مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب ما يكره من التبتل والخصاء

          ░8▒ باب ما يكره من التبتل والخصاء
          فيه أحاديث:
          1- حديث سعد بن أبي وقاص رد رسول الله صلعم على عثمان بن مظعون... الحديث وأخرجه (م) أيضاً.
          2- حديث قيس قال: قال عبد الله يعني ابن مسعود: كنا نغزو... الحديث سلف قريباً.
          3- وقال أصبغ: أخبرني ابن وهب / .. إلى آخره.
          كذا وقع في الأصول: (وقال أصبغ..) إلى آخره، وكذا ذكره أبو مسعود وخلف، وخالف ذلك أبو نعيم والطرقي فقالا: رواه (خ) عن أصبغ. وقد وصله الإسماعيلي فرواه عن القاسم، ثنا الرمادي، ثنا أصبغ به. وأما ما وقع في كتاب الطرقي: أصبغ بن محمد فغير جيد؛ لأنا لا نعلم في (خ) شيخاً اسمه أصبغ بن محمد، بل ولا في باقي الستة، وإنما هذا أصبغ بن الفرج وراق ابن وهب، والعنت بالتحريك: الحمل على المكروه، وقد عنت يعنت، وأعنته غيره. فالعنت: الإثم، وقد عنت: اكتسب إثماً، والعنت: الفجور والزنا وكل أمر شاق، ذكره في ((المنتهى)) وفي ((التهذيب)): الإعنات: تكليف غير الطاقة.
          وقال ابن الأنباري: أصله التشديد. والتبتل: الانقطاع عن النساء وترك النكاح انقطاعاً إلى العبادة، وأصله القطع، ومنه فاطمة البتول، ومريم البتول؛ لانقطاعهما عن نساء زمانهما ديناً وفضلاً ورغبة في الآخرة، وصدقة بتلة؛ أي: منقطعة عن مالكها.
          قال الطبري: والتبتل الذي أراده عثمان بن مظعون هو ما عزم عليه من ترك النساء: والطيب وكل ما يلتذ به مما أحله الله تعالى لعباده من الطيبات مطلقاً، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ}الآية [المائدة:87]، وروي هذا عن ابن عباس وجماعة. وقول أبي زيد: التبتل: العزوبة. يريد نوعاً من أنواع التبتل.
          وإن قيل: من أين يلزم من جواز التبتل عن النساء: جواز الاختصاء، وهو قطع عضوين شريفين بهما قوام النسل، وربما أفضى بصاحبه إلى الهلاك، وهو محرم بالاتفاق(1)؟ فالجواب: أن ذلك لازم من حيث أن مطلق التبتل يتضمنه.
          (وكأن قائل ذلك الحقيقي) الذي يؤمن معه شهوة النساء: هو الخصي، فكأنه أخذ بأكثر ما يدل عليه الاسم، والألم العظيم مغتفر في جنب صيانة الدين، فقد يغتفر الألم العظيم في جنب ما هو أعظم منه كقطع اليد للأكلة، وكالكي والبط، وغير ذلك، ودعوى إفضائه إلى الهلاك غالباً غير مسلم، بل وقوع الهلاك منه نادر، فلا يلتفت إليه، وخصاء البهائم يشهد لذلك، وما ذكرناه إنما هو تقرير لما وقع لسعد، ولا يظن أن ذلك يجوز لأحد اليوم، بل هو محرم بالإجماع، ودل ما ذكرناه إنما هو مبني على الأخذ بظاهر قوله: (لاختصينا) ويحتمل أن يريد به سعد: لمنعنا أنفسنا من النساء منع المختصي، والأول هو الظاهر.
          قال المهلب: وإنما نهى نفسه ◙ عن التبتل والترهب من أجل أنه مكاثر بهم الأمم يوم القيامة، وأنه في الدنيا يقاتل بهم طوائف الكفار، وفي آخر الزمان يقاتلون الدجال، فأراد ◙ أن يكثر النسل.
          ولا التفات إلى ما روي: ((خيركم بعد المائتين الخفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد))، فإنه ضعيف بل موضوع، وكذا قول حذيفة: إذا كان سنة خمسين ومائة فلأن يربي أحدكم جرو كلب خير له من أن يربي ولداً.
          فرع:
          قال ابن حزم: وليس النكاح فرضاً على النساء: لقوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء} [النور:60] الآية، وقوله ◙ في الخبر الثابت: ((الشهادة سبع سوى القتل)) فذكر ◙: ((والمرأة تموت بجمع شهيدة))، قال: وهي التي تموت في نفاسها. ((والمرأة تموت بكراً لم تطمث)) وفيما ذكره نظر، فالنساء شقائق الرجال وقد نبه على ثلاث لا يؤخر ومنها الإثم إذا وجدت له كفؤا.
          وللحاكم من حديث عائشة مرفوعاً: ((ما من شيء خير لامرأة من زوج أو قبر)) ولابن الجوزي في كتاب ((النساء)) من حديث زيد بن أسلم، عن أبيه قال عمر: زوجوا أولادكم إذا بلغوا لا تحملوا آثامهم. وعن خليد بن دعلج قال: قال الحسن: بادروا ببناتكم التزويج.
          وللخلال في ((علله)) عن ابن أبي نجيح المكي رفعه: ((مسكينة مسكينة امرأة ليس لها زوج)) قالوا: يا رسول الله، وإن كانت غنية من المال؟ قال: ((وإن كانت غنية من المال)) وقال مثل ذلك في الرجل.
          فصل
          لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء / مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح إذا خاف على نفسه بإحلال ذلك بعض الخبث والمشقة أو أمنه؛ وذلك لرده ◙ التبتل على عثمان بن مظعون، فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب الله عباده إليه، وعمل به رسوله وسنه لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون؛ إذ كان خير الهدي هديه، فإذا كان ذلك تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لبس ذلك من حله، وآثر أكل الفول والعدس على أكل خبز البر والشعير، وترك أكل اللحم والودك؛ حذراً من عارض الحاجة إلى النساء.
          فإن ظن الظان أن الفضل في غير الذي قلنا: لما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف فضل ما بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة فقد ظن خطأ، وذلك أن الأولى بالأجسام إصلاحها وعونها على طاعة ربها، ولا شيء أضر للجسم من المطاعم الرديئة؛ لأنها مفسدة لعقله ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سبباً إلى طاعاته.
          وفيه: أن خصاء بني آدم حرام، وذلك أن التبتل إذا كان منهيًّا عنه ولا جناية فيه على النفس غير بمنعها المباح لها، فمنعها ما فيه جناية عليها بإيلامها وتعذيبها بعض الأعضاء أحرى أن يكون منهيًّا عنه، فثبت بهذا أن قطع شيء من أعضاء الإنسان من غير ضرورة تدعو إلى ذلك حرام، وسواء في ذلك الصغير والكبير، ولأن فيه تغيير خلق الله، ولما فيه من قطع النسل.
          وأما غير الآدمي فإن كان لا يؤكل فكذلك، كما قاله البغوي، وأما المأكول فيجوز في صغره دون كبره.
          قوله: (فاختص على ذلك أو ذر) وقع في بعض الأصول: ((اقتصر)) بدل: ((اختص)) وهذا مثل قوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40] لأنه أمر بعد حظر، فهو في معنى الزجر والمنع.
          قال ابن الجوزي: ليس بأمر، وإنما المعنى: إن فعلت أو لم تفعل فلا بد من نفوذ القدر، وقد رأينا بعض جهال الأحداث يزهد في صباه، فلما اشتدت عليه العزوبة جب نفسه. فانظر ما يصنع الجهل بأهله، ثم ينبغي أن يعلم أن الله وضع هذا الأمر لحكمة وهي إيجاد النسل، فمن تسبب في قطعه فقد ضاد الحكمة، ثم من النعمة على الرجل خلقه رجلاً ولم يجعل امرأة، فإذا جب نفسه اختار النقص على التمام، فلو مات من ذلك استحق النار مع مكابدته في العاجلة شدة لا توصف، ومنع نفسه لذة عاجلة ووجود ولد يذكر به أو يثاب عليه مع تسوية نفسه، وهو أبعد له بما رجاه، فإن قطع الآلة لا يزيل ما في القلب من الشهوة بل يزداد أضعافاً فيما ذكره الجاحظ في كتاب ((الحيوان)) وكتاب ((الخصيان)).
          وفي حديث أبي هريرة إثبات القدر، وأن المرء لا يفعل باختياره شيئاً لم يكن سبق في علم الله سبحانه.
          وقول ابن مسعود: (ثم أرخص لنا أن ننكح بالثوب) يعني: المتعة التي كانت حلالاً في أول الإسلام ثم نسخت بالعدة والميراث والصدقات.


[1] في هامش المخطوط: ((أقول: قال الأطباء: الأعضاء الرئيسية في الإنسان أربعة: ثلاثة بفواتها تموت الحياة، والرابع: يفوت بفواته النسل، فالثلاثة: الدماغ والقلب والكبد، والرابع الأنثيان)).