيُّ صلعم أَنْ يُبَاعَ النَّخْلُ حَتَّى تَزْهُوَ). قَالَ: يعني تَحْمَرَّ. [خ¦2195]
          وفيهِ جَابِرٌ: (نَهَى النَّبيُّ صلعم أَنْ تُبَاعَ الثَّمَرَةُ حَتَّى تُشَقِّحَ، قِيْلَ: وَمَا(12) تُشَقِّحُ؟ قَالَ: حَتَّى(13) تَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ وَيُؤْكَلُ مِنْهَا). [خ¦2196]
          قالَ الطَّحَاوِيُّ: وذهب(14) قومٌ إلى هذه الآثار فقالوا: لا يجوز بيع الثَّمر في رؤوس النَّخل حتَّى تحمرَّ أو تصفرَّ. قال غيره: وهو قول مالكٍ واللَّيْثِ والثَّوْرِيِّ والأوزاعيِّ والشَّافعيِّ وأحمدَ وإِسْحَاقَ، وذهب أبو حنيفةَ وأبو يُوسُفَ إلى أنَّه يجوز بيعها إذا تخلَّقت(15) وظهرت، وإن لم يبد صلاحها، واحتجُّوا بقوله ◙: ((مَنِ ابتَاعَ ثَمَرَةً قَبْلَ(16) أَنْ تُؤَبَّرَ(17) فَثَمَرَتُهَا للبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا المُبْتَاعُ)) فأباح ◙ بيع ثمره في رؤوس النَّخل قبل بدوِّ صلاحها، وقالوا: لمَّا لم يدخل بعد الإبار في الصَّفقة إلَّا بالشَّرط جاز بيعها منفردةً، فدلَّ هذا أن نهيه ◙ عن بيع الثِّمار حتَّى يبدو صلاحها، المراد به غير هذا المعنى، وهو النَّهي عن السَّلم في الثِّمار في غير حينها وقبل أن تكون، وأمَّا بيع الثِّمار بعدما ظهرت في أشجارها فجائزٌ عندنا.
          [قالَ المؤلِّفُ: فيُقَالُ لأبي حنيفةَ: قد يدخل في عقد البيع أشياءٌ لو أفردت بالبيع لم يجز بيعها مفردةً وتجوز في البيع تبعًا لغيرها، مِنْ ذلك أنَّه يجوز بيع الأَمَةِ والنَّاقة حاملتين، ولا يجوز عند أحدٍ مِنَ الأمَّة بيع الجنين دون أمِّه، لنهيه ◙ عن(18) حبل الحبلة، إنَّما(19) لم يجز إفراد الجنين بالبيع، لأنَّه مِنْ بيع الغرر المنهي عنه.
          ونظير نهيه ◙ عن بيع الجنين في بطن أمِّه نظير نهيه عن بيع الثَّمرة قبل بدوِّ صلاحها، لأنَّ ذلك كلَّه مِنْ بيع ما لم يخلق ولم يتمَّ، ممَّا(20) يحتمل أن يكون موجودًا أو غير موجودٍ، وذلك مَنْ أكل المال بالباطل، وجاز أن يكون الجنين تبعًا لأمِّه، والثَّمرة تبعًا لأصلها في البيع، لأنَّهما إن هلكا فلم يكونا المقصد بالشِّراء، وإنَّما قصد إلى أمِّ الجنين، وإلى أصل الثَّمرة، فافترقا لهذه العلَّة، مع أنَّ حديث جابرٍ وحديث أَنَسٍ في النَّهي عن بيع الثِّمار حتَّى يبدو صلاحها يُغنيان عن حجَّة سواهما، لأنَّه قد فسَّر فيهما أنَّ المراد ببدوِّ صلاح الثِّمار أن تحمرَّ أو تصفرَّ، وذلك علامة صلاحها للأكل، ألا ترى قوله ◙ في حديث جابرٍ: ((حَتَّى تَحْمَارَّ أو تَصْفَارَّ ويُؤْكَلُ مِنْهَا(21))) فلا تأويل لأحدٍ مع تفسير النَّبيِّ صلعم فهو المقنع والشِّفاء.
          قال(22) بعض الكوفيِّين: إنَّ نهيه ◙ عن بيع الثِّمار حتَّى يبدو صلاحها لم يكن منه على(23) التَّحريم، وإنَّما كان على طريق(24) الأدب والمشورة منه عليهم لكثرة ما كانوا يختصمون إليه فيه، واحتجُّوا بحديث زَيْدِ بنِ ثابتٍ، وأئمَّة الفتوى على خلاف قولهم، والنَّهي عندهم محمولٌ على التَّحريم، وتخصيصه ◙ البائع والمبتاع بالذِّكر يدلُّ على تأكيد النَّهي في ذلك، لأنَّ النَّهي إذا ورد عن الله تعالى وعن رسوله ◙ فحقيقته الزَّجر عمَّا ورد فيه، لقوله تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}[الحشر:7]ومعنى النَّهي عن ذلك عند عامَّة العلماء خوف الغرر، لكثرة الجوائح فيها، وقد بيَّن النَّبيُّ صلعم ذلك(25) بقوله: ((أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ، فَبِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيْهِ؟)) فنهى عن أكل المال بالباطل، فإذا بدا صلاحها واحمرَّت أُمنت العاهة عليها في الأغلب، وكثر الانتفاع بها لأكلهم إيَّاها]
(26) / رطبًا، فلم يكن قصدهم لشِّرائها(27) الغرر، وأمَّا فعل زَيْدِ بنِ ثابتٍ في مراعاته طلوع الثُّريا، فقد رُوِيَ عن عَطَاءٍ(28) عن أبي هريرةَ عن النَّبيِّ صلعم أنَّه قالَ: ((إِذَا طَلَعَ النَّجْمُ صَبَاحًا رُفِعَتِ العَاهَةُ عَنْ أَهْلِ البَلَدِ)) يعني: الحجاز، والله أعلم، والنَّجم: هو الثُّريا، وطلوعها صباحًا لاثنتي عشرة(29) يعني تروح(30) مِنْ شهر مائة.
          وقال عيسى بنُ دِيْنَارٍ: كان مالكٌ لا يرى العمل بفعل زَيْدِ بنِ ثابتٍ، وكان لا يجيز بيعها إلَّا حين تزهي، اتَّباعًا لنصِّ الحديث. وقال غيره: كان بيع زَيْدٍ لها إذا بدا صلاحها، لأنَّ الثُّريا إذا طلعت آخر اللَّيل بدا صلاح الثَّمار بالحجاز خاصَّةً، لأنَّ الحجاز أشدُّ حرًّا مِنْ غيره. وقال ابنُ القَاسِمِ: عن مالكٍ: لا بأس أن يُباع الحائط وإن لم يزه: إذا أزهى ما حوله مِنَ الحيطان، وكان الزَّمان قد أُمنت العاهة فيه. ولا يجوز عند الشَّافعيِّ.
          واختلفوا في بيع جميع الحائط فيه أجناس الثَّمر يطيب جنسٌ واحدٌ منه(31) فقال مالكٌ: لا أرى أن يُباع إلَّا ذلك الصِّنف الَّذي طاب أوَّله دون غيره، وبه قال(32) الشَّافعيُّ.
          وقالَ اللَّيْثُ: لا بأس أن تُباع الثَّمار كلَّها متَّفقة الأجناس أو مختلفةٌ، يطيب جنسٌ منها(33)، أو مخالفٌ لها(34)، واحتجَّ بأنَّ النَّبيَّ صلعم نهى عن بيع الثِّمار حتَّى يبدو صلاحها، فعم الثَّمار كلَّها، فإذا بدا الصَّلاح في شيءٍ منها فقد بدا الصَّلاح في الثِّمار كلِّها، لأنَّه لم يخصَّ ◙.
          وقالَ أبو عُبَيْدٍ: قالَ الأَصْمَعِيُّ: إذا انشقَّت النَّخلة عن عفنٍ أو سوادٍ قيل: أصابه الدُّمان. [قالَ: وقالَ ابنُ أبي الزِّنَادِ: هو الإدمان.(35) الأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ(36) للتَّمر العفن: الدُّمان.
          (37) ابنُ دُرَيْدٍ: الدُّمان داءٌ يصيب النَّخل، فيسودُّ طلعه قبل أن يلقح. وقالَ أبو حنيفةَ: الدُّمان التَّمر الَّذي قد عتق جدًا ففسد، وأصل الدُّمان السَّماد.
          قالَ الأَصْمَعِيُّ: وإذا انتقض ثمر النَّخل قبل أن يصير بلحًا قيل: قد(38) أصابه القُشام، فإذا كثر نقض النَّخلة وعظم ما بقي مِنْ بسرها قيل: خردلت. وقال غيره: القُشام أكال يقع في التَّمر مِنَ القشم وهو الأكل. وذكر الطَّحَاوِيُّ في حديث عُرْوَةَ عن سَهْلٍ عن زَيْدٍ: والقُشام: شيءٌ يصيبه حتَّى لا يرطب.
          وقوله: (إِمَّا لَا فَلَا تَتَبَايَعُوا(39)) قالَ سيبويه: معناه: افعل هذا إن كنت لا تفعل غيره. وقالَ ابنُ الأَنْبَاِرِّي: أُدخلت(40) (ما) صلة لـ (إن) كما قال تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَدًا}[مريم:26]فاكتفى بلا مِنَ الفعل كما تقول العرب: مَنْ سلَّم عليك فسلِّم عليه، ومَنْ لا فلا. معناه: ومَنْ لم يُسلِّم عليك فلا تُسلِّم عليه، فاكتفى بلا مِنَ الفعل، وأجاز الفرَّاءُ: مَنْ أكرمني أكرمته، ومَنْ لا لم أكرمه، بمعنى: ومَنْ لم يكرمني لم أكرمه.]
(41)


[1] قوله: ((ابن الزُّبير)) ليس في (ز).
[2] قوله: ((الأنصاريِّ)) ليس في (ز).
[3] في (ز): ((النَّبيِّ)).
[4] في (ز): ((تقاضيها)).
[5] زاد في (ز): ((إنَّه قد)).
[6] في (ز): ((النَّبيُّ)).
[7] زاد في (ز): ((عنه)).
[8] في (ز): ((أمَّا)).
[9] في (ص): ((تبتاعوا)).
[10] في (ز): ((الأحمر من الأصفر)).
[11] في (ز): ((فيه)).
[12] في (ص): ((تشقِّح فقال ما)).
[13] قوله: ((حتَّى)) ليس في (ز).
[14] في (ز): ((ذهب)).
[15] في (ز): ((خلقت)).
[16] في المطبوع: ((نخلًا قبل))، وفي (ز): ((نخلًا بعد)).
[17] في (ز): ((يؤبَّر)).
[18] زاد في المطبوع: ((بيع)).
[19] في المطبوع: ((وإنَّما)).
[20] في المطبوع: ((وممَّا)).
[21] في (ز): ((منهما)).
[22] في المطبوع: ((وقال)).
[23] زاد في المطبوع: ((وجه)).
[24] في المطبوع: ((وجه)).
[25] في المطبوع: ((وقد بيَّن ذلك ◙)).
[26] ما بين معقوفتين مطموس في (ص).
[27] في (ز): ((بشرائها)).
[28] في (ز): ((فقد روى عطاء)).
[29] في(ز) صورتها: ((لاثني عشر)).
[30] في (ز): ((لاثني عشر تمضي)).
[31] في المطبوع: ((منها)).
[32] في (ز): ((وهو قول)).
[33] قوله: ((منها)) ليس في (ص).
[34] قوله: ((لها)) ليس في (ز).
[35] زاد في المطبوع: ((قال)).
[36] في المطبوع: ((ويقال)).
[37] زاد في المطبوع: ((قال)).
[38] قوله: ((قد)) ليس في المطبوع.
[39] في المطبوع: ((تبايعوا)).
[40] في المطبوع: ((دخلت)).
[41] ما بين معقوفتين مطموس في (ص).