التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة

          ░42▒ باب إِذَا حَضَرَ الطَّعَامُ وَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ.
          ذكر فيه أثرين وثلاثة أحاديث:
          الأثر الأوَّل عن ابن عمرَ قَالَ فيه: وَكَانَ ابن عُمَرَ يَبْدَأُ بِالْعَشَاءِ.
          ذكر البخاريُّ معناه مسندًا قريبًا حيث قَالَ: (وكان ابن عمرَ يُوضَعُ له الطَّعام وتُقام الصَّلاة فلا يأتيها حَتَّى يفرغ وإنَّه ليسمعُ قراءة الإمام). وفي ابن ماجه مِن طريقٍ صحيحةٍ: ((وتعشَّى ابن عمرَ ليلةً وهو يسمعُ الإقامةَ)).
          الثاني: عن أبي الدَّرْدَاءِ ☺: (مِنْ فِقْهِ المَرْءِ إِقْبَالُهُ على حَاجَتِهِ حَتَّى يُقْبِلَ على صَلاَتِهِ وَقَلْبُهُ فَارِغٌ) أي: مِن الشَّواغل الدَّنيويَّة ليقف بين يدي الربِّ جلَّ جلاله على أكمل حالٍ.
          671- 672- 673- وأمَّا الحديث الأوَّل فأخرجه مِن حديث عائشةَ ♦ عَنِ النَّبِيِّ صلعم: (إِذَا وُضِعَ العَشَاءُ وَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَابْدَؤوا بِالْعَشَاءِ). وأخرجه مسلمٌ أيضًا والثَّاني ذكره مِن حديث أنسٍ مرفوعًا: ((إذا قُدِّم العَشَاءُ فابدؤُوا به قبل أن تصلُّوا صلاة المغربِ ولا تعجَلُوا عن عَشائِكُم)) وأخرجه البخاريُّ في موضعٍ آخر ولمسلمٍ: ((إذا أُقيمت الصَّلاة والعَشاء فابدؤوا بالعَشاء)).
          والثالث: ذكره مِن حديث عُبَيْدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ مرفوعًا: (إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ وَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَابْدَؤوا بِالْعَشَاءِ، وَلاَ يَعْجَلْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ). وَكَانَ ابن عُمَرَ يُوْضَعُ لَهُ الطَّعَامُ وَتُقَامُ الصَّلاَةُ فَلاَ يَأْتِيَهاَ حَتَّى يَفْرُغَ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ الإِمَامِ. وأخرجه مسلمٌ أيضًا.
          ثمَّ قَالَ البخاريُّ: وَقَالَ زُهَيْرٌ وَوَهَبُ / بْنُ عُثْمَانَ: عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعِ، عَن ابن عُمَر: قَالَ النَّبِيُّ صلعم: ((إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ على الطَّعَامِ فَلا يَعْجَلْ حَتَّى يَقْضِيَ حاجَتَهُ مِنْهُ، وَإِنْ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ)). قَالَ: وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ عُثْمَانَ، وَوَهْبٌ مدنيٌّ.
          وأخرجه مسلمٌ من حديث أنس بن عياضٍ عن موسى، ووقع للحُمَيديِّ في «جمعه» أنَّهما أخرجاه مِن حديث عُقبة، والبخاريُّ إنَّما أخرجه تعليقًا كما ترى، ورواه عن مُوسى حفصُ بن مَيسرةَ، أخرجها البيهقيُّ، وَوهبٌ هذا استشهد به البخاريُّ هنا.
          إذا تقرَّر ذلك فاختلف العلماء في تأويل هذه الأحاديث، فذكر ابن المُنذر أنَّه قَالَ بظاهرها عمرُ بن الخطَّاب وابنه عبد الله، وهو قول الثَّوريِّ وأحمد وإسحاق، ووجهه شغل القلب وذهاب كمال الخشوع.
          وَقَالَ الشَّافعيُّ: يبدأ بالطَّعام إذا كانت نفسه شديدة التَّوَقان إليه، فإن لم يكن كذلك ترك العَشاء، وإتيان الصَّلاة أحبُّ إلي، وذكر ابن حَبيبٍ مثل معناه.
          وَقَالَ ابن المُنذر عن مالكٍ: يبدأ بالصَّلاة إلَّا أن يكون طعامًا خفيفًا. وفي الدَّارقطنيِّ: قَالَ حُميدٌ: كنَّا عند أنسٍ فأذَّن بالمغرب، فقال أنسٌ: ابدؤوا بالعَشاء وكان عشاؤه خفيفًا.
          وَقَالَ أهل الظاهر: لا يجوز لأحدٍ حضر طعامه بين يديه وسمع الإقامة أن يبدأ بالصَّلاة قبل العَشاء، فإنْ فعل فصلاته باطلةٌ. والجمهور على الصِّحة وعلى عدم وجوب الإعادة، وحجَّتهم أنَّ المعنى بالبُداءة بالصَّلاة ما يُخشى مِن شغل القلب بذلك فيفارقه الخشوع، وربَّما نقص مِن حدود الصَّلاة أو سها فيها، وقد بيَّن هذا المعنى أبو الدَّرداء فيما سلف مِن قوله: (مِنْ فِقْهِ المَرْءِ إقباله على حاجته حتى يُقبل على صلاته وقلبه فارغٌ)، ولو كان إقباله على طعامه فرضًا لم يقل فيه: مِن فقه المرء أن يبدأ به، بل كان يقول: مِن الواجب عليه اللازم له أن يبدأ به، فبيَّن العلَّة في قوله: (ابْدَؤوا بِالعَشَاءِ) أنَّه لِما يُخاف مِن شغل البال، وقد رأينا شغلَ البال في الصَّلاة لا يفسدها، أَلَا ترى أنَّه ◙ صلَّى في جبَّةٍ لها علَمٌ فقال: ((خذوها وائتوني بأَنْبِجَانِيَّةٍ)) فأخبر أنَّه اشتغل بالعَلَم ولم تبطل صلاته.
          وَقَالَ عمر بن الخطَّاب: إنِّي لأجهِّز جيشي وأنا في الصَّلاة. وَقَالَ صلعم: ((لا يزال الشَّيطان يأخذ أحدكم فيقول له: اذكر كذا، حَتَّى يظلَّ الرَّجلُ لا يدرِي كم صلَّى)) ولم يأمرنا بإعادتها لذلك.
          وإنَّما يُستحبُّ أن يكون المصلِّي فارغ البال مِن خواطر الدُّنيا ليتفرَّغ لمناجاة ربِّه ╡وقد اشترط بعض الأنبياء على مَن يغزو معه أن لا يتبعه مَن ملك بُضع امرأةٍ ولم يبنِ بها، ولا مَن بنى دارًا ولم يكملها ليتفرَّغ قلبه مِن شواغل الدُّنيا، فهذا في الغزو فكيف في الصَّلاة الَّتي هي أفضل الأعمال؟! والمصلِّي واقفٌ بين يدي الله ╡، ثمَّ هذِه الكراهة _أعني: كراهة الصَّلاة بحضرة الطَّعام الذي يريد أكله_ عند الجمهور إذا كان في الوقت سعةٌ، فإن ضاق بحيث لو أكل خرج وقت الصَّلاة، صلَّى على حاله محافظةً على حرمة الوقت، ولا يجوز تأخيرها. وَقَالَ بعض أصحابنا: لا يصلِّي بحال، بل يأكل وإنْ خرج الوقت لأنَّ مقصود الصَّلاة الخشوع فلا يفوته، والصَّواب الأوَّل.
          وقد ظنَّ قومٌ أنَّ هذا مِن باب تقديم حظِّ العبد على حقِّ الحقِّ ╡، وليس كذلك، وإنَّما هو صيانةٌ لحقِّ الحقِّ ليدخل العباد في العبادة بقلوبٍ غير مشغولةٍ بذكر الطَّعام، وإنَّما كان عشاء القوم يسيرًا لا يقطع عن لحاق الجماعة.
          وممَّا يؤيِّد ما قلنا أنَّ الأحاديث محمولةٌ على مَن تاقت نفسه إلى الطَّعام، وإن كان الحديث الصَّحيح: ((لا صلاةَ بحضرةِ طعامٍ)) عامٌّ لاسيَّما وإنكار عائشةَ على ابن أخيها القاسم بن محمَّدٍ صلاته بحضرته.
          ورواية ابن حِبَّان في «صحيحه» مِن حديث أنس بن مالكٍ: ((إذا قُرِّب العِشاء وأحدُكم صائمٌ فليبدأ به قبلَ الصَّلاة _صلاة المغرب_ ولا تعجَلُوا عن عشَائِكم)) وفي لفظٍ: ((فليبدأ بالعِشاءِ قبل صلاةِ المغربِ))، وَقَالَ الدَّارقُطنيُّ لمَّا ذكرها: ولو لم تصحَّ هذه الزيادة لكانْ معلومًا مِنْ قاعدة الشَّرع الأمرُ بحضور القلب في الصَّلاة والإقبال عليها. وَقَالَ الطَّبرانيُّ في «الأوسط»: لم يقل فيه: ((وأحدكم صائمٌ)) إلَّا عَمرو بن الحارث تفرَّد به موسى بن أعيَنَ. واستدلَّ بعض العلماء بهذا الحديث على امتداد وقت المغرب، وَقَالَ: لو كان مُضيَّقًا لما كان لأحدٍ أن يشتغل فيه بالأكل حَتَّى يفوت.