التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الجهر في المغرب

          ░99▒ باب الجَهْرِ فِي المَغْرِبِ
          765- حدَّثنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، سَمِعْتُ النَّبيَّ صلعم: قَرَأَ فِي المَغْرِبِ بِالطُّورِ.
          هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا وزاد البخاريَّ أيضًا بإسنادٍ غير متَّصلٍ.
          ووصله ابن ماجه، فلمَّا بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ. أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ} إلى {الْمُسَيْطِرُونَ} [الطور:35- 37] كاد قلبي أن يطير.
          وذكره في المغازي مختصرًا في باب شهود الملائكة بدرًا، وفيه: وذلك أوَّل ما وَقَر الإيمان في قلبي. وذكره بطريقٍ أخرى أنَّه كان جاء في أسارى بدرٍ، يعني في فدائهم. ولمَّا أخرجه البزَّار بلفظ: ((قَدِمتُ على رسول الله صلعم في فداء أَهْل بدرٍ فسمعْتُهُ يقرأُ في المغربِ وهو يؤمُّ الناس بالطُّور، وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ)).
          قال: هذا الحديث لا نَعلمُ رواه عن رسول الله صلعم، ولا نعلمه يُروى عن رسول الله صلعم من وجهٍ أنَّه قرأَ في المغرب بالطُّور إلَّا في هذا الحديث.
          قلت: قد أخرجه الحافظ أبو موسى المدينيُّ في كتابه «معرفة الصحابة» من حديث الزهريِّ، عن الأعرج قال: سمعتُ عبيد الله بن الحارث بن نوفلٍ يقول: آخرُ صلاةٍ صلَّيتها مع رسول الله صلعم المغربُ، فَقَرأَ في الأولى بالطور وفي الثانية بـ{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1].
          إذا تقرَّر ذلك فالحديث ظاهرٌ لِمَا ترجم له من الجَهْر بالمغرب، وهو إجماعٌ.
          وقد ذهب قومٌ _كما قال الطحاويُّ_ إلى الأخذ بحديث جُبيرٍ هذا، وحديث زيدٍ وأمِّ الفضل السالفين في الباب قبله وقلَّدوها، وخالفهم في ذلك آخرون وقالوا: لا ينبغي أن يُقْرَأ في المغرب إلَّا بقصار المفصَّل، وقالوا: قد يجوز أن يكون يريد بقوله: (قَرَأَ بِالطُّوْرِ) ببعضها، وهو جائزٌ لغةً، يُقال: فلانٌ يقرأ القرآن إذا قرأ بشيءٍ منه.
          قال الطحاويُّ: والدليل على صحَّة ذلك ما روى هشيمٌ عن الزهريِّ عن محمَّد بن جبير بن مطعمٍ عن أبيه قال: ((قدمتُ على رسول الله صلعم لأكلِّمهُ في أَسَارى بدرٍ، فانتهيتُ إليه وهو يصلِّي بأصحابه صلاةَ المغرب، فسمعتُهُ يقول: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ. مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور:7-8] فكأنَّما صَدَع قلبي)). فبيَّن هُشَيمٌ القصَّة على وجهها وأخبر أنَّ الذي سمعه قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} لا أنَّه سمع الطُّور كلَّها، وهو عجيبٌ منه، تردُّه رواية البخاريِّ السالفة، وقد رواه الطبرانيُّ في «معجمه الصغير»، عن إبراهيم بن محمَّد بن جبير بن مطعمٍ عن أبيه عن جدِه، وقال: لم يَرْوه عن إبراهيم إلَّا هشيمٌّ، تفرَّد به عروة بن سعيدٍ الربعيُّ، وهو ثقةٌ.
          وقوله: ((فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يُصَلِّيْ)) يخالفه ما ذكره ابن سعدٍ من حديث نافعٍ ابنه عنه: قال: قدمتُ في فداء أسارى بدرٍ فاضطجعتُ في المسجدِ بعدَ العَصْر، وقد أَصَابني الكَرى فَنِمتُ، فأُقيمت صلاةُ المغرب، فقمتُ فزعًا لقراءة رسول الله صلعم في المغرب: {وَالطُّورِ.وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:1-2] فاستمعتُ قراءتَه حتَّى خرجتُ من المسجد، وكان يومئذٍ أوَّل ما دخلَ الإسلامُ قلبي.
          وفي «الاستيعاب»: روى جماعةٌ من أصحاب ابن شهابٍ عنه عن محمَّد بن جبيرٍ عن أبيه: المغرب أو العشاء. وزعم الدارقطنيُّ أنَّ رواية من رواه عن ابن شهابٍ، عن نافع بن جبيرٍ وهمٌ في ذكره نافعًا.
          ثمَّ قال الطحاويُّ: وكذلك قول زيدٍ لمروان في الطُّولَيين: يجوز أن يكون قرأ ببعضها، والدليل على ذلك ما روى جابرٌ أنَّهم كانوا يصلُّون المغربَ ثمَّ يَنْتَضِلُون. وعن أنسٍ: كنَّا نُصَلِّي المغربَ مع رسول الله صلعم ثمَّ يَرْمِي أحدنا فيرى / مواقعَ نَبْله. فلمَّا كان هذا وقتَ انصراف رسول الله صلعم من صلاة المغرب استحالَ أن يكون ذلك، وقد قرأ فيها بالأعراف أو نصفها.
          وهو عجيبٌ منه، فقد صحَّ أنَّه فرَّقها في الركعتين كما أسلفناه في الباب قبله، والظاهر أنَّ ذلك كان في بعض الأحيان منه فلا استحالة إذن.
          ثمَّ قال الطحاويُّ: وقد أنكرَ على معاذٍ حين صلَّى العشاء بالبقرة مع سعَة وقتها، فالمغرب أحرى بذلك. وهو عجيبٌ منه، فإنكاره إنَّما هو للرِّفْق بالمأمومين المعذورين، وقد رُوي أنَّ ذلك كان في المغرب، وقد أخبر أبو هريرة أنَ النبيَّ صلعم كان يقرأ في المغرب بقِصَار المفصَّل، أخرجه ابن أبي شيبة. فلو حَمَلْنَا حديث جبيرٍ وزيد بن ثابتٍ على ما حمله المخالف لتضادَّت تلك الآثار.
          وحديث أبي هريرة هذا وإن حملناه على ما ذكرنا ائتلفت، وهو أولى من التضادِّ فينبغي إذن القراءةُ بقِصَار المفصَّل. وهو قول مالكٍ والكوفيِّين والشافعيِّ وجمهور العلماء.
          قلت: قد أسلفنا أنَّ قراءته لذلك كان في بعض الأحيان لبيان الجواز أو لامتداد وقت المغرب فلا تضادَّ. وقراءة الشارع ليست كقراءة غيره، فإنَّه كان من أخفِّ الناس صلاة في تمامٍ، وكان يقرأُ بالستين إلى المائة.
          وقد أخبر الشَّارع عن داود صلى الله عليهما وسلم أنَّه كان يأمر بدابَّته أن تُسرج فيقرأُ الزَّبُور قبلَ إسراجها. فنبيُّنا أحرى بذلك وأولى، ودعوى من ادَّعى أنَّ السُّورة لم يكمل إنزالُها فلذلك قرأ ببعضها وهمٌ، فالإجماع قائمٌ على نزول الأعراف والأنعام بمكَّة شرَّفها الله تعالى. ومنهم من استثنى في الأنعام ستَّ آياتٍ نزلن بالمدينة.
          وطُوْلَى الطُّوْلَيَيْنِ هي الأعراف على ما سلف؛ لأنَّها أطول من الأنعام فلا يتَّجه ذلك.
          وفي الحديث أيضًا مِن متعلِّقات الأصول والفقه والحديث: أنَّ شهادة المشرك بعد إسلامه مقبولةٌ فيما علمه قبلَ إسلامه؛ لأنَّ جبيرًا كان يوم سمع الشارع مشركًا قدم في أسارى بدرٍ كما سلف وكذا روايته، ومثله الفاسق، والصبيُّ أولى.