التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من انتظر الإقامة

          ░15▒ باب مَنِ انْتَظَرَ الإِقَامَةَ.
          626- ذكر فيه حديث عائشةَ: (كان رَسُولُ اللهِ صلعم إَذَا سَكَتَ المُؤَذِّنُ بِالأُوَلَى مِنْ صَلاَةِ الفَجْرِ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الفَجْرِ، بَعْدَ أَنْ يَسْتَبِينَ الفَجْرُ ثُمَّ اضْطَجَعَ على شِقِّهِ الأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ المُؤَذِّنُ لِلإقَامَةِ).
          هذا الحديث طرفٌ مِن حديث قيام اللَّيل، وستأتي بقيَّته في أماكنها الَّتي ذكرها البخاريُّ، وفي مسلمٍ: ((يصلِّي ركعتَين خفيفتَين بين النِّداءِ والإقامةِ مِن صلاة الصُّبح)).
          ثمَّ الكلام عليه مِن أوجهٍ:
          أحدها: معنى (سَكَتَ): صمت مِن الأذان بعد إكماله، ورواه الخطَّابيُّ بالباء الموحَّدة، أي: أذَّن _والسَّكْبُ: الصَّبُّ_ استعارةً للكلام. قَالَ الجيَّانيُّ عن أبي مروان: سكتَ وسكبَ بمعنًى، ولم يذكر ابن الأثير غير الباء الموحَّدة، وَقَالَ: أرادت إذا أذَّن، فاستُعير السَّكب للإفاضة في الكلام، كما يُقال: أفرغَ في أذني حديثًا، أي: ألقى وصبَّ. وذكر ابن بطَّالٍ وابن التِّين أنَّ لها وجهًا مِن الصَّواب، ولا يدفع ذلك الرواية الأخرى، فإنَّ الموحَّدة تأتي بمعنى مِن وعن في كلام العرب، كقوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:59] أي: عنه، وقوله: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ} [الإنسان:6] أي: منها، قالا: ويمكن أن يكون إنَّما حملَ الراوي لهذا الحديث على أن يرويه بالموحَّدة لأنَّ المشهور في سكت أن تكون متعلِّقةً بعنْ أو مِنْ كقولهم: سكت عن كذا أو سكت مِن كذا، فلمَّا وجد في الحديث مكان مِنْ وعَن الباءَ ظنَّ <سكبَ> مِن أجل مجيء الباء بعدها، وقد سلف أنَّ الباء تأتي بمعنى مِنْ وعنْ.
          الثاني: قولها: (بِالأُولَى مِنْ صَلاَةِ الفَجْرِ) يريد الأذان للفجر، وهو أوَّلٌ بالنِّسبة إلى الإقامة يوضِّحه رواية مسلمٍ السَّالفة: ((بين النِّداءِ والإقامةِ)).
          الثالث: هاتان الركعتان هما راتبة صلاة الفجر، وقد كره جماعةٌ مِن العلماء التنفُّل بعد أذان الفجر إلى صلاة الفجر بأكثرَ مِن ركعتي الفجر؛ لأنَّه ◙ لم يزد على ذلك كما أخرجه مسلمٌ مِن حديث حفصةَ. ونهى أيضًا عنه كما أخرجه أبو داود والتِّرمذيُّ من حديث / ابن عمر ونقل التِّرمذيُّ إجماع العلماء عليه وهو أحد الأوجه عندنا، وبه قَالَ الأئمَّة الثلاثة، ونقله القاضي عياضٌ عن مالكٍ والجمهور، ومقابلهُ: لا يدخل حتَّى يصلِّي سنَّة الصُّبح، والأصحُّ: الجواز، وأنَّ الكراهة لا تدخل إلَّا بفعل الفرض؛ لقوله صلعم: ((صلِّ ما شئت، فإنَّ الصَّلاةَ مشهودةٌ مقبولةٌ حَتَّى تصلِّي الصُّبح ثمَّ أَقصِر)) أخرجه أبو داود مِن حديث عمرِو بن عَبَسَة.
          الرابع: فيه استحباب تخفيف هاتين الرَّكعتين، وهو مذهبنا ومذهب مالكٍ والجمهور، وَقَالَ النَّخَعيُّ: لا بأس بإطالتهما، واختاره الطَّحاويُّ. وفي «المصنَّف» عن سعيد بن جبيرٍ: ((كان ◙ ربَّما أطالَ ركعتَيِ الفجرِ)) وعن الحسن: لا بأس بإطالتهما يقرأ فيهما بحزبه إذا فاته.
          وعن مجاهدٍ: لا بأس أن يطيلهما. وبالغ قومٌ فقالوا: لا قراءة فيهما، حكاه الطَّحاويُّ والقاضي عياضٌ، والأحاديث الصحيحة تردُّه فإنَّه ◙ كان يقرأ فيهما: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] و{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] بعد الفاتحة. وفي رواية ابن عبَّاسٍ: كان يقرأ فيهما: {قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ} [البقرة:136] وبقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} [آل عمران:64]. وفي: «فضائل القرآن» للغافقيِّ: أمر رجلًا شكى إليه شيئًا أن يقرأ في الأولى بعد الفاتحة بـ{أَلَمْ نَشْرَحْ} [الشرح:1]، وفي الثانية بعدها بـ{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ} [الفيل:1]. وفي «وسائل الحاجات» للغزاليِّ استحسان ذلك، وَقَالَ: إنه يردُّ شرَّ ذلك اليوم، واستحبَّ مالك الاقتصار على الفاتحة على ظاهر قولها: ((كان يخفِّفهما حَتَّى إنِّي أقول: هل قرأ فيهما بأمِّ الكتاب)) ويأتي في باب: ما يقرأ في ركعتي الفجر [خ¦1171] وغيره، إن شاء الله تعالى.
          الخامس: فيه مشروعيَّة هذا الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، وهو سنَّةٌ عند بعضهم، واجبةٌ عند الحسن البصريِّ. وذكر القاضي عياضٌ أنَّ مذهب مالكٍ وجمهور العلماء وجماعةٍ مِن الصَّحابة أنَّه بدعةٌ، وسيأتي ما فيه في باب: الضَّجعة على الشَّقِّ الأيمن وغيره إن شاء الله. وفي «سنن أبي داود» و«التِّرمذيِّ» بإسنادٍ صحيحٍ على شرط الشَّيخين مِن حديث أبي هريرة ☺ قَالَ رَسُولُ الله صلعم: ((إذا صلَّى أحدكُم ركعتي الفجرِ فليضطجع على يمينه)) قَالَ التِّرمذيُّ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
          واعلم أنَّه ثبت في الصَّحيح أنَّه ◙ كان يصلِّي باللَّيل إحدى عشرةَ ركعةً يوتر منها بواحدة، فإذا فرغ منها اضطجع على شقِّه حَتَّى يأتيه المؤذِّن فيصلِّي ركعتين خفيفتين. فهذا الاضطجاع كان بعد صلاة اللَّيل، وقبل صلاة ركعتي الفجر، وكذا حديث ابن عبَّاسٍ أنَّ الاضطجاع كان بعد صلاة اللَّيل قبل ركعتي الفجر، وأشار القاضي إلى أنَّ رواية الاضطجاع بعد ركعتي الفجر مرجوحةٌ قَالَ: فتُقدَّم رواية الاضطجاع قبلها ولم يقل أحدٌ في الاضطجاع قبلهما سنَّةٌ فكذا بعدهما، وقد رُوي عن عائشةَ قالت: ((فإن كنتُ مستيقظةً حَدَّثَنِي، وإلَّا اضطجَعَ)) فهذا يدلُّ على أنَّه ليس بسنَّةٍ، وأنَّه تارةً كان يضطجع قبلُ وتارةً بعدُ، وتارةً لا يضطجع.
          السادس: استحباب الاضطجاع والنَّوم على الشَّقِّ الأيمن، وحكمته أنْ لا يستغرق في النَّوم؛ لأنَّ القلب في جهة اليسار، فيقلقَ حينئذٍ فلا يستغرق، وإذا نام على اليسار كان في دَعَةٍ واستراحةٍ.
          السابع: فيه أنَّ الحثَّ على التَّهجير والتَّرغيبَ إلى الاستباق إلى المساجد إنَّما هو لكلِّ مَن كان على مسافةٍ مِن المسجد لا يسمع فيها الإقامة مِن بيته، ويخشى إن لم يمكن أن يفوته فضل انتظار الصَّلاة. وأمَّا مَن كان مجاورًا للمسجد حيث يسمع الإقامة ولا تخفى عليه، فانتظاره الصَّلاةَ في البيت كانتظاره في المسجد؛ له أجر منتظر الصَّلاة، إذ لم يكن كذلك لخرج ◙ إلى المسجد ليأخذ لنفسه بحظَّها مِن فضيلة الانتظار.
          الثامن: أنَّ صلاة النافلة الأفضل كونها في البيوت.