التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب التشهد في الأولى

          ░147▒ بَابُ التَّشَهُّدِ فِي الأُولَى
          830- ذكر فيه حديث ابن بُحَينة السالف في الباب المذكور.
          ░148▒ بَابُ التَّشَهُّدِ فِي الآخِرِ
          831- ذكر فيه حديث عَبدِ اللهِ قال: (كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صلعم، قُلْنَا السَّلَام عَلَى اللهِ قِبَلَ عِبَادِهِ، السَّلاَمُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، السَّلاَمُ عَلَى فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلعم فَقَالَ: إِنَّ اللهَ هُوَ السَّلاَمُ، فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمُوهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ).
          الشرح: هذا الحديث أخرجه مسلمٌ أيضًا والأربعة، وهو أشدُّها صحَّةً باتِّفاق المحدِّثين.
          وأخرجه البخاريُّ في مواضع جمَّةٍ منها غير ما في الصلاة: الدعوات، والتوحيد، والاستئذان، وباب: الأخذ باليد من كتاب الاستئذان، ولفظه ((عن عبد الله: علَّمَني رسولُ اللهِ صلعم وكفَّي بينَ كفَّيه التشهُّدِ كما يُعلِّمنا السُّورةَ من القرآن)). فذكره، وفي آخره: ((وَهُو بينَ ظَهْرانينا، فلمَّا قُبض قلنا: السَّلامُ. يعني: على النبيِّ ◙)).
          ولمسلمٍ فقال لنا ذات يوم: ((إنَّ اللهَ هُوَ السَّلامُ))، وفي «المنتقى»: ((السَّلامُ على إسرافيلَ))، وفي «المصنَّف»: ((ما كنَّا نكتبُ في عَهْد رسول الله صلعم مِن الحديث إلَّا التشهُّدَ والاستخارةَ)). واختلف العلماء في التشهُّد الأخير، فذهب الكوفيُّون ومالكٌ والأوزاعيُّ إلى أنَّه ليس بفرضٍ، وقال الشافعيُّ وأحمد: هو فرضٌ. واحتجَّ الشافعيُّ بقوله صلعم: ((فإذا صلَّى أحدُكُم فَلْيَقُل: التحيَّاتُ لله))، والأمر للوجوب، واعترض بأنَّ كلَّ أمره ليس كذلك بدليلِ تكبيراتِ الانتقالات مع الأمرِ بها وفعله، وقال حين نزلتْ {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الحاقة:52] ((اجْعَلُوها في رُكُوعِكم))، ولمَّا نزلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] قال: ((اجْعَلُوها في سُجُودكم)).
          وتلقَّى العلماء والشافعيُّ هذا الأمر على النَّدب ولم يَقُم عنده فَرْضُهُ بفعله ◙ وأمره به، فكذلك فعلُه / ◙ التشهُّد وأمرُه به لأنَّ كليهما عنده ذكرٌ ليسَ من عمل بدنٍ، وقد يأمر بالسُّنن كما يأمر بالفرائض، وأيضًا فإنَّه لمَّا نابَ سجود السهو عن التشهُّد في الأولى وعن الجلوس فيها فأحرى أن ينوب عن التشهُّد في الآخرة إذا جلس فيها وسَهَى عن التشهُّد.
          فإن قلت: الجلسة الآخرة فرضٌ. فكذا ذكرها، كما أنَّ الأولى سُنَّة، وكذا ذكرها.
          وأُجِيب بأنَّه لا تكون الجلسةُ الآخِرة مقدَّرةً بذكرها وإنَّما هي للسلام، وقد رُوي عن جماعةٍ من السَّلف أنَّه مَن رفع رأسه مِن آخر سجدةٍ فقد تمَّت صلاته، رُوي ذلك عن عليٍّ وابن المسيِّب والحسن وإبراهيم.
          وقال عطاءٌ: من نسيَ التشهُّد فصلاتُهُ جائزةٌ. وعن الحَكَم وحمَّادٍ مثله.
          وقال الطبريُّ والطحاويُّ: أجمع جميع المتقدِّمين والمتأخِّرين مِن علماء الأمَّة على أنَّ الصلاة على النبيِّ صلعم في التشهُّد غير واجبةٍ، وشذَّ الشَّافعيُّ في ذلك فقال: مَن لم يصلِّ عليه في التشهُّد الأخير وقبل السَّلام فصلاته فاسدةٌ، وإنْ صلَّى عليه قبل ذلك لم يجزئه، ولا سلفَ له في هذا القول ولا سُنَّة تبعها، وتشهُّدُ ابن مسعودٍ ليس فيه ذِكْرُها.
          وليس كما قالا، فقد وافق الشافعيَّ على ذلك جماعةٌ مِن الصحابة، ورُوي عن أحمد أيضًا وابن الموَّاز من المالكيَّة، حكاه الرويانيُّ في «بحره» عن عمر وابنِه وابن مسعودٍ وأبي مسعودٍ البدريِّ، ونقله الماورديُّ عن محمَّد بن كعبٍ القرظيِّ التابعيِّ، ورواه البيهقيُّ عن الشعبيِّ وغيره عن عليِّ بن الحسين، وقال إسحاق: إن تركَهَا عمدًا لا يصحُّ، وإن تركَهَا سهوًا رجوتُ أن تجزئه.
          وروى ابن حبَّان والحاكم في «صحيحهما» مِن حديث أبي مسعودٍ عُقْبة ابن عمرٍو الأنصاريِّ قال: ((أقبَلَ رجلٌ حتَّى جلسَ بين يدي رسولِ اللهِ صلعم ونحن عنده فقال: يا رسولَ الله، أمَّا السَّلام عليك فقد عَرَفناه، فكيفَ نُصلِّي عليكَ إذا نحنُ صلَّينا عليك في صَلَاتنا؟ قال: قولوا: اللهُمَّ صَلِّ على محمَّدٍ)) الحديثَ، وهو في «صحيح مسلمٍ» بدون: ((إذا نحنُ صلَّينا عليكَ في صَلَاتنا)). وفي «سنن الدارقطنيِّ» و«البيهقيِّ» _وقالا: إسناده صحيحٌ_ عن ابن مسعودٍ ☺ قال: ((كنَّا نَقُول قبلَ أن يُفْرَض علينا التشهُّد: السَّلام على الله قبل عبادِه، السَّلام على جبريلَ وميكائيلَ، السَّلام على فلانٍ. فقال ◙: لا تقولوا: السَّلامُ على الله، فإنَّ الله هو السَّلامُ، ولكن قولوا: التحيَّاتُ لله)) الحديث.
          ففيه دليلان:
          أحدهما: قول ابن مسعودٍ: ((قبلَ أن يُفْرَض التشهُّد)). فدلَّ على أنَّه قد فُرض.
          والثاني: قوله: ((قُوْلُوا)) وهو أمرٌ، والأمر للوجوب، وعند أبي حنيفة أنَّ الجلوس بقدر التشهُّد واجبٌ ولا يجب التشهُّد، والأشهر عن مالكٍ أنَّه يجبُ الجلوس بَقَدْر السَّلام.
          ثمَّ اعلم أنَّه ورد في الباب تشهُّدات عدَّدتها في تخريجي لـ«أحاديث الرافعي» فبلغتْ ثلاثة عشر تشهُّدًا، واختار الشافعيُّ تشهُّد ابن عبَاسٍ في مسلم والأربعة. ومالكٌ تشهُّد عمر في «الموطَّأ»، وخالف عمرَ فيه ابنُه كما قال ابن حزمٍ. وأبو حنيفة: تشهُّد ابن مسعودٍ، وأكثر المحدِّثين وأحمد، وقد بسطتُ ذلك في الكتاب المذكور فراجعه منه، والرواية السالفة: ((فلمَّا قُبض قلنا: السَّلام على النبيِّ صلعم)). يدلُّ على أنَّ الخطاب خاصٌّ بزمنه.
          وروى أبو موسى المدينيُّ في «ترغيبه وترهيبه» مِن حديث سعد بن إسحاق بن كعبٍ قال: كانت الصحابة يقولون إذا سلَّموا على رسول الله صلعم: السَّلامُ عليك أيُّها النبيُّ ورحمةُ الله وبركاتُهُ. فقال ◙: ((هذا السَّلامُ عليَّ وأنا حيٌّ، فإذا مِتُّ فَقُولوا: السَّلامُ على النبيِّ صلعم ورحمةُ الله وبركاتُهُ)).
          فائدةٌ: (السَّلامُ): الله. كما نطق به في الحديث، وهو المسلِّم لعباده. وقيل: ذو السَّلام.
          و(التَّحِيَّاتُ): جمع تحيَّةٍ، وهو الملك أو البقاء أو العظمة أو السلامة أو الحياء.
          (الصَّلَوَاتُ أي: الخمس أو النوافل أو العبادات أو الدعاء.
          (الطَّيِّبَاتُ) أي: طيِّب القول أو الأعمال الزاكيةِ.
          تنبيهٌ: وقع في «شرح ابن التين» عزوُ حديث ابن عمر في كيفيَّة وضع اليد في التشهُّد إلى البخاريِّ، وهو وهمٌ، وإنَّما هو مِن أفراد مسلمٍ، ووقع فيه أيضًا أنَّ مسلمًا زاد فيه: ((هي مذبَّةٌ للشَّيْطَان لا يَسْهُو أَحدُكُم ما دامَ يُشِير بإصبعهِ))، وهذا لم نرهُ في مسلمٍ أصلًا، فاجتنبْ ذلك.