مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب الخطبة

          ░47▒ باب الخطبة
          فيه حديث ابن عمر جاء رجلان من المشرق... الحديث.
          وذكره في الطب و(د) (ت): قال (ت) وفي الباب عن عمار وأبي مسعود وعبد الله بن الشخير والمشرق هنا مشرق المدينة، وللترمذي: فعجب الناس من كلامهما، فالتفت إلينا رسول الله صلعم فقال: ((إن من البيان سحراً)) أو ((إن بعض البيان سحراً)) والرجلان: الزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم، واسمه سنان، هتمة قيس بن عاصم، وكانا وفدا على رسول الله سنة تسع من الهجرة في وفد بني تميم، سبعين أو ثمانين، فيهم الأقرع بن حابس، وقيس بن عاصم، وعطارد بن حاجب.
          روى البيهقي في ((دلائله)) من حديث مقسم عن ابن عباس قال: جلس إلى رسول الله صلعم قيس بن عاصم والزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم التميميون، ففخر الزبرقان فقال: يا رسول الله، أنا سيد بني تميم والمطاع فيهم والمجاب، أمنعهم من الظلم، وآخذُ لهم بحقوقهم، وهذا يعلم ذلك يعني عمراً، فقال عمرو: إنه لشديد العارضة، مانع لجانبه، مطاع في أدنيه. فقال الزبرقان: والله يا رسول الله لقد علم مني غير ما قال، وما منعه أن يتكلم إلا الحسد. فقال عمرو: أنا أحسدك! والله يا رسول الله إنه لئيم الخال، حديث المال، أحمق الولد، مضيع في العشيرة، والله يا رسول الله لقد صدقت في الأولى وما كذبت في الآخرة، ولكني رجل إذا رضيت قلت: أحسن ما علمت، وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت. فقال ◙: ((إن من البيان سحراً، إن من البيان سحراً)).
          ولأبي داود بإسناد صحيح عن ابن عباس جاء أعرابي إلى رسول الله صلعم، فجعل يتكلم بكلام فقال ◙.. الحديث.
          وعند أبي زرعة دخل رجل على رسول الله صلعم فأثنى عليه فقال ◙.. الحديث.
          ومن حديث صخر بن عبد الله بن بريدة عن أبيه، عن جده مرفوعاً: ((إن من البيان سحراً، وإن من العلم جهلاً، وإن من الشعر حكماً، وإن من القول عيالاً)).
          فقال صعصعة بن صوحان العبدي: صدق نبي الله صلعم.
          أما قوله: (إن من البيان سحراً) فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق، فيسحر القوم ببيانه، فيذهب بالحق.
          وأما قوله: (من العلم جهلاً) فهو أن يتكلف العالم إلى علمه بما لا يعلم فيجهل لذلك.
          وأما قوله: (إن من الشعر حكما) فهي هذه المواعظ والأمثال التي يتعظ بها الناس.
          وأما قوله: (من القول عيالا) فعرضك كلامك على من ليس من شأنه ولا يريده، ورواه أبو زرعة الحافظ أحمد بن الحسين بن علي الرازي في كتاب الشعراء عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، به.
          قال ابن التين: أدخل هذا الباب في النكاح وليس هو موضعه. قلت: بل موضعه، فإن قصده الخطبة عند الخطبة، ويجوز أن يريد به عند النكاح، والخطبة عند الحاجة من الأمر القديم المعمول به.
          وفيه حديث ابن مسعود المشار إليه، وقد أخرجه أصحاب السنن الأربعة والحاكم، وحسنه (ت) ووجه استحبابها تسهيل أمر الخاطب والرغبة في الدعاء إليه، ألا ترى أنه ◙ قد شبه حسن التواصل إلى الحاجة بحسن الكلام فيها، واستنزال المرغوب إليه بالبيان بالسحر، وإنما هذا من أجل ما في النفوس من الأنفة في أمر الوليات، فقال / ◙: ((إن حسن التواصل إلى هذا الذي تأنف النفوس منه حتى تحبب إلى ذلك المستبشع وجه من وجوه السحر الحلال)).
          واستحب العلماء الخطبة في النكاح، قال مالك: هو الأمر القديم وما قل منها فهو أفضل.
          قال ابن حبيب: كانوا يستحبون أن يحمد الله الخاطب ويصلي على نبيه، ثم يخطب المرأة، ثم يجيبه المخطوب إليه بمثل ذلك من حمد الله والصلاة على نبيه، ثم يذكر حاجته. وأوجبها أهل الظاهر فرضاً، واحتجوا بأنه ◙ خطب حين زوج فاطمة، وأفعاله على الوجوب واستدل الفقهاء على عدم وجوبها بقوله: ((قد زوجتكها بما معك من القرآن)) ولم يخطب.
          وفي (د) أنه ◙ خطب إليه رجل قال فأنكحني من غير أن يتشهد.
          والبيان: الإتيان بلفظ آخر لا يزيد على كشف معناه بزيادة ألفاظ رائعة تستميل القلوب وتجلبها، كما أن السحر يخرجها عن حد الاعتدال، وهذا إذا كان اللفظ فيه صدقاً وجائزاً، والمقصود به بغير الحق كان ممدوحاً، فقد كان لسيدنا رسول الله صلعم يلقى به الوافدين وهو ثابت بن قيس، وشاعر وهو حسان بن ثابت، وإذا كان البيان على ضد ذلك كان الذم لذلك لا للفظ، كالشعر فإنه يذم بما يضمنه ويمدح لا للنظم.
          وقيل: البيان: ما تقع به الإبانة عن المراد بأي لغة كان، ولم يذكر بالسحر هذا النوع، وإنما أراد به بيان بلاغة وحذق، وهو ما دخلته الصيغة بالتحسين لألفاظه حتى يستميل به قلوب سامعيه، فهذا يشبه السحر في جلبة القلوب، وربما حول الشيء عن ظاهر صورته فيبرزه للناظرين في معرض غيره، فهذا يمدح فاعله، والمذموم من هذا الفصل أن يقصد به الباطل واللبس فيوهمك المنكر معروفاً، وهذا مذموم، وهو أيضاً مشبه بالسحر، والسحر صرف الشيء عن حقيقته قال تعالى: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:89] أي: تصرفون، وهذا من باب تسمية الشيء ببعض معناه؛ لأنه سمى البيان سحراً، وإنما هو مضارع للسحر.
          وفي الحديث فضل البلاغة والمجاز والاستعارة، وجواز الإفراط في المدح؛ لأنه لا شيء في الإعجاب والأخذ بالقلوب يبلغ مبلغ السحر، وإنما تحمله البلاغة، واللسن إذا لم تخرج إلى حد الإسهاب والتفيهق، فقد جاء في (د): ((أبغضكم إلى الله الثرثارون المتفيهقون)) وكان هذا والله أعلم إذا كان ممن يحاول تزيين الباطل وتحسينه بلفظ ويريد إقامته في صورة الحق، فهذا هو المكروه الذي ورد فيه التغليظ.
          وأما قول الحق فجميل على كل حال سواء كان فيه إطناب أو لا إذا لم يتجاوز الحق، غير أن أوساط الأمور أعدلها.
          واتفق علماء البلاغة وغيرهم على مدح الإيجاز، والاختصار في البلاغة، وإدراك المعاني الكثيرة بالألفاظ اليسيرة. وقيل: المراد بالبيان هنا: الذم، واستدل متأول ذلك بإدخال مالك هذا الحديث في باب ما يكره من الكلام بغير ذكر الله، وهو مذهبه في تأويل الحديث والأول أولى.
          قال والدي ⌂:
          (باب لا يخطب).
          قوله: (خطبة) بكسر الخاء، و(يدع) أي: يترك، و(مكي) بلفظ المنسوب إلى مكة المشرفة، و(ابن جريج) بضم الجيم الأولى عبد الملك، و(لا يخطب) بالنصب ولا زائدة وبالرفع نفياً وبالكسر نهياً بتقدير قال مقدراً عطفاً على نهى أي نهى وقال لا يخف، و(الأخوة) متناولة للأخ النسبي والرضاعي والديني مر في كتاب البيع.
          قوله: (جعفر بن ربيعة) بفتح الراء والأعرج هو عبد الرحمن (ويأثر) أي: يروي.
          فإن قلت: (إياكم والظن) تحذير منه والحال أنه يجب / على المجتهد متابعة ظنه إجماعاً وكذا على مقلده قلت: ذلك في أحكام الشريعة.
          فإن قلت: إحسان الظن بالله تعالى وبالمسلمين واجب؟ قلت: هذا تحذير عن ظن السوء بهم.
          فإن قلت: الحزم سوء الظن وهو ممدوح؟ قلت: ذلك بالنسبة إلى أحوال نفسه وما يتعلق بخاصته وحاصله أن المدح للاحتياط فيما هو متلبس به.
          القاضي البيضاوي: التحذير عن الظن إنما هو فيما يجب فيه القطع والتحدث به مع الاستغناء عنه.
          قوله: (أكذب الحديث) فإن قلت: الكذب هو عدم مطابقة الواقع، وذلك لا يقبل الزيادة والنقصان فما وجه الأفعل؟ قلت: يعني أن الظن أكثر كذباً من الكلام، أو أن إثم هذا الكذب أزيد من إثم الحديث به أو من سائر الأكاذيب.
          فإن قلت: فلم إثمه أكثر؟ قلت: لأنه أمر قلبي ولا اعتبار به كالإيمان ونحوه.
          فإن قلت: الظن ليس كذباً وشرط الأفعال أن يكون مضافاً إلى جنسه؟ قلت: لا يلزم أن يكون الكذب صفة للقول بل هو صادق أيضاً على كل اعتقاد وظن ونحوهما إذا كان مخالفاً للواقع إذ الظن كلام نفساني، والأفعل قد يضاف إلى غير جنسه أو يعني أن الظن أكثره كذب أو أن المظنونات يقع فيها الكذب أكثر من المجزومات.
          الخطابي: هو تحقيق الظن دون ما يهجس في النفس فإن ذلك لا يملك أي المحرم من الظن ما يصر صاحبه عليه ويستمر في قلبه دون ما يعرض ولا يستقر، والمقصود أن الظن يهجم بصاحبه على الكذب إذا قال على ظنه ما لم يتيقنه فيقع الخبر عنه حينئذ كذباً؛ أي: أن الظن منشأ أكثر الكذب.
          قوله: (لا تجسسوا ولا تحسسوا) الأول بالجيم والثاني بالمهملة، وفي بعضها بالعكس فقيل: التحسس بالحاء الاستماع لحديث القوم وبالجيم البحث عن العورات وقيل: بالحاء هو أن تطلبه لنفسك وبالجيم أن تطلبه لغيرك وقيل هما بمعنى وهو طلب معرفة الأخبار الغائبة والأحوال.
          قوله: (أو ينكح) فإن قلت: كيف يصح هو غاية لقوله لا يخطب؟ قلت: بعد النكاح لا يمكن الخطبة فكأنه قال: لا يخطب على الخطبة أصلاً كقوله تعالى: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40].
          وأما فقهه فهو أن المنهي عنه إنما يتحقق إذا كان قد ركن كل واحد منهما إلى صاحبه وأراد العقد، وأما قبل ذلك فلا يدخل في النهي.
          قوله: (تفسير ترك الخطبة) أي: الاعتذار عن تركها، و(موسى بن عقبة) بضم المهملة وإسكان القاف، و(محمد بن عبد الله) ابن أبي عتيق بفتح المهملة الصديقي التيمي القرشي.
          قال شارح التراجم مراد (خ): الاعتذار عن ترك إجابة الولي إذا خطب رجلاً على وليته لما في ذلك من ألم عار الرد على الولي وانكسار القلب وقلة الحرمة.
          قوله: (الخطبة) بضم الخاء، و(قبيصة) بفتح القاف وكسر الموحدة وبالمهملة ابن عقبة بسكون القاف يروي عن سفيان. الثوري: وفي بعضها قتيبة مصغر القتبة بالقاف والفوقانية والموحدة يروي عن سفيان بن عينية ولا قدح بهذا؛ لأنهما بشرط (خ).
          قوله: (المشرق) أي: من طرف نجد، و(رجلان) هما الزبرقان بكسر الزاي وسكون الموحدة وكسر الراء وبالقاف ابن بدر بالموحدة والمهملة والراء التميمي، وعمرو بن الأهتم بفتح الهمزة والفوقانية وإسكان الهاء بينهما التميمي، وفدا على رسول الله صلعم في وجوه قومهما وساداتهم وأسلما، قال الغساني: ففخر الزبرقان فقال: يا رسول الله أنا سيد بني تميم والمطاع فيهم والمجاب منهم آخذ بحقوقهم وأمنعهم من الظلم، وهذا يعني ابن الأهتم يعلم ذلك فقال عمرو: إنه لشديد العارضة مانع لجانبه مطاع في أدانيه فقال الزبرقان: والله لقد كذب يا رسول الله وما منعه أن يتكلم إلا الحسد فقال عمرو: أنا أحسدك فو الله إنك للئيم الخال حديث المال أحمق الولد مُبغض في العشيرة والله ما كذبت في الأولى ولقد صدقت في الثانية، فقال رسول الله صلعم: ((إن من البيان لسحراً)) / .
          الخطابي: البيان بيانان بيان تقع به الإبانة عن المراد بأي وجه كان، والضرب الآخر: بيان بلاغة وحذق وهو ما دخلته الصنعة بحيث يروق السامعين ويستميل به قلوبهم وهو الذي يشبه بالسحر إذا غلب القلوب وغلب على النفوس حتى ربما حول الشيء عن ظاهر صورته وصرفه عن قصد جهته فأبرز للناظر في معرض غيره، وهذا يُمدّحُ إذا صرف إلى الحق ويذم إذا قصد به الباطل حتى يوهمك القبيح حسَنا والمنكر معروفاً فعلى هذا يكون المذموم منه وهو المشبه بالمذموم الذي هو السحر.
          وقال بعضهم: أصل السحر صرف الشيء عن حقيقته، قال محيي السنة: منهم من حَمَل هذا الكلام على المدح والحث على تحسين الكلام وتخيير الألفاظ، ومنهم من حمل على الذم في التصنع في الكلام والتكلف لتحسينه وصرف الشيء عن ظاهره كالسحر الذي هو تخييل لما لا حقيقة له.
          الزركشي:
          (وكونوا عباد الله إخوانا) انتصب ((عباد الله)) على النداء وحذف حرفه، و((إخوانا)) خبر كان، ويجوز أن يكونا خبرين.
          (جاء رجلان من المشرق) المراد مشرق المدينة، والرجلان: الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم، وكانا وفدا على رسول الله صلعم سنة تسع من الهجرة في وفد بني تميم سبعين أو ثمانين، انتهى كلام الزركشي.
          أقول:
          (الزبرقان) اسمه: الحصين وإنما قيل له الزبرقان لحسنه، والزبرقان القمر.