التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الالتفات في الصلاة

          ░93▒ بَابُ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلاَةِ
          751- 752- ذكر فيه حديث عائشة: سُئلَ رَسُولُ الله صلعم عَنِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلاَةِ؟ فقال: (هُوَ اخْتِلاَسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلاَةِ العَبْدِ).
          هذا انفرد البخاريُّ أيضًا بإخراجه، بل لم يخرج مسلمٌ فيه شيئًا. وتعجبَّت من الحاكم حيث قال / في «مستدركه»: اتَّفقا على إخراجه. وطرَّقه الدارقطنيُّ في «علله» وقال: رفعُه أصحُّ من وقفِهِ.
          وسلف فقهه في باب مَنْ دَخَلَ ليؤمَّ النَّاسَ. [خ¦684]
          ثمَّ ذَكَر بعده حديث عائشة أيضًا أَنَّ النَّبِيَّ صلعم صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلاَم فقال: (شَغَلَتْنِي أَعْلاَمُ هَذِهِ، اذْهَبُوا بِهَا إِلَى أَبِي جَهْمٍ وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةٍ).
          وهذا الحديث سلف أيضًا في باب إذا صلَّى في ثوبٍ لَهُ أعلامٌ. [خ¦373]
          ووجه مناسبة إيراده هنا أنَّ العلَم إنَّما يكون على الكَتِف، ولا شكَّ في كراهة الالتفات عند العلماء، بل قال المتولِّي من أصحابنا: إنَّه حرامٌ، لقوله ╕: ((لا يَزَالُ اللهُ مُقْبِلًا عَلَى العَبْدِ في صَلَاته مَا لَمْ يَلْتَفِت، فإذا الْتَفَتَ انْصَرفَ عَنْهُ))، رواه أبو داود والنسائيُّ من حديث أبي ذرٍّ. وقال الحاكم في «مستدركه»: صحيح الإسناد.
          والأشهر عندنا: الكراهة، وذلك أنَّه إذا التفت يمينًا وشمالًا ترك الإقبال على صلاته، وفارق الخشوع المأمور به في الصلاة ولذلك جعله الشارع اختلاسًا للشيطان من الصَّلاة.
          وأمَّا إذا التفت لأمرٍ يعنُّ له من أمر الصَّلاة أو غيرها فمباحٌ له ذلك وليس من الشيطان.
          وفيه حضٌّ على إحضار المصلِّي ذهنه ونيَّته لمناجاته ربَّه ولا يشتغل بأمر دنياه، وذلك أنَّ المرء لا يستطيع أن يخلِّص صلاته من الفكر في أمور دنياه؛ لأنَّ الشارع أخبر أنَّ الشيطان يأتي إليه في صلاته فيقول له: اذكر كذا، اذكر كذا، لأنَّه مُوكَلٌ به في ذلك. وقد قال ╕: ((مَنْ صَلَّى ركعتين لا يُحْدِّثُ فِيْهَما نَفْسَه غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّم من ذَنْبِهِ))، وهذا إنَّما هو لمغالبة الإنسان، فمن جاهد شيطانه ونفسه وجبت له الجنَّة. وقد نظر ╕ إلى عَلَم الخميصة وقال إنِّها شغلته، فهذا ممَّا لا يُستطاع على دفعه في الأعمِّ.
          وقد اختلَفَ السلف في ذلك، فممَّن كان لا يلتفت فيها الصدِّيق والفاروقُ، ونهى عنه أبو الدرداء وأبو هريرة. وقال ابن مسعودٍ: إنَّ الله لا يزال مقبلًا على العبد مادام في صلاته، ما لم يحدث أو يلتفت. وقال عمرو بن دِينارٍ: رأيتُ ابن الزبير يصلِّي في الحجر فجاءه حجرٌ قدَّامه فذهب بطرف ثوبه فما التفت. وقال ابن أبي مليكة: إنَّ ابن الزبير كان يصلِّي بالنَّاس، فدخل سيلٌ في المسجد، فما أنكرَ النَّاسُ مِن صلاته شيئًا حتَّى فَرَغَ منها. وقال الحَكَم: من تأمَّل مَن عن يمينه أو شماله في الصَّلاة حتَّى يعرفه فليستْ له صلاةٌ. وقال أبو ثورٍ: إن التفتَ ببدنِهِ كلِّه أَفْسَدَ صلاته. وقال الحسن البصريُّ: إذا استدبَرَ القِبْلة استقبلَ صَلَاته، وإن التفتَ عن يمينهِ أو شِمَالهِ مضى في صلاته.
          ورخَّصت فيه طائفةٌ، فقال ابن سيرين: رأيت أنس بن مالكٍ يُشْرِفُ إلى الشيء في صلاته يَنْظرُ إليه.
          وقال معاوية بن قُرَّة: قيل لابن عمر: إنَّ ابن الزبير إذا قامَ في الصَّلاة لم يتحرَّك ولم يَلْتَفت، قال: لكنَّا نتحرَّك ونَلْتَفِت. وكان إبراهيم يلحظ يمينًا وشمالًا، وكان ابن مَعْقِلٍ يفعلُهُ. وقال عطاءٌ: الالتفات لا يَقْطَع الصَّلاة. وهو قول مالكٍ والكوفيِّين والأوزاعيِّ.
          وقال ابن القاسم: فإن التفتَ بجميع جسده لا يَقْطَع الصلاة. ووجهه أنَّه ╕ لم يأمرْ فيه بالإعادة حينَ أخبر أنَّه اختلاسٌ من الشيطان، ولو وَجَبت فيه الإعادة لأَمَرنا بها لأنَّه بُعث مُعلِّمًا، كما أمر الأعرابيَّ بالإعادة مرَّةً بعد أخرى. وقال المتولِّي من أصحابنا: إذا التفتَ وبدنه باقٍ إلى القبلة فلا تبطل صلاته، وإن صرفَ صَدْرَه عنها بَطَلَت.
          وقال القفَّال في «فتاويه»: إذا التفتَ في صلاته التفاتًا كثيرًا في حال قيامه، إن كان جميع قيامه كذلك بَطَلَت صلاته، وإن كان في بعضه فلا لأنَّه عملٌ يسيرٌ. قال: وكذا في الركوع والسجود، لو صرفَ وجهه وجبهته عن القبلة لم يَجُزْ لأنَّه مأمورٌ بالتوجُّه إلى الكعبة في ركوعه وسجوده. قال: ولو حوَّل أحد شِقَّيه عن القبلة بَطَلَت لأنَّه كثيرٌ.