مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب: حسن المعاشرة مع الأهل

          ░82▒ باب حُسن المعاشرة مع الأهل
          ثنا سليمان بن عبد الرحمن بسنده عن عائشة قالت: جلس إحدى عشرة امرأة، الحديث بطوله.
          وهو حفيل عظيم كثير الفوائد أفرد بالتأليف أفرده أبو القسم ابن حبان والقاضي ابن قتيبة(1)، وقد أخرجه (م) أيضاً في ((صحيحه)) وكذا (ت) في شمائله، و(ن) في عشرة النساء عن علي بن حجر به.
          هذا الحديث أخرجه (ن) مرة من حديث عباد بن منصور عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، والمحفوظ حديث هشام عن أخيه قال عياض في سند هذا الحديث ورفعه مع أنه لا اختلاف في صحته وأن الأئمة قد قبلوه ولا مخرج / له فيما انتهى إلي إلا من رواية عروة عن عائشة، فروي من غير طريق عن عروة عنها من قول رسول الله هكذا، رواه عباد بن منصور والدراوردي، وعبد الله بن مصعب الزبيري، ويونس ابن أبي إسحاق؛ كلهم عن هشام، عن أبيه، عنها، عن رسول الله. وكذا رواه أبو معشر عن هشام، لكنه قال: عن هشام وغيره من أهل المدينة، عن عروة، عنها مرفوعاً بطوله.
          وكذا رفعه القاسم بن عبد الواحد، إلا أنه قال: حدثني عمر بن عبد الله بن عروة، عن عروة، عنها، مرفوعاً، كذا ذكره (ن). وقال الدارقطني: عمر، عن أبيه، عن عائشة، جعلوه من قول الله نصًّا من غير احتمال، وأسندوه بطوله.
          وكذا ظاهر رواية حنبل بن إسحاق، عن موسى بن إسماعيل، عن سعيد بن سلمة عن هشام، إلا أنه قال: عن هشام، عن أخيه، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال لي رسول الله: ((كنت لك كأبي زرع لأم زرع)) ثم أنشأ يحدث حديث أم زرع بطوله وكذا رواه جماعة.
          وفي رواية ابن حبيب: قالت عائشة: فكان رسول الله كثيراً ما يقول لها إذا عبر: ((يا عائشة كنت لك كأبي زرع لأم زرع)). زاد في بعض الروايات: ((إنه طلقها وإني لا أطلقك)) ذكرها أحمد بن خالد في ((مسنده)). وعند ابن الأنباري: ((كنت لك كأبي زرع لأم زرع في الألفة والوفاء لا في الفرقة والجلاء)) وقال عروة: إنما يرد هذا الحديث بهذا الحرف، فذكره.
          قال القاضي: ولا خلاف في قوله: ((كنت لك كأبي زرع لأم زرع)) والخلاف في بقيته. وقال الخطيب أبو بكر: المرفوع من ((كنت)) إلى آخره، وما عداه فمن كلام عائشة حدثت به هي رسول الله، بين ذلك عيسى بن يونس في روايته، وأبو إدريس، وأبو معاوية، وقد روي أن القائل في حديث سعيد بن سلمة: ((ثم أنشأ يحدث الحديث)) هو هشام، حكى أن أباه أنشأ يحدث الحديث، فأوهم السامع من ذلك أن عائشة أخبرت به عن رسول الله. وقال الآجري، عن أبي داود: لما حدث هشام بن عروة بحديث أم زرع هجره أبو الأسود، يتيم عروة، وقال: لم يحدث عروة بهذا، إنما كان تحديثاً بهذا يقطع السفر.
          وفي كتاب العقيلي: قال أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن: لم يكن أحد يرفع حديث أم زرع غير هشام. وقال الدارقطني: الصحيح عن عائشة أنها هي حدثت رسول الله بقصة النسوة، فقال لها حينئذ: ((كنت لك)) إلى آخره.
          والخبر الذي حكاه ابن الأنباري من رواية الهيثم بن عدي، عن هشام أنها قالت: جلس إحدى عشرة امرأة في الجاهلية. والهيثم متكلم فيه. وفي الخبر الذي رواه الدراوردي أنهن من بطن من بطون اليمن، وأنهن اجتمعن بقرية من قرى اليمن. وروي أيضاً في هذا الحديث من رواية أحمد بن عبيد بن ناصح، عن الهيثم بسنده، عن عائشة قالت: قال لي رسول الله وقد اجتمع نساؤه ليخصني بذلك: ((يا عائشة كنت لك كأبي زرع لأم زرع)) قلت: يا رسول الله، ومن أبو زرع؟ فقال: ((اجتمع نسوة من قريش بمكة، إحدى عشرة امرأة..)) وساق الحديث، وهو مخالف للأول.
          قال عياض: وقرأت في بعض كتب الأدباء أن امرأة زوجت إحدى عشرة ابنة لها في ليلة واحدة ودخل بهن أزواجهن، فأمهلتهن سنة ثم زارتهن، فسألت كل واحدة عن زوجها. فأخبرتها بصفة، فوافق حديث أم زرع صاحبة ((المس مس أرنب)) بنصه، وصاحبة ((رفيع العماد))، وصاحبة ((زوجي لحم جمل غث))، وخالف في البواقي.
          ويشبه أنه موضوع، فإن ألفاظه تنبئ عن ذلك، ركب على بعض حديث أم زرع، ولا يصح أن يكون هو هذا؛ لصحة حديث أم زرع وضعف هذا، وإنما ذكرنا في بعض روايات حديث أم زرع / دل أنهن غير أخوات. وأما أسماؤهن: فقال الخطيب: لا أعلم أحداً سمى النسوة في حديثه إلا من الطريق الذي أذكره، وهو غريب جدًّا، ثم ساقه من حديث الزبير بن بكار، حدثني محمد بن الضحاك الحزامي، عن الدراوردي، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: دخل علي رسول الله صلعم وعندي بعض نسائه فقال: ((أنا لك كأبي زرع)) قلت: يا رسول الله، وما حديث أبي زرع؟ فقال: ((إن قرية من قرى اليمن كان بها بطن من بطون اليمن، وكان منهن إحدى عشرة امرأة، وإنهن خرجن إلى مجلس من مجالسهن)) فذكر الحديث.
          وسمى الثانية عمرة بنت عمرو، والثالثة حُيى بنت كعب، والرابعة مهرة بنت أبي هزومة، أو مرومة، والخامسة كبشة، والسادسة هند، والسابعة حُبَّى بنت علقمة، والثامنة ياسر بنت أوس بن عبد، والتاسعة كبشة بنت الأرقم وأم زرع بنت أكيمل بن ساعدة(2). قلت: وكما ساقه أبو القاسم عبد الحكيم بن حبان في كلامه على هذا الحديث من هذا الوجه، ساقه من طريق الأسود بن جبير المعافري، قال: دخل رسول الله على عائشة وفاطمة، وقد جرى بينهما كلام فقال: ((ما أنت بمنتهية يا حميراء أو يا شقيراء عن ابنتي، إن مثلي ومثلك كمثل أبي زرع وأم زرع)) فقالت: يا رسول الله، حدثنا عنهما، فقال: ((كانت قرية فيها إحدى عشرة امرأة، وكان الرجال خلوفاً يعني غيباً فقلن: تعالين نتذاكر أزواجنا بما فيهم ولا نكذب)) فذكر نحو حديث أبي بشر، وسماها ابن دريد في ((وشاحه)): عاتكة.
          قولها: (جلس) كذا في الأصول، ووقع في (م) بنون، وهنا: امرأة، وفي أخرى: نسوة. وللنسائي: اجتمعن ولأبي عبيد: اجتمعت، بالتاء.
          قال ابن التين: قوله: (جلس إحدى عشرة) أي: جميع إحدى عشرة مثل {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} [يوسف:30] قال عياض: والأحسن في الكلام حذف علامة التأنيث ونون الجماعات. وباب العدد في العربية أن ما بين الثلاثة إلى العشرة مضاف إلى جنسه، ومن أحد عشر إلى تسعة وتسعين مميز بواحد يدل على جنسه. وما بعد هذا مضاف إلى واحد من جنسه، وقد جاء هنا: النسوة، وهو جنسٌ بعد أحد عشرة، وهو خارج عن وجه الكلام، ولا يصح نصبه على التفسير؛ إذ لا تفسير في العدد إلا بواحد. ولا يصح إضافة العدد الذي قبله إليه، ووجه نصبه عندي على إضمار: أعني، أو يكون مرفوعاً بدلاً من أحد عشر، وهو الأظهر، وعلى هذا أعربوا قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا} [الأعراف:160] الأسباط بدل من {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ}، وليس بتفسير فيما قاله الفارسي وغيره.
          وقولها: (جلس إحدى عشرة) قال النحويون: يجوز: جلست، كما تقول في واحد: جلست امرأة. ولو قلت: قام الرجال جاز. ويجوز: قامت، بتقدير: قامت جماعة الرجال، قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} [الحجرات:14].
          وفيه: جواز نقل الأخبار عن حسن المعاشرة، وضرب الأمثال بها، والتأسي بأهل الإحسان من كل أمة، ألا ترى أن أم زرع أخبرت عن أبي زرع بجميل عشرته فتمثله الشارع.
          وفيه: جواز تذكير الرجل امرأته بإحسانه إليها؛ لأنه لما جاز من النساء كفران العشير جاز تذكيرهن بالإحسان.
          قول الأولى: (زوجي لحم جمل، غث) أي: مهزول، يقال: غث يغث، والغث: الفاسد من الطعام، والأصل هنا: الهزيل؛ لقولها بعد: (لا سمين فينتقل). قال أبو سعيد النيسابوري: ليس شيء من الغثاث من الأزواج الثمانية هو أخبث غثاثة من(3) الجمل؛ لأنه يجمع خبث طعم وخبث ريح، حتى يضرب به المثل.
          قوله: (على جبل) قال أبو عبيد: تصف قلة خيره وبعده مع القلة، كالشيء في قبة الجبل الصعب لا ينال إلا بالمشقة؛ لقولها: (لا سهل فيرتقى) يعني: الجبل (ولا سمين فينتقى) يعني: يستخرج نقيه، بكسر النون وسكون القاف، وهو: المخ. / ومن روى: ((فينتقل))، يريد: ليس بسمين فينقله الناس إلى بيوتهم فيأكلونه، بل يتركونه رغبة عنه لرواية. وصفت زوجها بالبخل، وقلة الخير، وبعده من أن ينال خيره مع قلته كما سلف كاللحم الهزيل المنتن الذي يزهد فيه فلا يطلب، فكيف إذا كان في رأس جبل صعب وعر لا ينال إلا بمشقة. وذهب الخطابي إلى أن تمثيلها بالجبل الوعر إشارة إلى سوء خلقه والذهاب بنفسه برفعتها تيهاً وكبراً.
          تريد: أنه مع قلة خيره يتكبر على عشيرته، فيجمع إلى البخل سوء الخلق، وهو تشبيه الجلي بالخفي، والتوهم بالمحسوس، والحقير بالخطير. وقد روي بالوجهين، ومنهم من رواه: ((لحم غث)). بالرفع على ما تقدم، والكسر على الإضافة بتقدير حذف ((جمل)) وإقامة وصفه مقامه.
          قوله: ((لا سهل فيرتقى)) يجوز فيه ثلاثة أوجه، كلها مروية: نصب ((لا سهل)) دون تنوين، ورفعها، وخفضها منونة، وأغربها عندي الرفع في الكلمتين. واستدل بعض العلماء من هذا أن ذكر السوء والعيب إذا ذكره أحد فيمن لا يعرف بعينه واسمه أنه ليس بغيبة، وإنما الغيبة أن يقصد معيناً بما يكره؛ لأنه ◙ قد حكى عن بعض هؤلاء النسوة ما ذكرنه من عيب أزواجهن، ولا يحكي عن نفسه أو غيره إلا ما يجوز ويباح، ذكره الخطابي.
          قال عياض: ورأيت أبا عبد الله محمد بن علي التميمي لا يرتضي هذا القول، وقال: إنما كان يكون هذا حجة أن لو سمع رسول الله امرأة تغتاب زوجها ولا تسميه فأقرها عليه، وأما هذه الحكاية عن نساء مجهولات غير حاضرات، فينكر عليهن، فليس بحجة في جواز ذلك وحالهن كحال من قال: في العالم من يسرق ويزني. فلا يكون غيبة، ولكن المسألة لو نزلت لوصف امرأة زوجها بما هو غيبة وهو معروف عند السامع، فإن كان ذلك ممنوع، ولو كان مجهولاً لكان لا حرج فيه على رأي بعضهم، وللنظر فيه مجال.
          وفي بعض: ((جبل وعر)) أي: غليظ حزن يصعب الصعود إليه، وروي: ((على رأس غور وعر)) قال أبو بكر: الغور: العالي من الرمل كأنه جبل، فالصعود فيه سياق. ويجوز في قوله: ((ولا سمين)) الرفع صفة للحم، والخفض: نعت للجبل، ذكره ابن التين. وقيل: ليس مما يرغب فيه فينقله الناس إلى بيوتهم.
          وقول الثانية: (لا أبث) أي: لا أنشر ولا أذكر، ورواه بعضهم: ((أنث)) بالنون ومعناهما واحد إلا أن النون أكثر ما يستعمل في النشر. ومعنى (أذره) أدعه، و(العجر) تعقد العروق والعصب في الجسد حتى تراها ناتئة من الجسد.
          و(البجر) كذلك إلا أنها مختصة بالبطن، فيما ذكره الأصمعي، واحدها بجرة، ومنه قيل: رجل أبجر، إذا كان عظيم البطن، وامرأة بجراء. يقال لفلان بجرة، إذا كان ناتئ السرة عظيمها. وقال الأخفش: العجر: العقد يكون في سائر البدن، والبجر يكون في القلب. قال أبو سعيد النيسابوري: لم يأت أبو عبيد بالمعنى في هذا، وإنما عنت أن زوجها كثير العيوب في أخلاقه، منعقد النفس عن المكارم.
          قال ابن فارس: البجرة: خروج السرة، وفي المثل أفضيت إليه بعجري وبجري؛ أي: بأمري كله. وقال الداودي: العجر والبجر: عروق البطن والذراعين، وبالجملة فإنها أرادت أن تكني عن جميع عيوبه من غير تفسير.
          قال الأصمعي: يستعمل ذلك في المعايب؛ أي: أذكر عيوبه. وقال يعقوب: أسراره. وعبارة غيره: عيوبه الباطنة، وأسراره الكامنة.
          والهاء في أذره عائدة على الخبر؛ أي: أنه لطوله وكثرته إن بدأته على إتمامه، ويعضده رواية: ولا أقدر قدره.
          وفيه تأويل آخر ذكره أحمد بن عبيد بن ناصح: أن الهاء عائدة على الزوج، وكأنها خشيت فراقه إن ذكرته. وعلى هذا تكون (لا) زائدة، كما في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف:12] / ، ويحتمل عدم زيادتها كما ذكره القرطبي وأنها خافت أن لا تتركه معها متمسكاً لها في صحبتها، ويحتمل كما قال عياض على رجوع الهاء إلى الزوج تأويلاً آخر؛ أي: إن أخبرت بشيء من عيوبه ونقائصه أفضى إلى ذكر شيء أقبح منه، وقد عاهدت صواحبها أن لا تكتم شيئاً من صفاته عنهن، فكرهت ما تعاقدت عليه معهن، وذهبت إلى ستر عيوبه لكثرتها، ولم تر أن تذكر بعضاً دون بعض، وإنها إن ذكرت شيئاً تسبب به ذكر شيء آخر، فرأت الإمساك أولى.
          يدل على هذا ما وقع في بعض طرقه: أخاف أن لا أذره من سوء. قال عياض: أرى والله أعلم أن زوج هذه كان مستور الظاهر رديء الباطن، فلم ترد هتك ستره، وأنها إن تكلمت بما عاقدت عليه صواحبها كشفت من قبائحه ما استتر، بل لوحت وما صرحت، وجملت وما شرحت، واكتفت بالإيماء والإجمال في الخبر عنه، ولم تهتك الحجاب عن عورات ما عرفت منه.
          وقول الثالثة: (العشنق) بفتح العين المهملة ثم شين معجمة ثم نون مشددة ثم قاف وهو الطويل، قاله الأصمعي وأبو عبيد. وعبارة الجوهري عن الأصمعي أنه الطويل الذي ليس بمقل ولا ضخم، من قول عشانقة، والمرأة عشنقة، تقول: ليس عندي شيء أكثر من طوله بلا نفع فإن ذكرت ما فيه من العيوب طلقني، وإن سكت تركني معلقة لا أيماً ولا ذات بعل. ومنه قوله: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:129].
          وخطأهم في ذلك عبد الملك بن حبيب وقال: العشنق: المقدام على ما يريد الشرس في أموره، بدليل وصفها له. وقال أبو سعيد النيسابوري: الصحيح غير ما ذكره أبو عبيد أنه من الرجال الطويل النجيب، الذي ليس أمره إلى امرأته وأمرها إليه، فهو يحكم فيها بما يشاء وهي تخافه. وقال ابن قتيبة: قيل: إنه القصير. قال ابن الأنباري: فكأنه جعله من الأضداد، ولا أعرفه عند أهل اللغة. قلت: فوصفها له على رأي أبي عبيد مدح؛ لأن العرب تمدح الرجال والسادة بطول القامة(4)، ويحتمل أن تريد علاقة بالحب؛ فلذلك كانت تكره النطق خوف المفارقة. وعند غيره أنها ذامة له تخبر أن له منطقاً بلا مخبر، والعشنشط بمعنى العشنق.
          وقول الرابعة: (تهامة) من بلاد الحجاز. وقال ابن بطال: إنها اسم مكة، وحرها شديد نهاراً، وليلها معتدل، وخصته بهذا ووصفته بحسن صحبتها، وجميل عشرتها، واعتدال حاله، وسلامة باطنها، وثقتها به، وذلك أن الحر والقر بضم القاف، هو البرد كلاهما فيه أذى إذا اشتد، وهذا لا غائلة عنده، ولا شر فأخافه، ولا يسأمني، ولا يستثقل بي فيمل صحبتي. زاد في رواية: ((والغيث غيث غمامة)) أي: جوده سهل، فيحيي به الأنام كغيث الغمام.
          وقول الخامسة: (فهد) بفتح الفاء وكسر الهاء. وقد تسكن تصفه إذا دخل البيت بكثرة النوم، والغفلة في منزله على وجه المدح له؛ لأن الفهد كثير النوم، يقال: أنوم من فهد. و(أسد) بفتح الهمزة وكسر السين وصف له بالشجاعة، ومعناه: إذا صار بين الناس أو خالط الحرب كان كالأسد، يقال: أسد واستأسد بمعنى، وصفته بالصفة الغالبة على هذين الحيوانين من السلاطة والسكون في حال الخلوة والجلوة، والعرب تمتدح بذلك، ومن هذا المعنى:
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه                     إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
          وكان علي إذا سمعه يقول: ذاك طلحة بن عبيد الله.
          قوله: (ولا يسأل عما عهد) أي: لا يتفقد ما ذهب من ماله، ولا يلتفت إلى معايب البيت، كأنه ساه عن ذلك، يوضحه قولها: ((ولا يسأل عما عهد)) يعني: عما كان عندي قبل ذلك. قال عياض: قولها هذا يقتضي تفسيرين لعهد: عهد قبل، فهو يرجع إلى تفقد المال، وعهد الآن فهو بمعنى الإغضاء / عن المعايب والاختلال.
          وقال ابن أبي أويس: تقول إن دخل وثب علي وثوب الفهد، وإن خرج كان كالأسد جرأة وإقداماً. بقولها يحتمل أن تريد به البطش بها والضرب لها، أو تريد به المبادرة إلى جماعها، وكثرة الحظ من استمتاعها دون تلاعبها، وتقديم الإيناس. قال ابن حبيب: وصفته بأنه في اللين والدعة والغفلة كالفهد، ولم ترد النوم. قال عياض: وقد ظهر لي وجه آخر مع صحة ما ذكروه، وذلك أنه يتوقف قولها: ((فهد)) على الاشتقاق من خلق الفهد، والمثل المضروب به في النوم. وفي الفهد أيضاً مثل آخر ذكره أصحاب الأمثال، كما ذكروا الأول، وهو قولهم: أكسب من فهد.
          قال أبو عبد الله حمزة الأصبهاني في ((شرح الأمثال)): وذلك أن الفهود الهرمة التي تعجز عن الصيد تجتمع على فهد فتي، فيصيد عليها كل يوم شبعها، فلا يمتنع أن يكون قولها: ((إذا دخل فهد في كسبه)) ولا فرق بين هذا وبين الأول، إذ كل واحد منهما إنما اشتق من خلق الفهد. وكانت العرب تتمادح بالكسب والاستيفاء. قال عياض: هذا التأويل عندي لا يبعد، وإن كان الأول أظهر وأليق بالكلام، لمطابقة لفظه ومعناه.
          وقول السادسة: اللف في المطعم: الإكثار منه مع التخليط من صنوفه واستقصائه حتى لا يبقى منه شيء، فمعنى (لف): بمس صنوف الطعام وخلطه، يقال: لف الكتيبة بالكتيبة إذا خلطها. والاشتفاف في الشرب أن يستقصي ما في الإناء من الشراب ولا يسئر فيه سؤراً، وإنما أخذ من الشفافة وهي البقية التي تبقى في الإناء من الشراب، فإذا شربها صاحبها قيل اشتفها. وروي: استف بالسين المهملة وهو قريب من معناه.
          قوله: (وإن اضطجع التف) تعني: رقد ناحية ولم يباشرها، وقيل: رقد وهجع، وهما بمعنى واحد، وقيل: إذا نام التف في ثيابه. وهذا يقتضي المدح والذم، فالمدح بمعنى أنه ينام في ثيابه ليكون مستوفزاً لصارخ يصرخ، أو داع يدعو، والثاني: أنه يأتي وهو تعبان، فيكسل عن نزع ثيابه، فينام فيها، أو يكون نومه في ثيابه أدعى لكثرة النوم، وذلك منه مذموم عندهم، كما قالت امرأة في زوجها: يشبع ليله لطاف، وينام ليله يخاف(5).
          قوله: (ولا يولج الكف) ولا يدخل يده، و(البث): الحزن (فأحسبه) كان بجسدها عيب أو داء تكتئب له، فكان لا يدخل يده في بدنها ليمس ذلك العيب فيشق عليها، تصفه بالكرم، قاله أبو عبيد.
          وأنكر عليه، إنما شكت قلة تعهده إياها تقول: يلتف منتبذاً عنها إذا نام لا يقرب منها، فيولج داخل ثوبها، فيكون منه إليها ما يكون من الرجل إلى أهله.
          ومعنى ((البث)): ما تظهره المرأة من الحزن على عدم الخلوة منه، كأنها ذمته بالنهم والشره وقلة الشفقة عليها، وإنه إذا رآها لم يدخل يده في ثوبها ليجسها متعرفاً؛ لما بها على عادة الناس الأباعد فضلاً عن الأزواج، ولا معنى لما توهمه أبو عبيد من الداء بجسدها فيتأول بذلك ترك التفقد منه لذلك على معنى الكرم، وذلك أن أول الكلام ذم، واستلام له، ومهانته، وسوء المعاشرة والمرافقة، فكيف يكون آخره مدحاً ووصفاً بالكرم؟ والعرب تذم الرجل بكثرة الأكل والشرب، وتمدح بقلتها، ثم إنها وصفته بعد بقلة الاشتغال بها، والتعطيل لها، وعدم مضاجعتها وإدنائها من نفسه، وأنه لا همة له في المباضعة التي هي من ممادح الرجال، فإن العرب كانت تتمادح بالقوة على الجماع؛ لأنها دليل على صحة الذكورة، وتذم بضده، وممن رده عليه القتيبي والخطابي وابن حبيب وابن الأعرابي.
          وقال ابن الأنباري: لا حجة على أبي عبيد في هذا؛ لأن النسوة كن تعاهدن على أن لا يكتمن شيئاً من أخبار أزواجهن، فمنهن من وصفه بالخير في جميع أموره، ومنهن بضد ذلك، ومنهن من وصفت ما فيه من الخير / وما فيه من الشر.
          قال عياض: ويؤيد ما ذهبوا إليه ما أشار إليه عروة بن الزبير بقوله: هؤلاء خمسة يشكون. وقيل: معنى (لا يولج الكف) أي: لا يتفقد أموري وما يهمني من مصالحي، وهو كقولهم: ما أدخل فلان يده في الأمر؛ أي: لم يشتغل به ولم يتفقد، قاله أحمد بن عبيد بن ناصح ونحوه عن ابن أبي أويس.
          وقول السابعة: (عياياء أو غياياء) شك من الراوي، هل قاله بالمعجمة أو المهملة، والأكثر بغير شك، والشاك عيسى بن يونس، وعقبة بن خالد، وسائر الرواة يقولونه بالمهملة، وأما المعجمة فليس بشيء، وقال ابن قتيبة: هو تصحيف، والعياياء يعالي من العي، وهو من الإبل الذي لا يضرب النوق ولا يلقح، وكذلك هو في الرجال كأنه عيي عن ذلك.
          و(الطباقاء) بالمد، الفتى الأحمق الفدم. وعبارة بعضهم: إنه المفحم الذي انطبق عليه الكلام؛ أي: انغلق، وصفته بعجز الطرفين، وعند ابن حبان: الذي فيه رعانة وحمق، كالمطبق عليه في حمقه ورعونته. وقال ابن أبي أويس: ((عياياء طباقاء)) أي: عيي مطبق عيًّا لا يتصرف ولا يتوجه لوجه.
          وقيل: الطباقاء من الرجال: الثقيل الصدر، الذي لا يطبق صدره على صدر المرأة عند المباضعة. قالت امرأة امرئ القيس تذمه: ثقيل الصدر، خفيف العجز، سريع الإراقة بطيء الإفاقة. قال الجاحظ: وهو عكس الخصي، فإنه بطيء الإراقة سريع الإفاقة. وقال يعقوب: العياياء: الذي لا يهتدي لوجه.
          وقال الداودي: غياياء من الغي، وعياياء من العجز والجهل والظلمة. قال ابن التين: وأنكر أبو عبيد المعجمة. قلت: ووقع في كتاب ابن بطال عنه: عياياء بالعين ليس بشيء إنما هو بالغين المعجمة، كذا رأيته في أصله، ومعجمة في الحاشية مصحح عليها لكن سيأتي عن القاضي ما يرده.
          وقال ابن فارس: العي خلاف البيان، يقال: رجل عيي وعياياء، وفحل عياياء إذا لم يهتد للضراب، قال: والطباقاء من الرجال: العي، ومن الإبل: الذي لا يحسن الضراب، جعله مثل عياياء، فكأنه كرر لما اختلف اللفظ مثل بعداً وسحقاً.
          وقال القاضي عياض: قول أبي عبيد أن الغياياء بالمعجمة ليس بشيء ولم يفسره، وتابعه على ذلك سائر الشراح.
          وقد ظهر لي فيه معنى وهو أن يكون مأخوذاً من الغياية، وهو كل ما أظل الإنسان فوق رأسه من سحاب وغيره، ومنه سميت الراية غياية، فكأنه غطى عليه من جهله، وسترت مصالحه، ويمكن أن يكون من الغي، وهو الانهماك في الشر، ومن الغي وهي الخيبة.
          قوله: (كل داء له داء) أي: كل داء من أدواء الناس فهو فيه، ومن أدوائه، فقد اجتمعت فيه المعايب، فيحتمل أن يكون (داء) خبراً لكل، يعني: من كل داء في الناس فهو فيه، وأن يكون صفة لداء، وداء خبر لكل، أي: كل داء فيه بليغ منتهاه، كما تقول: إن زيدا رجل، وإن هذا الفرس فرس.
          قوله: (شجك) أي: أصاب شجك.
          قوله: (أو فلك أو جمع كلالك) وجاء: (أو بجك) والبج: الجرح في الرأس خاصة، والفل في جميع الجسد، وقيل: هو الطعن، وقال ابن الأنباري: (فلك): كسرك، ويقال: ذهب بمالك، يقال: فل القوم فانفلوا، ويقال: كسرك بخصومته، ويجوز أن يريد بالفل الإبعاد والطرد.
          قوله: (أو جمع كلا لك) أي: جمع الضرب والخصومة.
          والثج: الجرح من الطعنة؛ وصفته بالحمق والتناهي في جميع النقائص والعيوب، وسوء العشرة مع الأهل، وعجزه عن حاجتها مع ضربها وأذاها، فإذا حدثته سبها، وإذا مازحته شجها، وإذا غضب إما أن يشجها في رأسها أو يكسر عضواً من أعضائها، وهو معنى ((فلك))، أو طعنها وهو معنى ((بجك)). قال ابن دريد: بج القرحة إذا شقها وكل شق بج، وجمع ذلك كله لها من الضرب، والجرح، وكسر الأعضاء، أو الكسر بالخصومة، وموجع الكلام، وأخذ مالها.
          وقول الثامنة؛ وصفته بحسن الخلق ولين الجانب كمس ظهر الأرنب ولينه، و(الزرنب): نبت من الطيب، واحدها زرنبة، قاله ابن حبان في ((شرحه)) يحتمل أن تكون أرادت طيب / ريح جسده، أو طيب الثناء في الناس وانتشاره فيهم كريح الزرنب. قيل: يشبه ورق الطرفاء، ويسمى رجل الجراد لشبهها بها، وقيل: إنه الزعفران، وقيل: إنه المسك، وقيل: إنه صنف من الآس، وزعم ابن البيطار أنه أضرب عن كلام صاحب ((الفلاحة)) وإسحاق بن عمران. يعني ما ذكره عياض من أنها شجرة عظيمة قال: إنه ليس بمعروف في زماننا هذا ولا من قبله. وجاء في رواية أبي عبيد: وصفته بالشجاعة. قال معاوية: ووصف النساء يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام.
          وقول التاسعة إلى أن قالت: (من الناد) هو بحذف الياء، وهو المشهور في الرواية ليتم السجع، وإن كان الفصيح في العربية إثباتها، وصفته بالشرف وسناء الذكر نسباً وسؤدداً في قومه، فهو رفيع فيهم، وأصل العماد: عماد البيت، وجمعها عمد، وهي العيدان التي تعمد بها البيوت. وإنما هذا مثل تعني: أن بيته في حسبه رفيع في قومه. فبيته عال بحشمته وسعادته لا كبيت غيره من الفقراء، تقصد ارتفاعه؛ ليراه أرباب الحوائج والأضياف فيأتونه، وهذه صفة بيوت الأجواد.
          وتريد بالنجاد بكسر النون حمائل السيف، فكأنها وصفته بطول القامة، فإن من كان طويلها كانت حمائل سيفه طوله، فوصفته بالطول والجود، وهو مما يمدح به الفقراء.
          قوله: (عظيم الرماد) وصفته بالجود وكثرة الضيافة من لحم الإبل وغيرها، فإذا فعل ذلك عظمت ناره وكثر وقودها، فيكون الرماد كثيراً، وقيل: لأن ناره لا تطفأ ليلاً؛ ليهتدي به الضيفان، ومن عادة الكرام يعظمون النيران في الظلمة ويوقدونها على التلال؛ ليهتدي بها. قال:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره                     تجد خير نار عندها خير موقد
          قوله: (قريب البيت من الناد)، تريد أنه ينزل بين ظهراني الناس ليعلموا مكانه، فينزلوا عليه ولا يبعد عنهم ولا يتوارى منهم، بخلاف اللئام.
          والنادي: المجتمع للمشاورة فكنت عن ارتفاع بيته في الحسب برفيع العماد. وعن طول قامته بطول النجاد، وعن كثرة القرى بعظيم الرماد، وعن مكانه بقريب الناد. وتبدو القوم حواليه ولا يسمى بادياً حتى يكون منه أهله.
          قول العاشرة: تريد تعظيمه وما استفهامية وفيها معنى التعظيم والتهويل وحقيقته وما مالك وما هو أي أيُّ شيء هو ما أعظمه وأكثره وأكرمه ومثله قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1-2] أي شيء هي، ما أعظم أمرها وأهوالها.
          قوله: (مالك خير من ذلك) زيادة في التعظيم، وتفسير لبعض الإبهام، وأنه خير مما أشير إليه [من] ثناء وطيب ذكر، أو فوق ما اعتقده فيه من سؤدد وفخر.
          قوله: (له إبل قليلات المسارح كثيرات المبارك) يعني: لا يوجههن ليسرحهن نهاراً إلا قليلاً، ولكنهن يتركن بفنائه باركات، فإن نزل به ضيف لم تكن الإبل غائبة عنه ولكنها بحضرته فيقريه من ألبانها ولحومها. ويروى: عظيمات المبارك، وهو كناية عن سمنها وعظم جرمها. وعند ابن قتيبة: إذا تركت إبله كانت كثيرة؛ لكثرة من ينضم إليها ممن يلتمس لحمها ولبنها، وإذا سرحت كانت قليلة، لقلة من ينضم إليها من الأضياف والعفاة، وقيل: إنها إذا بركت كانت كثيرة؛ لوفور عددها، وإذا سرحت كانت قليلة؛ لكثرة ما نحر منها للأضياف. وفي رواية الهيثم في آخر ذلك: وهو إمام القوم في المهالك.
          قولها: (إذا سمعن صوت المزهر) تريد: العود الذي يضرب به، معناه: أنه مما كثرت عادته للضيفان وإطعامهم وشربهم، وضرب المعازف عليهم، ونحر الإبل؛ فلذلك صارت الإبل إذا سمعت ذلك أيقن أنهن منحورات.
          وقال أبو سعيد النيسابوري: إن كن لا يسرحن إلا قليلاً / من النهار، ثم تحبس في المبارك سائر النهار فهي هالكة هزالا(6) وإن كن يسرحن بالليل فقد ضاف أضياف الليل. والتفسير: أن مسارحها قليلة؛ لقلة الإبل، وكثرة مباركها بالفناء؛ لكثرة ما تثار فتحلب ثم تترك، فالقليلة إذا فعل بها هذا كثرت مباركها(7).
          وقوله: المزهر: العود؛ نحن ننكره؛ لأن العرب كانوا لا يعرفون العود إلا من خالط الحضر منهم، والعود إنما أحدث بمكة والمدينة، والذي نذهب إليه أنه المزهر، وهو الذي يزهر النار للأضياف والطريق، فإذا سمعت صوت ذلك وحسه ومعمعة النار، أيقنت بالعقر.
          وقال عياض: لا نعرف أحداً رواه المزهر كما قال النيسابوري، وإن كان يصح؛ لأن زهور السراج والنار تلألأ لسانيها، والذي رواه الناس كلهم المزهر، وهو الصواب.
          قال: وقوله إن العرب لا تعرف العود إلا من خالط منهم الحضر، فمن أخبره أن المذكورات لم يخالط الحضر؛ لأنا ذكرنا في بعض طرق هذا الحديث أنهن كن بقرية من قرى اليمن، والقرى هي الحاضرة، وفي طريق: أنهن من مكة. مع أن العرب جاهليتها وإسلامها فيها بدويها وحضريها قد ذكرت في أشعارها المزاهر وأشباهها.
          وقال الدوادي: هو الذي يضرب به، فرحاً للأضياف.
          وقول الحادية عشرة: (زوجي أبو زرع فما أبو زرع) هو كقول العاشرة: ((مالك وما مالك)).
          قوله: (وأناس من حلي أذني) هو بتشديد الياء من أذني على التثنية. والنوس: الحركة من كل شيء متدل، يقال: ناس ينوس نوسا وأناسه غيره إناسة، وقال الكلبي: إنما سمي ملك باليمن ذا نواس؛ لضفيرتين كانتا تنوسان على عاتقيه، تريد: حلاني قرطه وشنوفا ينوس بأذني.
          قوله: (ملأ من لحم عضدي) لم ترد العضد خاصة، إنما أرادت الجسد كله، تقول: إنه أسمنني بإحسانه إلي، فإذا سمنت العضد سمن سائر الجسد. وقيل: قصدت بذكرها سجع الكلام.
          قوله: (وبجحني فبجحت) أي: فرحني ففرحت، وقال ابن الأنباري: معناه: عظمني. وقال ابن أبي أويس: وسع علي وترفني.
          قوله: (فوجدني في أهل غنيمة بشق) تريد: تصغير غنم، و((بشق)) أهل الحديث يقولونه بالكسر، قال أبو عبيد: وهو بالفتح: اسم موضع. وصوبه الهروي، وقال النووي: إنه المعروف عند أهل اللغة، وحكاهما ابن الأنباري وأنه اسم موضع، وقال ابن أبي أويس وابن حبيب: هو جبل لقلتهم، زاد ابن أبي أويس: وقلة غنمهم.
          قال عياض: كأنها تريد أنهم لقلتهم وقلة غنمهم حملهم على سكنى شق الجبل؛ أي: ناحيته أو بعضه؛ لأن الشق يقع على الناحية من الشيء وعلى بعضه، والشق أيضاً: النصف. فيكون التفسير على رواية من روى بالفتح وهو الشق بقولها: لقلتهم شق الجبل كالغار ونحوه.
          وله وجه آخر ذهب إليه نفطويه، وهو بالحديث أولى وأصح لغة. ومعنى: الشق بالكسر الشظف من العيش والجهد منه، قال ابن دريد: يقال: هو بشق وشظف من العيش؛ أي: بجهد منه، وعليه نزول قوله تعالى: {إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ} [النحل:7].
          وقال الداودي: يروى بشق بفتح الباء والشين وبكسرهما، والتشديد في القاف، فمن رواه بالتخفيف: أراد موضعاً، ومن شدد هو الجهد من قوله: {بِشِقِّ الأَنفُسِ}.
          (فجعلني في أهل صهيل وأطيط) الصهيل: أصوات الخيل، والأطيط: أصوات الإبل. يعني: أنه ذهب بها إلى أهله، وهم أهل خيل وإبل، وكان أهلها أصحاب غنم، ليسوا بأصحاب خيل ولا إبل.
          قال عياض: وأصل الأطيط: أعواد المحامل والرحال، ويشبه أن يريد بالأطيط هذا المعنى، فكأنها تريد أنهم أصحاب محامل ورفاهية؛ لأن المحامل لا يركبها إلا أصحاب السعة، وكانت قديماً من مراكب العرب. قلت: قد ذكر المبرد أن أول من عمل المحامل الحجاج بن يوسف الثقفي.
          وقوله: (دائس ومنق) قال أبو عبيد: تأوله بعضهم من دياس الطعام، وهو دراسة، وأهل العراق يقولون: الدياس، وأهل الشام يقولون: الدراس، قال: ولا أظنها واحدة من هاتين الكلمتين، فليستا من كلام العرب، فإن كان كما قيل فأرادت أنهم أصحاب / زرع. وقال ابن التين: يريد أنهم أصحاب زرع، يدوسونه إذا حصد وينقونه مما يخالطه.
          وأما: (منق): فالمحدثون يقولونه بالكسر، قال أبو عبيد: ولا أدري معناه، وأحسبه منق بالفتح، أرادت به تنقية الطعام، وأرادت أنهن أصحاب زرع.
          وقال الهروي: قال بعضهم: المنقي: الغربال.
          وقال إسماعيل بن أبي أويس: المنق بالكسر نقيق أصحاب المواشي والأنعام، تصف كثرة ماله. وقال أبو سعيد النيسابوري: هو مأخوذ من نقنقة الدجاج يقال: أنق الرجل إذا اتخذ دجاجاً ينقنق أي: أنهم أهل طير؛ أي: نقلني من قفر إلى عمران.
          وقال ابن سراج: ويجوز أن يكون منق بالإسكان؛ أي: وأنعام ذات نقى؛ أي: سمان. وعند ابن قتيبة: قال أبو عبيد: المنق مفتوح النون، ولا أعرف كسرها، وقال غيره بكسرها.
          وقال النووي: المراد الذي ينقي الطعام؛ أي: يخرجه من تبنه وقشوره، وهو أجود من قول الهروي: هو الذي ينقيه بالغربال.
          قوله: (فعنده أقول فلا أقبح) أي: فلا يقبح علي قول يقبل مني. (وأشرب فأتقمح) أي: يرويني الشراب حتى لا أحب الشراب، مأخوذ من الناقة المقامح، وهي التي ترد الماء فلا تشرب. وترفع رأسها رياً، وكل رافع رأسه فهو مقمح أي: يستطيعون الشرب، وكانت في قوم عندهم قلة الماء وقامح قال تعالى: {فَهُم مُّقْمَحُونَ} [يس:8].
          قال أبو عبيد: أي: أروى حتى أدع الشرب من شدة الري. قال: ولا أراها قالت هذا إلا من عزة الماء الذي عندهم، وبعضهم يرويه: فأتقنح، بالنون، ولا أعرف هذا الحرف ولا أرى المحفوظ إلا بالميم.
          وقال أبو سعيد: فأتقنح: هو الشرب على رسل لكثرة اللبن؛ لأنها ليست بناهبة غيرها، وإنما تنتهب ما كان قليلاً يخاف عجزه، ويقول الرجل لصاحبه إذا حثه على أن يأكل أو يشرب: والله لتقمحنه. والتقمح: الازدياد من الشرب، وقال ابن السكيت في التقنح الذي لم يعرفه أبو عبيد: أتقنح: أقطع الشراب. أبو زيد: قال الكلابيون: قنحت تنقح قنحاً تكارهت عليه بعد الري. والغالب: تقنحت. والترنح: كالتقنح.
          وقال عياض: حكى أبو علي القالي في ((البارع)) و((الأمالي)): قنحت الإبل تقنح بفتح النون في الماضي والمستقبل قنحاً بإسكانها. وقال شمر: قنحاً: إذا تكارهت الإبل الشرب، ومن رواه بالفاء والتاء أتفتح إن لم يكن وهما فمعناه: التكبر والزهو والتيه. ويكون هذا الكبر والتيه من الشراب، لنشوة سكره، وهو على الجملة يرجع إلى عزتها عنده، وكثرة الخير لديها، أو يكون معنى أنفتح: كناية عن سمن جسمها واتساعه.
          قال عياض: ولم يروه في ((الصحيحين)) إلا بالنون، وكذا هو في جميع النسخ. وقال (خ) قال بعضهم: فأتقمح، بالميم.
          قال: وهو أصح، والذي بالنون معناه: أقطع الشرب وأتمهل فيه، وقيل: هو الشرب بعد الري.
          قوله: (فأتصبح) أي: أنام الصبيحة؛ لأنها لها من يكفيها الخدمة من الإماء وشبهها.
          قوله: (عكومها رداح) تريد: الأحمال والأعدال التي فيها الأوعية من صنوف الأطعمة والمتاع، واحدها: عكم، كجلد وجلود. والرداح: العظيمة، تقول: هي كثيرة الحشو. يقال للمرأة: رداح؛ إذا كانت عظيمة العجز، ثقيلة الأوراك.
          وقال ابن حبيب: إنما هو دراح؛ أي: ملاء، وليس كما قال الشارح: رداح.
          قال عياض: ما قاله أبو عبيد وغيره صحيح معروف، ومعناه ظاهر، وما أدري لم أنكره ابن حبيب وهو بنفسه معنى ما فسره هو به مع مساعدة سائر الرواة لما قاله أبو عبيد، فإن روايتهم كلهم رداح. قال: ولم أسمعها من شيخ، ولا وجدتها في جماهير اللغة، إلا أن يكون وهم عليه، وإنما أراد: رداح بكسر الراء، وأنكر فتحها فقط، فلقوله وجه، ويكون رداح هنا بمعنى ما قاله أبو عبيد، لكنه جمع ردح كقائم وقيام، وكذا وجدته مضبوطاً عند بعض رواة هذا الحديث بكسر الراء.
          قوله: (وبيتها فساح) هو بفتح الفاء؛ أي: واسع كثير.
          قوله: (كمسل شطبة) هذا من تمادح / الرجال، وأصل الشطبة ما شطب من جريد النخل وهو سعفه، وذلك أنه تنشق منه قضبان دقاق ينسج منها الحصير، يقال للمرأة التي تفعل ذلك: شاطبة، وجمعها شواطب، فأخبرت أنه مهفهف ضرب اللحم، شبهته بتلك الشطبة. وعبارة ابن التين: أرادت أنه ضرب الجسم، وهو مما يمدح به الرجال.
          وقال أبو سعيد: تريد كأنه سيف مسلول من غمد، شبهته بذي شطب يمان، وسيوف اليمن كلها مشطبة.
          قوله: (تكفيه) وفي لفظ: ((وتشبعه ذراع الجفرة)) فالجفرة: الأنثى من ولد الغنم، وقيل: أولاد الماعز، والذكر: جفر، وهي التي لها من العمر أربعة أشهر، والعرب تمدح الرجل بقلة الأكل والشرب، وزاد فيه بعضهم: كريم الحديد برود الظل، وفي الإل. أي: وافي العهد، وبرد الظل كناية عن طيب العشرة، ولا يخادن أخدان السوء.
          قوله: (وملء كسائها)؛ وصفتها بالسمن، و(غيظ جارتها): أي ضرتها. أرادت أن ضرتها ترى من حسنها ما يغيظها.
          قوله: (وما جارية أبي زرع؟ لا تبث حديثنا تبثيثا) هو بالباء الموحدة، ويروى بالنون، وأحدهما قريب المعنى من الآخر: أي: لا تظهر سرنا.
          وقال ابن الأعرابي: النثاث المغتابون للمسلمين، والأول أشبه، بمعنى الحديث.
          قوله: (ولا تنفث ميرتنا تنفيثاً) وفي رواية: لا تنقل. يعني: الطعام لا تأخذه فتذهب به، تصفها بالأمانة. والتنقيث: المبالغة. وقال ابن حبيب: لا تفسده ولا تفرقه. وقال ابن أبي أويس: لا تسرق. قال أبو سعيد: التنقيث: إخراج ما في منزل أهلها إلى جانب، وهو النقث والنفث، والثاء والفاء يتعاقبان. وقال ابن فارس: نقث القوم حديثهم: خلطوه، كما نقث الطعام.
          قوله: (ولا تملأ بيتنا تعشيشا) التعشيش: بالعين المهملة مأخوذ من عشش الخبز إذا فسد؛ تريد: أنها تحسن الطعام المخبوز، وتتعهده بأن نطعم منه أولاً فأولاً طريًّا، ولا تهمل أمره فيطرح ويفسد، ذكره ابن التين، ثم قال: قال الداودي: أراد أنها لا تتسمع إلى أخبار الناس فتأتينا بها. وقال يعقوب فيما حكاه ابن قتيبة: تريد النميمة وما يشاكلها.
          وقال ابن حبان: تريد أنها عفيفة الفرج لا تفسق. وعبارة بعضهم: لا تخبئ خبيئاً كعش الطائر، أو لأنها لا تقم البيت فهو كعش الطائر في قذره وقشبه.
          وقال النووي: لا تترك القمامة والكناسة فيه مفرقة كعش الطائر، بل هي مصلحة للبيت معتنية بتنظيفه. وقيل: لا تسرق طعامنا فتخبأه في زوايا البيت.
          فائدة:
          في رواية الهيثم عن هشام: ضيف أبي زرع، وما ضيف أبي زرع؟ في شبع وري ورتع. قال ابن قتيبة: الرتع: جمع: رتعة من قوله تعالى: {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف:12]. وقال أبو عبيد: يلهو ويتنعم. وقال الكلبي: يرتع: يذهب ويجيء وينشط ويلهو ويلعب. وفي روايته أيضاً: طهاة أبي زرع، فما طهاة أبي زرع؟ لا تفتر ولا تعدى تقدح قدراً وتنصب أخرى فتلحق الآخرة الأولى؛ تريد بالطهاة الطباخين، واحدهم طاهي يقال: طها الرجل إذا طبخ. ولا تعدى. تريد: لا تصرف عن اتخاذ ذلك.
          قوله: (تقدح قدراً) معناه: تغرف قدرا، يقال: قدح: إذا غرف، والمقدحة المغرفة، وأصلها المقدوح. كالجريح والمجروح. وسلف معنى: (وملء كسائها) وجاء في رواية: صفر ردائها بكسر الصاد المهملة وهو الخالي. قال الهروي: أي: ضامرة البطن، والرداء ينتهي إلى البطن.
          وقال غيره: معناه أنها خفيفة أعالي البدن وهو موضع الرداء ممتلئة أسفله وهو موضع الكساء توضحه: وملء إزارها.
          قال عياض: أرادت امتلاء منكبيها وقيام نهديها بحيث يدفعان الرداء عن أعالي بدنها فلا يمسه، فيصير خالياً بخلاف أسفله.
          وسلف معنى: ((غيظ جارتها)) وفي رواية: عقر جارتها. بالعين المفتوحة والقاف الساكنة.
          قال عياض: كذا ضبطناه عن جميع شيوخنا، وضبطه الجياني: ((عبر)) بضم العين وإسكان الموحدة، وكذا ذكره ابن الأعرابي، وكأن الجياني أصلحه من كتاب ابن الأنباري، وفسره على وجهين: أحدهما: من الاعتبار أي: ترى من حسنها / وعفتها ما تعتبر به. والثاني: من العبرة: هي البكاء؛ أي: ترى من ذلك ما يبكيها لحسدها وغيظها، ومن رواه بالقاف فمعناه: يقضيها، فتصير كمعقورة، وقيل: بدهشتها، من قولهم: عقر إذا دهش. وعند الإسماعيلي: وذكرت كلب أبي زرع.
          قوله: (والأوطاب تمخض) تريد بالأوطاب أسقية اللبن، واحدها: وطب، قاله أبو عبيد، وأنكره أبو سعيد، وقال: هذا منكر في العربية أن يكون فعل يجمع على أفعال، لا يقال: كلب وأكلاب، ولا وجه وأوجاه، وإنما الصحيح: الأوطبُ في القلة والأوطاب في الكثرة. ومعنى: ((تمخض)) تحرك حتى تخرج زبدتها ويبقى المخيض، ومعنى كلامها يحتمل أنها أرادت تبكير خروجه من منزلها غدوة، وانطوى في أثناء ذلك كثرة خير داره، وغزر لبنه، وأن عندهم منه ما يشرب صريحاً ومخيضاً، ويفضل عن حاجتهم حتى يمخضوه في الأوطاب ويستخرجوا زبده وسمنه.
          ويحتمل أنها تريد أن خروجه في استقبال الربيع وطيبه، وأن خروجه إما لسفر أو غيره كان في هذا الزمن، فتكون الفائدة في الاحتمال الأول: تعريفها بخروجه عنها بكرة النهار، والثاني: إعلامها بوقت خروجه عنها في أي فصل هو.
          قوله: (فلقي امرأة معها ولدان كالفهدين) وفي رواية: كالصقرين. احتاجت إلى ذكرهما هنا؛ لتنبه [على] أحد أسباب تزويجه لها؛ لأن العرب كانت ترغب في الأولاد، وتحرص على النسل وتستعد لذلك النساء المنجبات في الخلق والخلق. لكن في رواية الخطيب أنهما أخواها لا ابناها، وأنه إنما تزوجها بكراً.
          قوله: (يلعبان تحت خصرها برمانتين) يعني: أنها ذات كفل عظيم، فإذا استلقت نتأ الكفل بها من الأرض حتى يصير تحت خصرها فجوة يجري فيها الرمان، وقيل: إنهما الثديان. وأنكره أبو عبيد فقال: ليس هذا موضعه.
          وحكاه ابن قتيبة عن ابن أبي أويس. قال عياض: والأول أرجح؛ لا سيما وقد روي: من تحت درعها برمانتين. وعبارة ابن التين وصفها بكبر الكفل والصدر.
          قوله: (فطلقني ونكحها، ونكحت بعده سريًّا، ركب شريا).
          كذا في ((الصحيح)) وفي رواية القاسم: فاستبدلت بعده، وكل بدل أعور، فتزوجت شابًّا. والسري: بالسين المهملة أي: من سراة الناس. وقال عياض، عن ابن السكيت: بالمعجمة يعني: سيداً شريفاً سخيًّا، و((مركب شريا)) بالمعجمة، وهو الفرس الذي يستشري في سيره؛ أي: يلح ويمضي بلا فتور، وقال يعقوب: وهو الفرس الفائق الخيار، ونقل ابن بطال عن ابن السكيت: ركب فرسا شريًّا أي: خياراً، من قولهم: هذا من سراة المال أي: من خياره؛ ولما ضبطه النووي بالمعجمة ادعى فيه الاتفاق، ويأتي على ما حكاه ابن بطال عن ابن السكيت الإهمال أيضاً.
          قوله: (وأخذ خطيا) يعني: الرمح؛ لأنه يأتي من بلاد ناحية البحرين يقال له: الخط، فنسب الرماح إليها، وإنما أصل الرماح من الهند، تحمل إلى الخط في البحرين ثم تفرق منها في البلاد، وهي قرية بسيف البحر عند عمان.
          قال أبو الفتح: قيل لها ذلك؛ لأنها على ساحل البحر، والساحل يقال له: الخط، لأنه يفصل بين الماء والتراب. والخطي: بفتح الخاء المعجمة في أخبار ثعلب في ((فصيحه)): وقال ابن درستويه: والعامة تكسر الخطية في كل حال، وهو خطأ.
          قال عياض: ولا يصح قول من قال: إن الخط منبت الرماح. وعند ابن سيده في ((العويص)): كل سيف خط؛ وفي ((معجم أبي عبيد)): الخط: ساحل ما بين عمان إلى البصرة، ومن كاظمة إلى الشحر، ثم أنشد قول سلامة:
          يأخذني بين سواء والخط واللوث
          ثم قال: واللوث: الحرار، حرار قيس. قال: وإذا كانت من حرار قيس إلى ساحل البحر، فهي نجد كلها، قال: وقيل: الخط الرماح الجياد، وهو لعبد القيس.
          قوله: (نعما) هي بفتح النون الإبل خاصة، قاله عياض وابن بطال، وابن التين، وقال غيره: ثم جميع الإبل والبقر والغنم، والنعم تذكر وتؤنث ووقع في رواية: ((نعما)) بكسر النون / جمع نعمة، والأشهر الأول.
          قوله: (ثريا) هو بفتح المثلثة وهو الكثير من المال وغيره، ومنه الثروة في المال، وهي كثرته، قال الكسائي: يقال: قد ثرى بنو فلان بني فلان يثرونهم إذا كثروهم فكانوا أكثر منهم، و(القياس) ثرية، لكنه ليس من حقيقي التأنيث، ومعنى: (أراح): تأتي في الرواح بعد الزوال.
          قوله: (وأعطاني من كل رائحة زوجاً) أي: أعطاني اثنين من كل ما يروح من الإبل والبقر والعبيد، والزوج هنا الاثنين، ويقال للواحد زوج، ويحتمل أنها أرادت زوجاً، والزوج يقع على الصنف، ومنه قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} [الواقعة:7] وصفته بالسؤدد في ذاته، والسعة في ذات يده، وأنه صاحب حرب وركوب، وأنه محسن إليها مفضل على أهلها، ثم إنه مع هذا كله لم يقع عندها موقع أبي زرع، وأن كثيره دون قليل أبي زرع فكيف بكثيره، وكيف حال هذا معيب إذا أضافته مع إساءة أبي زرع أخيراً في تطليقها والاستبدال بها، ولكن حبها له بغض إليها الناس بعده؛ ولهذا كره أولو الرأي تزويج امرأة لها زوج طلقها؛ لميل نفسها إليه.
          قوله: (ميري أهلك) أي: صليهم بالميرة، وهي الطعام، وأصله من امتيار البوادي من الحواضر.
          قوله لعائشة: (كنت لك كأبي زرع) قاله تطييباً لنفسها ومبالغة في حسن معاشرتها، ثم استثنى من ذلك الأمر المكروه منه أنه طلقها (وإني لا أطلقك) تتميماً لتطييب نفسها، وإكمالاً لطمأنينة قلبها، ورفعاً للإيهام؛ لعموم طلاقه لها.
          وقد جاء في رواية أبي معاوية الضرير ما يدل أن الطلاق لم يكن من قبل أبي زرع واختياره، فإنه قال: لم تزل به أم زرع حتى طلقها.
          وجاء أن عائشة قالت: بأبي أنت وأمي، بل أنت خير لي من أبي زرع. وهو جواب مثلها في فضلها وعلمها، فإنه ◙ لما أخبرها أنه لها كهو؛ لفرط محبة أم زرع له وإحسانه إليها. أخبرته هي أنه عندها أفضل، وهي له أحب من أم زرع لأبي زرع.
          وأسلفنا في الوجه الخامس أن فيه التأسي بأهل الإحسان إلى آخره، وهو ما ذكره المهلب واعترضه القاضي فقال: هذا عندي غير مسلم؛ لأنا لا نقول أنه ◙ اقتدى بأبي زرع، بل أخبر أنه لها كأبي زرع، وأعلم أن حاله معها مثل حالة ذلك لا على سبيل التأسي به، فأما قوله فيه التأسي فصحيح ما لم تصادمه الشريعة.
          قوله لها: (كنت لك كأبي زرع) أي: أنا لك؛ كقوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران:110] أي: أنتم خير أمة، ويمكن بقاؤها على ظاهرها كما قال القرطبي: إني كنت لك في علم الله السابق، ويمكن أن يكون مما أراد به الدوام كقوله: {وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:134].
          وفيه: جواز إعلام الرجل بمحبته للمرأة إذا أمن عليها من هجر أو شبهه.
          وفيه: ذكر محاسن النساء للرجال إذا كن مجهولات، بخلاف المعينات، فذلك منهي عنه في قوله: ((لا تصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها)) وفيه: ما يدل على التكلم بالألفاظ العربية والأسجاع، وإنما كره ذلك للتكلف.
          وفيه: حسن المعاشرة مع الأهل ومحادثتهن بما لا إثم فيه، وأن بعضهن ذكرت ما في زوجها من عيب، ولم يكن ذلك غيبة إذ كانوا لا يعرفون، وإنما الغيبة من عين بما يكره ذكره.
          وفيه: جواز قول المرأة لصاحبه: بأبي أنت وأمي.
          وفيه: الرد على من لم يجز قول هذا، وما يحكى عن الحسن ومن قال بقوله، وأنه لا يفدي أحدكم بميتكم، فهذه عائشة قد قالته وأبوها مسلما.
          وفيه: شكر المرأة بإحسان زوجها، وعليه ترجم (ن)، وخرج معه في الباب: ((لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر / زوجها)).
          وفيه: مدح المرء في وجهه إذا علم أن ذلك غير مفسد ولا مغير نفسه، والشارع مظنة كل مدح، ومستحق كل ثناء، وأن من أثنى بما أثنى فهو فوق ذلك كله.
          وقد ورد في الأثر أنه ◙ كان لا يقبل الثناء إلا من مكافئ قال القتبي: إلا أن يكون ممن أنعم عليه ◙ فيكافئه الآخر بالثناء، ورده ابن الأنباري وغلط؛ لأنه لا ينفك أحد من إنعام رسول الله؛ لأن الله تعالى جعله رحمة للناس كافة وهداهم ورحمهم به، فكلهم تحت نعمته، والثناء عليه فرض عليهم لا يتم الإسلام إلا به، وإنما المعنى لا يقبل الثناء إلا من رجل عرف حقيقة إسلامه ممن لا ينبذ بنفاق، وقيل: مكافئ: مقارب في مدحه غير مفرط فيه، كما قال ◙: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ◙)).
          قال عياض: في قوله: ((كنت لك كأبي زرع في الألفة والوفاء)).
          فائدة:
          إن لم يصح النهي عنه جواز قوله للمتزوج؛ لأنه إذا قاله أحد الزوجين لصاحبه، فلا يمتنع أن يقوله الأجنبي لأحدهما.
          وقد اختلف العلماء في هذا، فروي جوازه عن عبد الملك بن حبيب، وعن شريح أيضاً، وكرهه آخرون. منهم عقيل بن أبي طالب.
          وفيه جواز المزح في بعض الأحيان، وإباحة المداعبة مع الأهل، وبسط الوجه مع جميع الناس بالكلام السهل الحلو، وكان ◙ يمزح ولا يقول إلا حقًّا، أخرجه (ت) من حديث أبي هريرة بإسناد جيد، بلفظ: قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا قال: ((إني لا أقول إلا حقًّا)) ثم قال: حديث حسن. ورواه الزبير في ((كتاب الفكاهة والمزاح)) ورواه أيضاً مرسلاً كان رجل من الصحابة ضحاكاً، فذكر ذلك لرسول الله فقال: ((ما تعجبون، إنه ليدخل الجنة وهو يضحك)) وأن النبي صلعم ضرب فخذ الفاكهة بن سكن وقال: ((استعطي يا أم عمرة)) وقال لأبي اليسر: ((يا أم اليسر)) قالوا: فألقى الفاكهة يده على فرجه لا يشك أنه عاد امرأة فقال له ◙: ((ما لك؟)) فقال: ما شككت أني عدت امرأة، فقال ◙: ((إنما أنا بشر أمزح معكم)) وسماه من يومئذ الموقن.
          وأما ما روي من ذم المزح والنهي عنه عن المطين، بسنده عن عكرمة، عن مولاه يرفعه: ((لا يمازحك ولا تمازحه))، وعن عبد الله بن السائب، عن أبيه، عن جده مرفوعاً: ((لا يأخذ أحدكم متاع [أخيه] جادًّا ولا لاعباً))، فليس هذا من المزاح المحمود والمباح، فإنما يهيج الضغائن، ويعد من السباب والكذب، أو يسلط به على ضرر رجل أو ماله، فليس هو من المزاح المحمود، ولا هو من جنس ما جاء عن رسول الله، فإنه ليس مما ورد عنه من ذلك شيء زائد على خفض الجناح وبسط الوجه وطلب التودد. ومن ذهب إلى أنه يسقط الهيبة كما قال أكثم بن صيفي، فلعله في الإكثار منه والتخلق به.
          وأما قول من قال: إنما سمي المزاح مزاحاً؛ لأنه زاح عن الحق فلا يصح لفظاً ولا معنى، أما المعنى، فلما ذكرنا عن رسول الله من أنه كان يمزح ولا يقول إلا حقًّا، وأما اللفظ؛ فلأن الميم في المزاح أصلية ثابتة في الاسم والفعل، ولو كان كما قال كانت تكون زائدة ساقطة من الفعل.
          وفي الحديث أيضاً أن كنايات الطلاق لا يقع بها الطلاق إلا بالنية؛ لأنه ◙ قال: ((كنت لك كأبي زرع)) ومن جملة أفعاله أنه طلق امرأته أم زرع، ولم يقع عليه ◙ طلاق بتشبيهه؛ لكونه لم ينو الطلاق، وقد سلف في رواية: ((غير أني لم أطلقك)).
          ثم ذكر (خ) في الباب حديث عائشة: كان الحبش يلعبون بحرابهم.. الحديث وسلف في العيد وفي المساجد.
          وأن لعبهم كان في المسجد، وادعى بعضهم نسخه بقول الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ} [النور:36] وبحديث: ((جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم))، وأبداه عبد الملك بحثاً، فقال: يحتمل أن يكون منسوخاً؛ لأن نظر النساء إلى الرجال وإلى اللهو فيه ما فيه، وهو عجيب.
          وقوله: (فاقدروا قدر الجارية) يقال: قدرت لأمر كذا أقدر وأقدر إذا نظرت فيه ودبرته، وقدر بفتح الدال / كما ذكره ابن التين. قال الهروي: يقال: قدرت على الشيء أقدراً وأقدراً وقدرة ومقدرة وقدراناً. قال: ومنه يقال: أقدر بدرعك.
          وضبطه عند ابن فارس بإسكان الدال، والمعنى: أن الجارية تطيل المقام؛ لأنها مشتهية للنظر والله أعلم.
          قال والدي ⌂:
          (باب حسن المعاشرة) أي: المخالطة.
          و(سليمان) هو ابن عبد الرحمن الدمشقي، و(علي بن حجر) بضم المهملة وإسكان الجيم وبالراء السعدي، ورواية هشام المروزي مات سنة أربع وأربعين ومائتين، و(عيسى بن يونس) ابن أبي إسحاق السبيعي ورواية هشام بن عروة عن أخيه عبد الله نادر والغالب روايته عن أبيه بدون توسيط الأخ، و(النسوة الإحدى عشرة) كلهن من قرية من قرى اليمن.
          قوله: (غث) أي: مهزول، و(سهل) بالرفع والجر، و(ينتقل) بالنصب والانتقال هنا بمعنى النقل؛ أي: لا يأتي إليه أحد لصعوبة المسلك ولا يؤتى به إلى أحد؛ أي: لا ينقله الناس إلى بيوتهم لرداءته، وفي بعضها فينتقى من النقى بكسر النون وهو المخ أي: يستخرج نقيه، وحاصله أنه قليل الخير من جهة أنه لحم الجمل لا لحم الغنم وأنه مهزول رديء وأنه صعب التناول لا يوصل إليه إلا بمشقة شديدة أي: خيره قليل ذاتاً وصفة وعارضاً.
          الخطابي: المراد بقوله على رأس جبل أنه يترفع ويتكبر أي: جمع إلى قلة الخير التكبر وسوء الخلق، وبقوله لا سمين فينتقل أنه ليس فيه مصلحة فيتحمل سوء عشرته بسببها.
          قوله: (الثانية) واسمها: عمرة بنت عمرو التميمي، و(لا أبث) بالموحدة وفي بعضها بالنون أي: لا أنشره ولا أشيعه.
          قوله: (أخاف أن لا أذره) قالوا فيه تأويلان لأن الهاء إما عائدة إلى الخبر أي: خبره طويل إن شرعت في تفصيله لا أقدر على إتمامه لكثرته أو إلى الزوج وتكون لا زائدة أي: أخاف أن يطلقني فأذره وأقول والتأويل الثالث أن يقال أن معناه أخاف أن أبث خبره إذ عدم الترك هو الإثبات والتبين، وأما (العجر والبجر) بضم العين المهملة في الكلمة الأولى وضم الموحدة في الثانية وفتح الجيم فيهما وبالراء فالمراد بهما عيوبه والمشهور في الاستعمال أن يراد به الأمور كلها وقيل: العجرة نفخة في الظهر والبجرة نفخة في السرة.
          فإن قلت: لم خالفت عهدها حيث تعاهدن أن لا يكتمن شيئاً من أخبارهم قلت: قد ذكرت حيث قالت أخاف أن يطلقني وأنه صاحب العيوب مع أنه لا محذور فيه إذ لم يثبت إسلامهن حتى يجب عليهن الوفاء بالعقود.
          قوله: (الثالثة) وهي بنت كعب اليماني، و(العشنق) بالمهملة والمعجمة والنون المشددة المفتوحات وبالقاف الطويل أي: أنه طويل بلا طائل فإن ذكرت عيوبه طلقني وإن سكت عنه علقني فتركني لا عزباء ولا متزوجةً، قال تعالى: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:129].
          قوله: (الرابعة) واسمها: مهدد بفتح الميم وإسكان الهاء وفتح المهملة الأولى، بنت أبي هرومة بالراء المضمومة، و(تهامة) بكسر الفوقانية هو اسم لكل ما نزل عن نجد من بلاد الحجاز، وهو من التهم بفتح الفوقانية والهاء وهو ركود الريح ويقال تهم الدهن إذا تغير فالمراد أنه كليل أهل مكة أي: كليل أصحاب الأمن أو كليل ركدت الرياح فيه أو كليل الربيع وقت تغير الهواء من البرودة إلى الحرارة وظهور اعتداله، و(القر) بالضم البرد أي: ليس فيه أذى بل هو راحة ولذاذة عيش كليل تهامة لذيذ معتدل ليس فيه حر مفرط ولا برد ولا أخاف له غائلة لكرم أخلاقه ولا ملالة لا له ولا لي من المصاحبة.
          قوله: (الخامسة) واسمها: كبشة بالموحدة والمعجمة، و(فهد) بكسر الهاء وصفته بالإغماض والإعراض وشبهته بالفهد بكثرة نومه يعني: إذا دخل البيت يكون في الاستراحة معرضاً عما تلف من أمواله وما بقي منها، و(أسد) بكسر السين تصفه بالشجاعة أي: إذا صار بين الناس كان كالأسد يعني: سهل مع الأحباء صعب على الأعداء كقوله تعالى: {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] وقال بعضهم: معنى فهد أنه إذا دخل البيت وثب عليّ وثوب الفهد كأنها / تريد المبادرة لجماعها.
          قوله: (السادسة) واسمها هند، و(اللف) في الطعام الإكثار منه مع التخليط من صنوفه حتى لا يبقى منه شيئاً، و(الاشتفاف) في الشراب أن يستوعب جميع ما في الإناء، مأخوذ من الشفافة بضم الشين المعجمة وهي ما بقي في الآبار من الماء فإذا شربه قيل اشتفه.
          قوله: (التف) أي إن رقد التف في ثيابه في ناحية ولم يضاجعني ليعلم ما عندي من محبته وحزني من مفارقته.
          الجوهري: البث الحال والحزن. الخطابي: معناه أنه يتلفف منتبذاً عنها ولا يقرب منها فيولج كفه داخل ثوبها فيكون منه إليها ما يكون من الرجل لامرأته، ومعنى البث ما تضمره من الحزن على عدم الحظوة منه.
          قال أبو عبيد: أحسبها كان بجسدها عيب أو داء تحزن به وكأنه لا يدخل يده في ثوبها لئلا يلمس ذلك فيشق عليها فوصفته بالمروءة وكرم [الخلق]، ورد ابن قتيبة عليه بأنها قد ذمته في صدر الكلام فكيف تمدحه في آخره فقال ابن الأنباري: الرد مردود؛ لأن النسوة تعاقدن أن لا يكتمن شيئاً مدحاً أو ذمًّا فمنهن من كانت أوصاف زوجها كلها حسنة فوصفته بها ومنهن بالعكس ومنهن من كانت أوصافه مختلفة منهما فذكرتهما كليهما.
          قوله: (السابعة) هي بنت علقمة، و(عياياء) بالمهملة وبالتحتانية وبالمد، هو الذي عي بالأمر والمنطق وجمل عياياء إذا لم يهتد للضراب والغياياء بالمعجمة من الغياية وهي الظلة ومعناه لا يهتدي إلى مسلك أو أنه كالظل المتكاثف المظلم الذي لا إشراق فيه أو أنه غطى عليه أموره أو أنه منهمك في الشر وهذا شك من الراوي أو تنويع من الزوجة القائلة، و(طباقاء) بالمهملة والموحدة والقاف ممدوداً المطبقة عليه الأمور حمقاً وقيل: الذي يعجز عن الكلام فينطبق معناه، و(كل داء له داء) أي: جميع أدواء الناس مجتمع فيه، و(شجك) أي: جرحك في الرأس، و(الفل) الكسر والضرب أي: أنها معه بين شج رأس أو ضرب وكسر عضو أو جمع بينهما.
          قوله: (الثامنة) وهي بنت أوس بالواو والمهملة ابن عبد ضد الحر، و(المس) مضاف إلى المفعول أي: هو كظهر الأرنب إذا وضعت يدك عليه، والمقصود أنه لين الجانب كريم الخلق سهل المأخذ، و(الزرنب) بفتح الزاي وسكون الراء وفتح النون ضرب من النبات طيب الرائحة قيل: أرادت به ريح جسده أو طيب ثنائه في الناس(8).
          قوله التاسعة: (رفيع العماد) وصفته بالشرف وسناء الذكر والعماد في الأصل هو العود الذي تعمد به البيوت أي: بيته في الحسب رفيع في قومه وقيل إن بيته الذي يسكنه رفيع العماد ليراه الضيفان وأصحاب الحوائج فيقصدونه وكذا بيوت الأجواد، و(النجاد) بكسر النون، حمائل السيف وهو كناية عن طول القامة، و(عظيم الرماد) عن الضيافة؛ لأن كثرة الرماد مستلزمة لكثرة الطبخ المستلزمة لكثرة الأضياف وقيل: لأن ناره لا تطفأ في الليل ليهتدي به الضيفان والأجواد يعظمون النيران في ظلام الليل ويوقدونها على التلال لاهتداء الضيف به، و(النادي) بالياء هو الأصل لكن المشهور في الرواية حذفها وبه يتم السجع وهو مجلس القوم تصفه بالكرم والسؤدد؛ لأنه لا يقرب من النادي إلا من هذه صفته لأن الضيفان يقصدون النادي يعني ينزل بين ظهراني الناس ليعلموا مكانه فينزلوا عنده، واللئام يتباعدون منه فراراً من نزول الضيف ولم يتحقق لنا اسم التاسعة ولا نسبها وكذلك الأولى(9).
          قوله: (العاشرة) واسمها كبشة مثل الخامسة بنت الأرقم بالراء والقاف، و(ما مالك) هو / للتعجب والتعظيم.
          فإن قلت: ما المشار إليه بقوله ذلك؟ قلت: إشارة إلى مالك أي خير من كل مالك والتعميم يستفاد من المقام أو هو نحو تمرة خير من جرادة أي كل تمرة خير من كل جرادة، أو هو إشارة إلى ما في ذهن المخاطب أي مالك خير مما في ذهنك من ملاك الأموال أو هو خير مما أقوله وهو أن له إبلاً كثيرة يتركها معظم أوقاته بفناء داره لا يوجهها تسرح إلا قليلاً قدر الضرورة حتى إذا نزل به الضيف كانت الإبل حاضرة فيقريه من ألبانها ولحومها.
          و(المزهر) بكسر الميم العود الذي يضرب أي إن زوجها عود الإبل إذا نزل به الضيفان أتاهم بالعيدان والمعازف وآلات الطرب ونحر لهم منها فإذا سمعت الإبل صوت المزهر علمت يقيناً أنه قد جاءه الضيفان وأنهن منحورات هوالك.
          قوله: (الحادية عشر) وفي بعضها: الحادي عشرة، وفي بعضها الحادية عشرة، والأصح أنه الأخير وهي أم زرع بفتح الزاي وإسكان الراء وبالمهملة بنت ابن ساعدة اليمنية وهذا الحديث مشهور بحديث أم زرع، و(أناس) بالنون والألف والمهملة؛ أي: حرك والنوس الحركة أي حلاني قرطه فأذناي يتحركان لكثرتها، و(عضدي) أيضاً بلفظ التثنية وهما إذا سمنا سمن البدن كله فالمقصود أنه أسمنني وملأ بدني شحماً، و(بجحني) من التبجيح بالموحدة والجيم والمهملة وبجحت بكسر الجيم وفتحها لغتان وكلمة (نفسي) فاعلة ومعناه فرحني ففرحت نفسي وقيل: عظمني فعظمت.
          فإن قلت: ما فائدة لفظة إلى؟ قلت: التأكيد إذ فيه التجريد وبيان الانتهاء.
          و(الغنيمة) مصغر الغنم أي: أن أهلها كانوا أصحاب غنم، و(الشق) بكسر الشين وفتحها موضع وقيل: أي: شق الجبل لقلتهم وقلة غنمهم وشق الجبل ناحيته وقيل: بضيق العيش وجهد ومشقة ففيه ثلاثة أقوال، و(الصهيل) أصوات الخيل، و(الأطيط) أصوات الإبل من ثقل حملها والعرب لا تعتد بأصحاب الغنم، وإنما يعتدون بأصحاب الخيل والإبل، و(الدائس) هو الذي يدوس الزرع في بيدره، و(المنقى) هو الذي ينقيه من التبن ونحوه بالغربال وغيره؛ أي: أنهم أصحاب الزراعات، وفي بعضها: بكسر النون من الإنقاق بالنون والقافين يقال أنق إذا صار ذا نقيق وهو صوت المواشي [تصفه] بكثرة الأموال وجمعه بين صنوفها.
          قوله: (ولا أقبح) أي: لا يقبح قولي فيرد بل يقل مني، و(أتصبح) أي: أنام الصبيحة أي: أنها مكفية بمن يخدمها، و(أتقنح) بالقاف والنون والمهملة؛ أي: أقطع الشراب وأتمهل فيه وأتعطف منه وقيل هو الشرب بعد الري وقال بعضهم: هو بالميم وهو أصح ومعناه: أروى حتى أدع الشراب من شدة الري، قال أبو عبيد: لا أراها قالت هذا إلا لعزة الماء عندهم.
          قوله: (عكومها) هو جمع عكم بالمهملة والكاف وهو العدل والوعاء الذي فيه الطعام والمتاع، و(الرداح) بفتح الراء وتخفيف المهملة الأولى العظيم الثقيل.
          فإن قلت: الرداح مفرد والعكوم جمع قلت: أراد كل عكم رداح أو أن يكون الرداح هاهنا مصدراً كالذهاب.
          و(الفساح) بفتح الفاء وخفة المهملة الأولانية الواسع والفسيح الواسع.
          قوله: (مسل) بفتح الميم والمهملة وشدة اللام مصدر بمعنى المسلول أو اسم مكان، و(الشطبة) بفتح المعجمة السعفة الرطبة الخضراء وبالضم مفرد الشطب وهي الطرائق التي في متن السيف أي: أنه خفيف اللحم، و(الجفرة) بفتح الجيم وبالفاء والراء الأنثى من أولاد المعز ما بلغت أربعة أشهر؛ أي: أنه قليل الأكل (وطوع أبيها) أي: مطيعة منقادة لأمره، و(ملء كسائها) أي: ممتلئة الجسم سمينة، و(الجارة) الضرة أي: يغيظها ما ترى من حسنها وجمالها وعفتها وأدبها.
          قوله: (لا تبث) بالموحدة بين المثناة والمثلثة وفي بعضها بالنون أي: لا تشيع سرنا بل تكتمه كله، و(لا تنقث) بالنون وضم القاف والمثلثة (وتنقيثاً) مصدر من / غير فعله عكس قوله تعالى: {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} [آل عمران:37] وفي بعضها بكسر القاف الشديدة، و(الميرة) بكسر الميم ما يجلبه البدوي من الحضر من الدقيق ونحوه؛ أي: لا تفسدها ولا تفرقها ولا تسرع بالسير إليها وغرضها وصف أمانتها، و(تعشيشاً) بالمهملة وبإعجام الشين أي: لا تترك الكناسة والقمامة مفرقة في البيت كعش الطائر، بل هي مصلحة للبيت معتنية بتنظيفه وقيل: معناه لا تخوننا في طعامنا فتخبئه في زوايا البيت كإعشاش الطير، وروي بإعجام العين من الغش في الطعام وقيل من النميمة أي: لا تتحدث بها.
          الخطابي: التعشيش من قولهم: عشش الخبز إذا تكدح وفسد أي: أنها تحسن مراعاة الطعام وتعهده بأن تطعم أولاً فأولاً ولا تغفل عن أمره فينكدح ويفسد في البيت.
          قوله: (الأوطاب) جمع الوطب وهو سقاء اللبن خاصة وهو جمع على غير قياس، و(المخض) أخذ الزبد من اللبن، و(الخصر) وسط الإنسان أي: أنها ذات كفلين عظيمين وثدياها صغيران كالرمانتين كلما تحركت كان كل كفل منها كطفل يلعب من كثرة تحركه بالرمانتين لأن تحرك الكفل مستلزم لتحرك الثدي وقيل معناه أن لها كفلاً عظيماً إذا استلقت على قفاها نبا الكفل من الأرض حتى تصير تحتها فجوة تجري فيها الرمان.
          قوله: (سريا) بالمهملة وخفة الراء السيد الشريف، و(الشرى) بالمعجمة وتخفيف الراء الفرس الذي يستشرى في سيره أي: يلج ويمضي بلا فتور وانكسار، و(الخطى) بفتح المعجمة وكسر المهملة الشديدة والرمح المنسوب إلى الخط وهي قرية في ساحل البحر عند عمان والبحرين وفيها تثقف الرماح في غاية الجودة، و(أراح) من الإراحة وهي السوق إلى موضع المبيت، و(الثرى) بالمثلثة وكسر الراء الخفيفة وشدة التحتانية، الكثير من المال، و(كل رائحة) أي: ما يروح من النعم والعبيد والإماء، و(زوجا) أي: اثنين ويحتمل أنها أرادت صنفاً.
          قوله: (ميري) بكسر الميم أي: أعطي أهلك وصليهم، و(أصغر الآنية) أي: أقل الظروف المستعملة في البيت يعني: كل عطائه لا يساوي بعض عطائه الأصغر وكثيره لا يوازن قليله الأحقر.
          قوله: (كنت لك) قاله رسول الله صلعم تطييباً لنفسها وإيضاحاً لحسن عشرته إياها، و(كان) هي زائدة أي: أنا لك.
          وفيه أن المشبه بالشيء لا يلزم كونه مثله في كل شيء وأن كنايات الطلاق لا يقع بها الطلاق إلا بالنية؛ لأنه صلعم قال لعائشة: ((كنت لك كأبي زرع)) ومن أفعاله أنه طلق امرأته ولم يقع عليه صلعم طلاق بتشبيهه لكونه لم ينو الطلاق، وفي بعض الروايات ((غير أني لا أطلقك)).
          وفيه جواز الإخبار عن الأمم السالفة، وقال بعضهم: وما ذكر من أزواجهن مما يكره لم يكن ذلك غيبة لكونهم لا يعرفون بأعيانهم وأسمائهم(10).
          قوله: (سعيد بن سلمة) بالمفتوحات. الغساني: صوابه في هذه المتابعة كما في بعض النسخ هو قال أبو سلمة عن سعيد بن سلمة عن هشام ولا تعشش، و(أبو سلمة) هو موسى بن إسماعيل التبوذكي بفتح الفوقانية وضم الموحدة وفتح المعجمة، و(ابن سلمة) هو أبو الحسام المخزومي بالمعجمة والزاي، و(هشام) هو ابن عروة وهكذا في (م).
          قوله: (هشام) أي: ابن يوسف الصنعاني، و(معمر) بفتح الميمين، و(الحبش) هو الجنس المعروف من السودان (والحراب) جمع: الحربة، و(اقدروا) بضم الدال وكسرها لغتان أي: قدروا رغبتها في ذلك إلى أن ينتهى، و(الحديثة السن) أي: الشابة فإنها تحب اللهو والتفرج والنظر إلى اللعب حبًّا بليغاً وتحرص على إدامته ما أمكنها ولا تمل ذلك إلا بعد زمان طويل ومر الحديث في كتاب صلاة العيد / .
          وفيه ما كان عليه صلعم من الرأفة والرحمة وحسن الخلق والمعاشرة بالمعروف صلعم (11).
          الزركشي:
          (حديث أم زرع): الصحيح أن المرفوع منه قوله لعائشة: ((كنت لك كأبي زرع لأم زرع)) وقد رفعه كله للنبي صلعم سعيد بن مسلم[ة] المديني، وهو وهم عند أئمة الحديث.
          (جلس إحدى عشرة امرأة) كذا لرواة (خ)، ولبعض رواة (م): ((جلسن)) بالنون في آخره، والأحسن حذفها وإفراد الفعل، وتتخرج الثانية على لغة: ((أكلوني البراغيث)).
          وذكر نحواً مما سبق من كلام ابن الملقن ووالدي ⌐، ولم يذكر الزركشي اسم أحد منهن.
          أقول:
          واسم الأولى: مهدد بنت أبي مقربة، والثانية: كبشة بنت الأرقم، وقيل: عمرة بنت عمرو، والثالثة: حيى بنت كعب، والرابعة: مهدد بنت أبي هرومة وقيل: بحينة بنت ساعدة، والخامسة: كبشة وقيل: حبى بنت علقمة، والسادسة: هند وقيل: مليكة بنت دوس بن عبد، والسابعة: هند بنت سيل بن ثروان، وقيل: حبى بنت علقمة، والثامنة: عمرة بنت عمرو وقيل: بنت أوس بن عبد، والتاسعة: كبشة بنت سمرقة بن اليسيل، والعاشرة: حيى بنت كعب وقيل: كبشة بنت أرقم، والحادية عشر أم زرع اسمها عاتكة بنت كهيل بن ساعدة.
          قال الزركشي:
          قوله: (كنت لك كأبي زرع) أي: أنا لك كقوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ} [آل عمران:110].
          ويمكن أن يكون على ظاهره أي: كنت لك في علم الله تعالى وأراد به الدوام قاله تطييباً لقلبها إذ لم تكن في أحواله مما يكره سوى طلاقه لها، وقد ورد استثناؤه صلعم ((غير أني لا أطلقك)) رواه (ت)، قال القاضي: وقد ورد في رواية أبي معاوية الضرير تأويل على أن الطلاق لم يكن من قبل أبي زرع واختياره قال: وإنه لم تزل به أم زرع حتى طلقها، وفي رواية قالت عائشة: بأبي أنت وأمي بل أنت خير لي من أبي زرع، وهذا جواب مثلها في فضلها وعلمها، فإنه صلعم لما أخبرها بكمال منزلتها عنده أخبرته هي أنه عندها أفضل وأحب.
          قوله: (لا تصوم المرأة) قال السفاقسي: صوابه لا تصم المرأة لأنه نهي، والنهي يجزم الفعل فيلتقي ساكنان فيحذف المراد قلت: يمكن أن يجوز الرفع ويكون خبراً بمعنى النهي.
          أقول:
          قوله: (كل داء له داء) معناه: أن كل داء من الناس فهو فيك.
          و(شجك أو فلك) معنى شجك أي: فتح رأسك أو فلك أي كسر منك عضواً أو جمع قلالك أي: جمع بين الكسر والشج.
          قوله: (أو أسمعن صوت المزهر إلى آخره) فإن قلت: من أين علمت ما في ضمن الإبل؟ قلت: قالته بقرينة دلت عليه وهي أنهن كن ينزعجن عند سماع صوت المزهر فاستغرب من ذلك أنهن يعلمن أن ذلك إمارة لذبحهن.
          وهذا الذي ذكرنا ملخص مما ذكره القاضي وغيره في شرح هذا الحديث والله أعلم.


[1] في هامش المخطوط: ((أقول: والقاضي عياض وسأذكر ملخصه إن شاء الله تعالى)).
[2] في هامش المخطوط: ((أقول: هذا لا يناسب أن يكون سبباً لذكر قصة أم زرع فإنها مساقة لحسن المعاشرة وعقد الترجمة عليه)).
[3] في هامش المخطوط: في (ط): ((لحم)).
[4] في هامش المخطوط: ((أقول: وكبر الهامة)).
[5] في هامش المخطوط: ((أقول: ويحتمل أنها كنت عن فقره وعدم ثياب ينام فيها يعني ينام في ثيابه فهي لتقضيه ولنومه بخلاف ما هو المعهود بين الناس يؤيده إذا شرب استف فدل على فقره أيضاً ولو كان غنياً لأسئر سؤراً)).
[6] في هامش المخطوط: ((أقول: بل هي أسمن ما يكون لأنها تعلف في منازلها وهذا من غاية الملاءة، والمعنى أن لا تحتاج إيوله إلى السرح للرعي نعماً قاله النيسابوري نظر فتأمله)).
[7] في هامش المخطوط: ((أقول: بل المراد أن إبله كبيرة، فإن كثرة المبارك تدل على كثرة الإبل كما أن كثرة الرماد يدل على كثرة الطبخ، وكثرة الطهي يدل على كثرة الأكلة وهم الأضياف)).
[8] في هامش المخطوط: ((أقول: قال ابن البيطار الزرنب هو من دقيق النبات ورائحة عطره ويسمى أرجل الغراب ورقة مثل ورق الطرفاء أصفر رائحته تشبه رائحة الأترج فيه قبض ولطافة بحبس البطن، وهو شبيه بالسليخة والكبابة في القوة ويستعمل بدل الدارصيني)).
[9] في هامش المخطوط: ((أقول: الأولى اسمها: مهدد بنت أبي مقربة، والتاسعة: اسمها كبشة بنت سمرة بن اليسيل)).
[10] في هامش المخطوط: ((أقول: كانوا معروفين عند نسائهم فيكن اغتبن أزواجهن فلا يتم هذا الجواب)).
[11] في هامش المخطوط: ((أقول: مسند أحمد بن حنبل هو نحو عشرين مجلداً، وجملة ما فيه من الأحاديث أربعون ألف حديث مكرر منها عشرة آلاف، قال أحمد: جمعته من خمسمائة وخمسين ألف حديث، وجعلته حجة بيني وبين الله تعالى.
تكميل: حديث لا يجده فيه فليس بشيء وهذا يدل على إحاطته بالسنة واطلاعه عليها.
أقول: ومع ذلك قد أحل الله بحديث أم زرع به هو في الصحيح وخرج ابن الجوزي في الموضوعات من مسند أحمد سبعة أحاديث: واعلم أن أحمد بن حنبل لم يلتزم الصحيح في ((مسنده)) إنما خرج فيه ما لم يجمع الناس على تركه.
وفيه أسلفنا أنه لم يصح من حديث أم زرع عنه ◙ إلا قوله: كنت لك كأبي زرع لأم زرع)).