التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الدعاء في الركوع

          ░123▒ بَابُ الدُّعَاءِ فِي الرُّكُوعِ
          794- ذكر فيه حديث أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قالت: (كَانَ رسول الله صلعم يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللهُمَّ اغْفِرْ لِي).
          هذا الحديث أخرجه مسلمٌ والأربعة، ويأتي قريبًا، [خ¦817] وفي المغازي [خ¦4293] والتفسير، [خ¦4968] وترجم عليه البخاريُّ قريبًا باب: التسبيح والدعاء في السجود، وزاد فيه بعد قوله: (اللهُمَّ اغْفِرْ لِي) ((يتأوَّل القرآن)). وفيه: أنَّه يكثر ذلك، وفي لفظ له: ((قالت: ما صلَّى رسول الله صلعم صلاةً بعدما أُنزلت عليه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] إلَّا يقول: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ اللهُمَّ اغْفِرْ لِي))، وعند ابن السكن بعد قولها: ((يتأوَّل القرآن)) <قال أبو عبد الله: يعني: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3]> أي: حين أعلمه الله تعالى بانقضاء أجله، وفي «صحيح مسلمٍ» عنها: ((ما رأيتُ رسولَ الله صلعم منذُ نَزلَ عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} يصلِّي صلاة إلَّا دعا أو قال فيها: سُبْحَانك ربِّي وبِحَمْدكَ، اللهُمَّ اغفرْ لي))، وعنها: ((كانَ صلعم يكثرُ أن يقول قبلَ أن يموت: سُبْحانكَ اللهُمَّ وبحمدكَ، أَسْتغفرك وأتوبُ إليك، قالت: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما هذه الكلماتُ التي أراكَ أَحْدَثْتها تَقُولها؟ قال: جُعلتْ لي عَلامةٌ في أمَّتي إذا رَأَيتُها قُلْتُها: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} إلى آخر السورة)). وفي لفظٍ له: ((كان يُكْثرُ من قول: سُبْحانَ اللهِ وبحمدِهِ / أستغفرُ اللهَ وأتوبُ إليه، قالت: فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّك تُكْثرُ من قول: سُبْحانَ اللهِ وبحمدِهِ، فقال: أخبرني ربِّي أنِّي سَأَرى عَلامةً في أمَّتي، فإذا رأيتها أكثرتُ مِن قول ذلك، فقد رأيتُها {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} فتح مكَّة)) الآية.
          وفي «أسباب النزول» للواحديِّ من حديث ابن عبَّاسٍ: لمَّا أقبل ╕ مِن غزوة حُنَينٍ، وأنزل الله عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ} [النصر:1] قال: ((يا عليُّ ويا فاطمةُ، قد جاءَ نَصْرُ اللهِ)) إلى أنْ قال: ((فسُبْحَان ربِّي وبحمدِه، وأستغفرهُ إنَّه كانَ توَّابًا)).
          وفي «تفسير مقاتلٍ»: عاش بعد نزولها ستِّين يومًا، وفي «تفسير القرطبيِّ» وغيره أنَّها نزلتْ بمنى أيَّام التشريق في حَجَّة الوداع.
          واختلف العلماء فيما يدعو به الرجل في ركوعه وسجوده:
          فقالت طائفةٌ: لا بأس أن يدعو الرجل في ذلك بما أحبَّ، وليس عندهم في ذلك شيءٌ مؤقتٌ، وقد رُويتْ آثارٌ كثيرةٌ عن النبيِّ صلعم أنَّه كان يدعو بها، منها: ((اللهُمَّ لكَ ركعتُ..)) إلى آخره، ((اللهُمَّ لكَ سجدتُ..)) إلى آخره، أخرجه مسلمٌ من حديث عليٍّ، ومنها في السجود: ((اللهُمَّ إنِّي أعوذ برضاكَ مِن سَخَطِك..)) إلى آخره، أخرجه مسلمٌ أيضًا مِن حديث عائشة، وفي روايةٍ: ((فإذا هو راكعٌ أو ساجدٌ يقول: سُبْحَانكَ وبحمدِكَ لا إلهَ إلَّا أنتَ))، ومنها في سجوده: ((اللهُمَّ اغفرْ لي ذنبي كلَّه، دِقَّه وجِلَّه، وأوَّله وآخره، وعَلَانيته وسِرَّه))، أخرجه مسلمٌ أيضًا من حديث أبي هريرة، والكلُّ لم يخرِّجها البخاريُّ، وغير ذلك، إلَّا أنَّ مالكًا كره الدعاء في الركوع ولم يكرهه في السجود، واقتصر في الركوع على تعظيم الربِّ جلَّ جلاله والثناء عليه، وأظنَّه ذهب إلى حديث عليٍّ: ((أمَّا الرُّكوعُ فعظِّموا فيه الرَّبَّ، وأمَّا السُّجُود فاجْتَهِدوا في الدُّعاء، فقَمِنٌ أن يُستجاب لَكُم))، أخرجه مسلمٌ من حديث ابن عبَّاسٍ، أي: حقيقٌ وجديرٌ. فجعل الركوع لتعظيم الربِّ وإن كانت قراءة القرآن أفضل مِن ذكر التعظيم، فكذلك ينبغي في كلِّ موضعٍ ما جعل فيه وإن كان غيره أشرف منه، ويؤيِّد هذا المعنى ما روى الأعمش عن النخعيِّ قال: كان يُقال إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء: استوجَب، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء: كان على الرجاء.
          وروى ابن عُيينة عن منصور بن المُعْتمر عن مالك بن الحُوَيرث، قال: يقول الله ╡: ((إذا شَغلَ عَبْدي ثناؤه عليَّ عن مَسْألتي أعطيتُهُ أفضلَ ما أُعطي السَّائلينَ))، فلهذه الآثار كره مالكٌ الدعاء في الركوع واستحبَّه في السجود.
          وقال أهل المقالة الأولى: تعظيم الربِّ والثناء عليه عند العرب دعاءٌ، قاله ابن شهابٍ، وهو حُجَّةٌ في اللغة، وقد ثبَتَ في حديث عائشة المذكور في الباب الدعاءُ في الركوع والسجود وغيرُهُ، فلا معنى لمخالفة ذلك.
          وقالت طائفةٌ: ينبغي أن يقول في ركوعه: سبحان ربِّي العظيم. ثلاثًا، وفي سجوده: سبحان ربِّي الأعلى ثلاثًا. لحديث عقبة بن عامرٍ في ذلك، أخرجه أبو داود وابن ماجه وصحَّحه ابن حبَّان والحاكم، والتثليث في أبي داود، وقال: أخاف أن لا تكون محفوظةً، وفي ابن ماجه في حديث حذيفة بإسنادٍ ضعيفٍ، وأصل التسبيح فيه في «صحيح مسلمٍ»، وعند الحاكم: يقول في ركوعه: ((سُبْحَان ربِّي العظيمِ وصلَّى اللهُ على محمِّدٍ وآله)). هذا قول الكوفيِّين والأوزاعيِّ والشافعيِّ وأبي ثورٍ، إلَّا أنَّهم لم يوجبوا ذلك، وقالوا: مَن ترك التسبيح في الركوع والسجود فصلاتُهُ تامَّةٌ، وقال إسحاق وأهل الظاهر: إنْ تَركَ ذلك عليه الإعادة، وقالوا: حديث عُقْبة ورَدَ موردَ البيان فوجب امتثاله. ووافقهم أحمد في روايةٍ وقال: لو نسيَهُ لم تَبْطل ويسجد للسهو. وقال مرَّةً أخرى: إنَّه سنَّةٌ، كالجماعة.
          وقال ابن حزمٍ: هو فرضٌ فإنْ نَسِيهُ سَجدَ للسهو، وأجاب الجمهور بأنَّ البيان إنَّما يَرِد في المجمل والركوع والسجود مفسَّران فلا يفتقران إلى بيانٍ، فحَمَلَ حديث عُقْبة على الاستحباب بدليل إسقاطه مِن حديث المسيءِ صلاتَهُ وهو موضعُ الحاجة.
          قال ابن القصَّار: لو قال: سبحانَ ربِّي الجليل أو الكبير أو القدير لكان معظِّمًا له، وإذا ثبَتَ أنَّ نَفْس التسبيح ليس بواجبٍ فتعيُّنه والعدول عنه إلى ما في معناه جائزٌ.
          فائدتان:
          الأولى: في «شرح الطحاويِّ»: يُسبِّح الإمام ثلاثًا، وقيل: أربعًا، ليتمكَّن المقتدي من الثلاث، وقال الرُّويانيُّ في «الحلية»: لا يزيد الإمام على خمسٍ. وقال الماورديُّ: أدنى الكمال ثلاثٌ، والكمال إحدى عشرة أو تسعٌ، وأوسطه خمسٌ. وفي «شرح الهداية»: إنْ زاد على الثلاث حتَّى ينتهي إلى اثنتي عشرة فهو أفضل عند الإمام، وعندهما إلى سبعٌ. وعن بعض الحنابلة: الكمال أن يُسبِّح مثل قيامه، وعن الشافعيِّ: عشرةٌ، وهو منقولٌ عن عمر، ورواه أبو داود مِن حديث أنسٍ وفيه مقالٌ.
          الثانية: ادَّعى الطحاويُّ _فيما حكاه البيهقيُّ_ نسخَ الأحاديث بحديث عقبة، وقال: يجوز أن يكون {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] أُنزلت بعد ذلك قبلَ وفاته، قال: ولم يعلم أنَّ حديث ابن عبَّاسٍ صَدَر منه غداةَ يوم الإثنين والناس خلفَ أبي بكرٍ في صلاة الصبح، وهو اليوم الذي توفِّي فيه، ورُوِّينا في الحديث الثابت عن النُّعْمان بن بشيرٍ أنَّه ╕ كان يقرأُ في صَلَاة العِيدين والجمعة بـ{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] وفي هذا دلالةٌ أنَّ نزولَ {سَبَّحَ} كان قبلَ ذلك بزمانٍ كثيرٍ، ورُوِّينا عن الحسن البصريِّ وعكرمة وغيرهما أنَّها نزلت بمكَّة شرَّفها الله.
          تنبيهٌ: ليس بين السجدتين عند الحنفيَّة ذِكرٌ مسنونٌ، قالوا: والذي رُوي في ذلك محمولٌ على التهجُّد، وهو بعيدٌ: وأهل الظاهر يقولون: إن تَعَمَّد تركْهُ تبطلُ الصلاة.
          فائدةٌ: معنى: (سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ) سبحانك بجميع آلائك وبحمدك، سبَّحتك _أي: نزَّهتك_ عن كلِّ عيبٍ، ونصبُهُ على المصدر.