التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب حد المريض أن يشهد الجماعة

          ░39▒ باب حَدِّ المَرِيضِ أَنْ يَشْهَدَ الجَمَاعَةَ.
          هو بالحاء المهملة، كما ذكره ابن بطَّالٍ وغيره، أي: حدِّ المريض وحرصه على شهود الجماعة، كما قال الفاروق في الصِّدِّيق رضوان الله عليهما: وكنت أداري منه بعض الحَدِّ، يعني: بعض الحِدَّة. والمراد بالحديث الَّذي ساقه الحضُّ على شهود الجماعة والمحافظة عليها. وقال ابن التِّين: الَّذي ذكر أنَّ حَدًّا بمعنى: حدَّةً، ذُكر عن الكِسائيِّ ويحتاج الكلام على تقديره إلى إضمارٍ، قال: ويظهر لي أن يُقال: جِدٌّ بالجيم مكسورةً، وهو الاجتهاد في الأمر أي: اجتهاد المريض في شهود الجماعة. قال: ولم أسمع أحدًا رواه بالجيم. قلت: قد ذكره صاحب «المطالع» في باب الجيم والدَّال المهملة، ونقله عن القابسيِّ وغيره، ونقل الحاء المهملة عن بعضهم.
          664- ثمَّ ذكر البخاريُّ بإسناده حديث الأسوَد: (كُنَّا عِنْدَ عَائِشَةَ، فَذَكَرْنَا المُوَاظَبَةَ عَلَى الصَّلَاةِ وَالتَّعْظِيمَ لَهَا، قَالَتْ: لَمَّا مَرِضَ النَّبيُّ صلعم مَرَضَهُ الذِي مَاتَ فِيهِ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَأُذِّنَ، فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ...) الحديث. ثمَّ قال: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ شُعْبَةَ عَنِ الأَعْمَش بَعْضَهُ. وَزَادَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي قَائِمًا.
          والكلام عليه مِن وجوهٍ:
          أحدها: هذا الحديث ذكره البخاريُّ قريبًا، وفي باب مَن أسمع النَّاس تكبير الإمام، وأخرجه مسلمٌ أيضًا، ورواية أبي داودَ أسندها البزَّار عن محمَّد بن المثنَّى عنه، ولفظه: ((كان رسولُ الله صلعم هو المقدَّم بين يدي أبي بكرٍ _يعني يوم صلَّى بالنَّاس_ وأبو بكرِ إلى جنبه))، وزيادة / أبي معاوية أسندها البخاريُّ في باب الرَّجل يأتمُّ بالإمام ويأتمُّ النَّاس بالمأموم عن قُتَيبة عنه.
          ورواه ابن حِبَّان عن الحسن بن سفيان، عن ابن نُمَيرٍ، عنه بلفظ: ((فكان النَّبيُّ صلعم يصلِّي بالنَّاس قاعدًا وأبو بكرٍ قائمًا)).
          665- ثمَّ ذكر البخاريُّ حديث عُبَيد الله بن عبد الله عن عائشةَ: (لَمَّا ثَقُلَ رسولُ الله صلعم وَاشْتَدَّ وَجَعُهُ...) الحديث. وهذا سبق في الغسل مِن الطَّهارة [خ¦198]، ويأتي في باب: أهل العلم والفضل أحقُّ بالإمامة، مِن حديث أبي موسى وعائشةَ وابن عمرَ، ومِن طريق عائشةَ في باب إنَّما جعل الإمام ليؤتمَّ به، ويأتي في الهبة أيضًا.
          ثانيها: المراد بالمواظبة: المداومة والمثابرة.
          وقوله: (فَأُذِّنَ) أي: بالصَّلاة، كما جاء في روايةٍ أخرى، وفي أخرى: ((وجاءَ بلالٌ يؤذِّنُه بالصَّلاةِ)) وفي أخرى: أنَّ هذِه الصَّلاة صلاة الظُّهر. وفي مسلمٍ ((خرجَ لصلاةِ العصرِ)) وفي أبي داودَ مِن حديث عبد الله بن زَمْعةَ فبعث إلى أبي بكرٍ فجاء بعد أنْ صلَّى عمرُ تلك الصَّلاة فصلَّى بالنَّاس، وقال: ((يأبى الله ذلك والمسلمون)).
          ثالثها: قولها: (فَقِيلَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ) القائل: هو عائشةُ كما جاء في بعض الرِّوايات، والأسيف: سريع الحزن والبكاء، والأسف عند العرب: شدة الحزن والنَّدم، يُقال منه: أسِف فلانٌ على كذا يأسَف إذا اشتدَّ حزنه، وهو رجلٌ أسيفٌ وأسُوفٌ، ومنه قول يعقوب: {يا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف:84] يعني: يا حزنًا ويا جزعًا توجُّعًا لفقده، وقيل: الأسيف الضَّعيف مِن الرَّجال في بطشه، وأمَّا الآسف: فهو الغضبان المتلهِّف، قال تعالى: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [طه:86]. وفي بعض الرِّوايات: ((إن أبا بكرٍ رجلٌ رقيقٌ إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه)) ترجم عليه باب: إذ بكى الإمام في الصَّلاة، وفي أخرى: ((لم يُسْمِع النَّاس مِن البكاء)).
          رابعها: قولها: (وَأَعَادَ فَأَعَادُوْا لَهُ) في البخاريِّ في الإمامة ((قالت عائشةُ: قلت لحَفصةَ قولي له: إنَّ أبا بكرٍ_أي في الثَّانية_ فلو أمرتَ عمرَ. فقال: مُروا أبا بكرٍ، فقالت لعائشةَ: ما كنتُ لأُصيبَ منكِ خيرًا قطُّ)).
          وقولها: (فَأَعَادَ الثَّالِثَةَ): وفي روايةٍ أخرى: ((فراجعته مرَّتين أو ثلاثةً)) في اجتهاد عائشة في أنْ لا يتقدَّم والدها وجهان:
          أحدهما: ما هو مذكورٌ في بعض طرقه: ((قالت: وما حملني على كَثرةِ مراجعَته إلَّا أنَّه لم يقع في قلبي أن يُحبَّ النَّاس مِن بعده رجلًا قام مقامَه أبدًا، وأنِّي كنتُ أُرى أنَّه لن يقومَ أحدٌ مقامه إلَّا تشاءمَ النَّاس به، فأردت أن يعدِلَ ذلك رسولُ الله صلعم عن أبي بكرٍ)).
          ثانيهما: أنَّها علمت أنَّ النَّاس علموا أنَّ أباها يصلح للخلافة، فإذا رأوه استشعروا بموت رسول الله صلعم بخلاف غيره.
          خامسها: قوله: (إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ) أي: في ترادِّهنَّ وتظاهرهنَّ والإغراء والإلحاح كتظاهر امرأة العزيز ونسائها على يوسف ◙ ليصرفنه عن رأيه في الاستعصام، وصواحبات جمع صاحبةٍ وهو جمع شاذٌّ، وقيل: يريد امرأة العزيز، وأتى بلفظ الجمع كما يُقال: فلانٌ يميل إلى النساء، وإن كان مال إلى واحدةٍ، ذكره ابن التِّين.
          سادسها: قولها: (فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ) أي: يمشي عليهما معتمدًا عليهما مِن ضعفه وتمايله، هذا موضوعه في اللُّغة، وبه صرَّح الجوهريُّ، وظاهر قوله: (كأنِّي أنظرُ إلى رجليه تَخُطَّان) أنَّهما كانا يحملانه، وهذان الرَّجلان العبَّاس وعليُّ، كما ذكره في الحديث الَّذي بعده، وسلف في الطَّهارة [خ¦198]. وفي رواية لابن حِبَّان في «صحيحه»: ((أنَّه خرجَ إلى الصَّلاةِ بينَ بَريرَةَ ونُوبَةَ)) أي: بالنُّون والباء الموحَّدة، وهو عبدٌ أسودٌ، كما قاله سيفٌ في كتاب «الرِّدَّة» وفي «مسلمٍ»: ((ويدُه على الفضلِ، والأخرى على رجلٍ آخر)) وفي الدَّارقطنيِّ: ((بين أسامةَ والفضلِ)) فلعلَّ ذلك كان نُوَبًا مرَّةً هذا ومرَّةً هذا، أو بَريرةَ ونُوبةَ مِن البيت إلى الباب، والباقي خارج الباب، وإن كان مسافة ما بين الحُجرة والصَّلاة ليست بعيدةً لالتماس البركة وزيادة الإكرام، والعبَّاس ألزمهم ليَدِه وغيره يتناوب، فاقتصرت عائشة عليه لذلك، وهذا أَولى مِن قول مَن قال: إنما لم تذكر الآخر وهو عليٌّ لشيءٍ كان بينهما؛ إذ كان ذلك ليس حالةً واحدةً كما ستعلمه.
          سابعها: معنى (أَوْمَأَ): أشار، واختلفت الرِّوايات هل كان الإمامُ النَّبيَّ صلعم أو الصِّدِّيق؟ فرواية عائشةَ قد علمتها أنَّ الصِّدِّيق كان يقتدي بالنَّبيِّ صلعم والنَّاس يقتدون بصلاة أبي بكرٍ، وفي أخرى: وأبو بكرٍ يُسمُعُهم التَّكبير، وفي التِّرمذيِّ مِن حديث جابرٍ مصحَّحًا: ((أنَّ آخرَ صلاةٍ صلَّاها رسول الله صلعم في ثوبٍ واحدٍ متوشِّحًا به خلفَ أبي بكرٍ)). ونصرَ هذا غير واحدٍ مِن الحفَّاظ وألَّفُوا، منهم الضياء المقدسي وابن ناصر وقال: إنَّه صحَّ وثبت أنَّه ◙ صلَّى خلفه مقتديًا به في مرضه الَّذي توفِّي فيه ثلاث مرَّاتٍ، ولا ينكر ذلك إلا جاهلٌ لا علم له بالرِّواية، وقد أوضحت الكلام على ذلك في «شرح العمدة». وقيل: إنَّ ذلك كان مرَّتين جمعًا بين الأحاديث، وبه جزم ابن حِبَّان، وقال ابن عبد البرِّ: الآثار الصِّحاح على أنَّ النَّبيَّ صلعم هو الإمام.
          واختلفت الرواية أيضًا: هل قعد رسول الله صلعم عن يسار أبي بكرٍ أو عن يمينه؟
          وادَّعى القرطبيُّ أنَّه ليس في «الصَّحيح» ذكرٌ لأحدهما، وقد أسلفنا لك عن البخاريِّ أنَّه (جلس عن يسار أبي بكرٍ) [خ¦664].
          ثامنها: فيه تقديم الأفقه الأقرأ، وقد جمع الصِّدِّيق القرآن في حياته ◙ كما ذكره أبو بكر بن الطَّيِّب الباقلَّاني وأبو عمرٍو الدَّانيُّ، وسيأتي في الفضائل في باب القرَّاء مِن الصحَّابة، أنَّه حفظه مِن الصَّحابة في عهده ◙ يزيد على عشرين نفرًا وامرأةً.
          تاسعها: فيه صحَّة الصَّلاة بإمامين على التَّعاقب، وصرَّح به الطَّبريُّ والبخاريُّ وأصحابنا.
          عاشرها: احتجَّ به سعيد بن المسيِّب في أنَّ المأموم يقوم عن يسار الإمام، والجماعة بخلافه عملًا بالرواية الأخرى وبحديث ابن عبَّاسٍ ((فجعله عن يمينه))، وهذا إنَّما يمشي إذا قلنا: إنَّ الإمام كان الصِّدِّيق. وجاء في بعض الرِّوايات أنَّه ◙ لمَّا جلس إلى جنب أبي بكرٍ قرأ مِن المكان الذي انتهى إليه أبو بكرٍ مِن السُّورة.
          حادي عشرها: جواز وقوف مأمومٍ واحدٍ بجنب الإمام لحاجةٍ أو مصلحةٍ كإسماع المأمومين وضيق المكان.
          ثاني عشرها: فيه صحَّة اقتداء القائم بالقاعد، وقد سلف ما فيه في أوائل الصَّلاة في باب: الصَّلاة في السُّطوح.
          ثالث عشرها: جواز الأخذ / بالشدَّة لمن جازت له الرُّخصة؛ لأنَّه ◙ كان له أن يتخلَّف عن الجماعة لعذر المرض، فلمَّا تحامل على نفسه وخرج على هذِه الهيئة دلَّ على فضل الشَّدَّة على الرُّخصة، ترغيبًا لأمَّته في شهود الجماعة لِمَا لهم فيها مِن عظيم الأجر، ولئلَّا يعذر أحدٌ منهم نفسه في التَّخلف عنها ما أمكنه وقدر عليها، مع علمه أنَّ الله قد غفر له ما تقدَّم مِن ذنبه وما تأخَّر، وبذلك عمل السَّلف الصَّالحون، وكان الرَّبيعُ بن خُثَيْمٍ يخرج إلى الصَّلاة يُهادى بين رَجُلَين وكان أصابه الفالج فيُقال له: إنَّك لفي عذرٍ، فيقول: أجلْ، ولكنِّي أسمع المؤذِّن يقول: حيَّ على الصَّلاة حيَّ على الفلاح، فمَن سمعها فليأتها ولو حبوًا.
          وكان أبو عبد الرَّحمن السُّلَميُّ يُحمل وهو مريضٌ إلى المسجد. وقال سفيان: كان سُوَيدُ بن غَفَلة ابن سبعٍ وعشرين ومائة سنةٍ يخرج إلى صلاةٍ، وكان أبو إسحاق الهَمْدانيُّ يُهادى إلى المسجد فإذا فرغ مِن صلاته لم يقدر أن ينهض حتى يُقام. وقال سعيد بن المسيِّب: ما أذَّن المؤذِّن منذ ثلاثين سنة إلَّا وأنا في المسجد.