التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب السجود على سبعة أعظم

          ░133▒ بَابُ السُّجُودِ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ
          809- ذكر فيه حديث ابن عبَّاسٍ من طُرقٍ ثلاثة:
          أحدها: طريق سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال: (أُمِرَ النَّبِيُّ صلعم أَنْ يَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ، وَلاَ يَكُفَّ شَعَرًا وَلاَ ثَوْبًا: الجَبْهَةِ، وَاليَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ).
          810- ثانيها: طريق شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرٍو به، بلفظ: (أُمِرْنَا أَنْ نَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، وَلاَ نَكُفَّ شَعَرًا وَلاَ ثَوْبًا).
          812- ثالثها: طريق وُهَيْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ / بْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلعم: (أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ عَلَى الجَبْهَةِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ وَاليَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ القَدَمَيْنِ وَلاَ نَكْفِتَ الثِّيَابَ وَالشَّعَرَ).
          وذكر فيه حديث البراء في وضع الجبهة.
          811- أمَّا حديث البَرَاء فسلف في باب: متى يَسْجد خَلْفَ الإمام. [خ¦690]
          وأمَّا حديث ابن عبَّاسٍ فأخرجه مسلمٌ أيضًا باللفظ الثالث وقال: ((إلى أنفه)): بدل: (عَلَى أَنْفِهِ). وباللفظ الأوَّل: وقال: (أَعظُمٍ) بدل (أَعضَاءٍ)، و((الكفَّين)) بدل (واليَدَين)، و((القدمين)) بدل (الرِّجلَينِ).
          وفي رواية له: ((أُمرت أن أسجدَ على سَبعٍ ولا أكفِتَ الشَّعْر ولا الثيابَ: الجبهة، والأنف، واليدين، والركبتين، والقدمين))، وعند ابن ماجه: ((قال ابن طاوسٌ: فكانَ أبي يقول: اليدين والرُّكبتين والقدمين، وكان يعدُّ الجبهة والأنفَ واحدًا)).
          وفي «مسلمٍ» من حديث العبَّاسِ بن عبد المطَّلب، سمع النبيَّ صلعم يقول: ((إذا سجَدَ العَبْدُ سَجَد معهُ سبعةُ آرابٍ: وجهُه، وكفَّاهُ، وقَدَماهُ، ورُكبتاهُ)).
          إذا علمت ذلك، فاختلف العلماء فيما يجزئ السجود عليه مِن الآراب السَّبعة عند القدرة، بعد إجماعهم على أنَّ السجود على الجبهة فريضةٌ، فقالت طائفةٌ: إذا سجد على جبهته دون أنفه أجزأه، ورُوي ذلك عن ابن عمر وعطاءٍ وطاوسٍ والحسن وابن سيرين والقاسم وسالمٍ والشَّعبيِّ والزُّهريِّ والشافعيِّ في أظهر قوليه، ومالكٍ ومحمَّدٍ وأبي يوسف وأبي ثورٍ، والمستحبُّ أن يسجد على أنفه معها.
          وقالت طائفةٌ: يجزئه أن يسجد على أنفِه دون جبهته، وهو قول أبي حنيفة، وهو الصحيحُ في مذهبه.
          وروى أسد بن عمرٍو: لا يجوز إلَّا من عذرٍ.
          وهو قول صاحبيه، وفي «شرح الهداية» عنه إن وضع الجبهة وحدَها مِن غير عذرٍ جاز بلا كراهةٍ، وفي الأنف وحدَه يجوز مع الكراهة، والمستحبُّ الجمع بينهما.
          وفي «الأسرار» للدَّبُوسيِّ: يُجْزِئه. وأشار في «المنظومة» عنه الجوازَ مِن غير عذرٍ، ونَسَب ابنُ قدامة في «المغني»، والنوويُّ في «شرح المهذَّب» انفرادَ أبي حنيفة به وقالا: لا نعلم أحدًا سبقه إليه، لكنَّ ابن شأسٍ في «جواهره» قال: إنَّه قول مالكٍ. وقال ابن جريرٍ في «تهذيبه»: حُكْم الجبهة والأنف سواءٌ، فواضع الأنف دون الجبهة كواضع راحتيه دون الأصابع أو الأصابع دونها، لا فرق بين ذلك. قال: وبنحو هذا الذي قلناه قال جماعةٌ من السلف.
          قال ابن بطَّالٍ: ورُوي مثله عن طاوسٍ وابن سيرين، وهو قول ابن القاسم، وفي «المبسوط»: ونُقل عن ابن عمر مثل قول إمامنا، وذكَرَ أصحابُ التشريح أنَّ عَظْمي الأنف يبتدئان مِن قرنة الحاجب وينتهيان إلى الموضع الذي فيه الثنايا والرَّباعيَّات، فعلى هذا يكون الأنف والجبهة التي هي أعلى الخدِّ واحدًا، وهو المشار إليه في الحديث على الجبهة، وأشار بيده إلى أنفه فسوَّى بينهما، ولأنَّ أعضاء السجود سبعةٌ إجماعًا، ولا يتمُّ ذلك إلَّا إذا عُدَّا واحدًا.
          وفي الترمذيِّ: ((لا صلاةَ لِمَن لا يُصِيب أَنْفهُ من الأرضِ بمصيبِ الجبين))، وصحَّح إرساله عن عِكْرمة من غير ذكر ابن عبَّاسٍ.
          وقالت طائفةٌ مِن أهل الحديث: يجبُ السجود عليهما جميعًا، رُوي ذلك عن النخعيِّ وعكرمة وابن أبي ليلى وسعيد بن جبيرٍ، وهو قول أحمد وطائفة، وهو مذهب ابن حبيبٍ.
          وقال ابن عبَّاسٍ: من لم يضع أنفه في الأرض لم يُصلِّ. وفي بعض طرق حديث ابن عبَّاسٍ: ((أُمرت أن أسجدَ على سَبعةِ أعضاءٍ منها الوجهُ))، فلا يختصَّ بالجبهة دون الأنف، وبهذا الحديث احتجَّ أبو حنيفة في الاقتصار على الأنف، وقال: ذِكره للوجه يدلُّ على أنَّه: أيُّ شيءٍ وُضِع منه أجزأه، وإذا جاز عند من خالف الاقتصار على الجبهة فقط جَازَ على الأنف فقط؛ لأنَّه إذا سجدَ على أنفه قيل: سجد على وجهِه كما إذا اقتصَرَ على جبهته.
          وقالت طائفةٌ: لا يُجْزِئه مِن ترك السجود على شيءٍ مِن الأعضاء السبعة، وهو قول أحمد وإسحاق، وأصحُّ قولي الشافعيِّ فيما رجَّحه المتأخِّرون خلافَ ما رجَّحه الرافعيُّ، وهو مذهب ابن حبيبٍ، وأظنُّ البخاريَّ مال إلى هذا القول، وحجَّته حديث ابن عبَّاسٍ السَّالف أنَّه أَمَر أُن يَسْجدَ على سبعة أعضاء، فلا يجزئ السجود على بعضها إلَّا بدلالةٍ.
          واحتجَّ من لم يرَ الاقتصار على الأنف بأنَّ الأحاديث إنَّما ذُكر فيها الجبهة ولم يُذكر الأنف، فدلَّ على أنَّ الجبهة تجزئ، وأنَّ الأنف تَبَعٌ، وأمَّا الرواية السالفة: ((وأشارَ بيدهِ على أَنْفِهِ)). فالأنف غير مُشترَطٍ في ذلك لأنَّه إنَّما أشار بيده إلى أنفه إلى جبهته، فجعل الأنف تبعًا للجبهة، ولم يقل: إلى نفسه. كذا قال المهلَّب، وقد سلف رواية: ((إلى أنفِهِ)).
          قال ابن القصَّار: والإجماع حُجَّةٌ ووجدنا عصرَ التابعين على قولين، فمنهم مَن أوجب السجود على الجبهة والأنف، ومنهم مَن جوَّز الاقتصار على الجبهة، فمن جوَّز الاقتصار على الأنف دون الجبهة خرج عن إجماعهم، لكنْ في «العارضة» لابن العربيِّ في بعض طُرقه: ((الجبهةُ أو الأنفُ))، ويُقال لمن أوجب السجود على الآراب السبعة: إنَّ الله تعالى ذكر السجود في مواضع مِن كتابه فلم يذكر فيها غير الوجه فقال: {ويَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ} [الإسراء:109] {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح:29].
          وقال الشارع: ((سَجدَ وَجْهي للذي خَلَقَه وصَوَّره وَشقَّ سَمْعَه وبَصَره))، فلم يذكر غير الوجه. وقال للأعرابيِّ الذي علَّمه: ((مكِّنْ جَبْهتكَ من الأرضِ))، ولم يذكر باقي الأعضاء، ولو كان حُكْم السجود متعلِّقًا بذلك لكان مع العجز عنه ينتقل إلى الإيماء كالرأس، فلمَّا كان مع العجز يقع الإيماء بالرأس حسب، ولا يُؤمر بإيماء الباقي علمنا أنَّ الحُكْم تعلَّق بالجبهة فقط.
          وأمَّا أمره ◙ بالسجود على الأعضاء السبعة فلا يمتنع أن يُؤمر بفعل الشيء ويكون بعضه مفروضًا وبعضه مسنونًا، ولا يكون وجوبُ بعضه دليلًا على وجوب باقيه إلَّا بدالَّة الجمع بين ذلك، والخلاف في الأعضاء الستَّة ثابتٌ عند الحنفيَّةِ أيضًا، ففي «شرح الهداية»: لا تجب. وفي «الواقعات»: لو لم يضع ركبتيه على الأرض عند السجود لا يجزئه.
          ونقل أبو الطيِّب عن عامَّة الفقهاء عدمَ الوجوب، وعند زُفَر وأحمد الوجوبُ، وعند أحمد في الأنف روايتان. وفي الترمذيِّ عن أحمد: وضعُهَا سُنَّةٌ.
          وادَّعى ابن العربيِّ أنَّ قوله: أُمر أو أُمرت أو أُمرنا مخصوصٌ به في الظاهر، واختلف الناس فيما فُرض عليه هل تدخل معه الأمَّة؟ فقيل: / نعم. والأصحُّ لا إلَّا بدليلٍ، وقيل: إذا خُوطب بأمرٍ أو نهيٍ فالمراد به الأمَّة معه، وهذا لا يثبتُ إلَّا بدليلٍ. قال: والدليل على توجُّب ذلك عليه إجماعُ الأمَّة على وجوب السجود على هذه الأعضاء، ولعلَّ ذلك أُخذ من قوله: ((صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي))، ومن دليلٍ آخر سواه.
          ولا خلافَ أعلمُه في الأعضاء السبعة إلَّا في الوجه، وكلامه كلُّه عجيبٌ، وأين الإجماع فيما ذكره والأصل عدم الخصوصيَّة؟!
          وقوله في رواية: (أَعْضَاءٍ) وفي روايةٍ: (أَعْظُمٍ) إمَّا من باب تسمية الجملة باسم بعضها، أو سمَّى كلَّ واحدٍ منها عظمًا باعتبار الجملة، وإن اشتمل كلُّ واحدٍ منها على عظامٍ.
          وأمَّا كفُّ الشَّعْر والثوب فسيأتي في بابه قريبًا. [خ¦816]
          وقوله: (وَاليَدَيْنِ) يريد: الكفَّين. خلافًا لمن حمله على ظاهره لأنَّه لو حُمِل على ذلك لدخلَ تحت المنهيِّ عنه في افتراش السبع والكلب.