التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب فضل التأذين

          ░4▒ باب فَضْلِ التَّأْذِينِ.
          608- ذكر فيه حديث أبي هريرةَ: أَنُّ النَّبيَّ صلعم قَالَ: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةَ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ لَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قُضَى النِّدَاءُ أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطُرَ بَيْنَ المَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا. لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى).
          هذا الحديث أخرجه البخاريُّ في الصَّلاة كما ستعلمه [خ¦1222] وفي لفظ له: ((إن يدري)).
          ومسلمٌ أيضًا، ولفظه: ((ما يدري وله حُصَاصٌ)) وهو الضُّراط في قولٍ كما ستعلمه. وأخرجه مِن حديث جابرٍ أيضًا: ((إنَّ الشَّيطانَ إذا سمعَ النِّداءَ بالصَّلاةِ ذهبَ حَتَّى يكون مكانَ الرَّوحَاء)).
          ثمَّ الكلام عليه مِن أوجهٍ:
          أحدها: ((الحُصَاص)) في رواية مسلمٍ: بحاءٍ وصادَين مهملاتٍ، فقيل: إنَّه الواقع في رواية البخاريِّ، وَقَالَ أبو عُبَيدة: هو شدَّة العَدْو. وَقَالَ عاصمُ بن أبي النَّجُود: إذا ضرب بأذنَيه ومصعَ بذنبه أي: حرَّكه يمينًا وشمالًا وعدَا، فذلك الحُصاص. ولا مانع مِن حمله على ظاهره إذ هو جسم يصحُّ منه خروج الرِّيح. وقيل: إنَّه عبارةٌ عن شدَّة الغيظ والنِّفار، وإدباره لئلَّا يسمعه فيضطرَّ إلى أن يشهد له بذلك يوم القيامة، للحديث الآتي: ((لا يسمعُ مدى صوتِ المؤذِّن جنٌّ ولا إنسٌ ولا شيءٌ إلَّا شهد له يومَ القيامةِ)). وأبعدَ مَن قَالَ: إنَّما يشهد له المؤمنون مِن الجنِّ والإنس دون الكافر، حكاه القاضي عِياضٌ وقَالَ: لا يُقْبَلُ مِن قائله لِما جاء في الآثار مِن خلافه، قَالَ: وقيل: إنَّ هذا فيمن تصحُّ منه الشَّهادة ممَّن يَسمع. وقيل: بل هو عامٌ في الحيوان والجماد كما في الحديث الَّذي ذكرناه، وأنَّ الله يخلق لها ولِما لا يعقل مِن الحيوان إدراكًا للأذان وعقلًا ومعرفةً.
          وقيل: إدباره لعظم شأن الأذان بما يشتمل عليه مِن قواعد التَّوحيد وإظهار الشَّعائر والأعلام. وقيل: ليأسه مِن وسوسة الإنسان عند الإعلان بالتوحيد. فإن قلتَ: كيف يهرب مِن الأذان ويدنو في الصَّلاة وفيها القرآنُ والمناجاة. قلتُ: أجاب ابن الجوزيِّ عنه بأنَّ إبعاده عن الأذان لغيظه مِن ظهور الدِّين وغلبة الحقِّ، وعلى الأذان هيبةٌ يشتدُّ انزعاجه لها ولا يكاد يقع في الأذان رياءٌ ولا غفلة عند النُّطق به لأنَّه لا يُحضِرُ النَّفس، فأمَّا الصَّلاة فإنَّ النَّفس تحضر فيها فيفتح لها الشَّيطان أبواب الوَسوسة.
          ثانيها: المراد بالتثويب هنا الإقامة. و(يخطر): بضمِّ الطَّاء وكسرها، والأكثرُ على الضَّمِ، والوجه الكسرُ أي: يوسوس، والضَّمُّ مِن الشُّكوك والمرور أي: يدنو منه فيما بينه وبين قلبه فيشغله عمَّا هو فيه، وبهذا فسَّره الشُّرَّاح، وبالأوَّل فسَّره الخليل. وَقَالَ الباجيُّ: فيحول بين المرء وما يريد مِن نفسه مِن إقباله على صلاته وإخلاصه. وَقَالَ الهَجَريُّ في «نوادره»: (يخطِر) بالكسر في كلِّ شيءٍ، وبالضمِّ ضعيفٌ.
          ثالثها: قوله: (حَتَّى يَظَلَّ) كذا الرِّوايةُ بظاءٍ معجمةٍ مفتوحةٍ، والرجل مرفوعٌ، أي: يصير، كما قَالَ تعالى: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} [الزخرف:17] وقيل معناه: يبقى ويدوم. وحكى الداوديُّ: <يضِلَّ> بالضَّاد المعجمة المكسورة بمعنى: ينسى ويذهب وهَمُه ويسهو، قَالَ تعالى {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة:282]. وحكى ابن قُرقُولٍ عن الدَّاوديِّ أنَّه رُوي ((يضَلَّ)) بفتح الضَّاد أيضًا مِن الضَّلال، وهو الحيرة. قَالَ: والكسر في المستقبل أشهر. قَالَ الشيخ تقي الدِّين: ولو رُوِي بضم الياء لكان صحيحًا، يريد: حَتَّى يُضِلَّ الشَّيطان الرَّجلَ عن دراية / كم صلَّى.
          رابعها: الحديث ظاهرٌ فيما ترجم له وهو فضل التَّأذين، وقد وردت أحاديث كثيرةٌ بفضله، ذكرت منها جملةً مستكثرةً في شرحي «للتنبيه» واختُلِف فيه وفي الإمامة أيُّهما أفضل؟ ومحلُّ الخوض في ذلك كتب الفروع، وقد بسطناه في الشرح المذكور و«شرح المنهاج» وغيرهما، فليراجع منه.