التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا طول الإمام وكانَ للرجل حاجة فخرج فصلى

          ░60▒ باب إِذَا طَوَّلَ الإِمَامُ وَكَانَ لِلرَّجُلِ حَاجَةٌ فَخَرجَ فَصَلَّى.
          700- 701- ذكر فيه حديث جابرٍ: (أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلعم ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ)، وفي لفظٍ: (كَانَ مُعَاذُ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلعم ثُمَّ يَرْجَعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ، فَصَلَّى العِشَاءَ فَقَرَأَ بِالْبَقَرَةِ، فَانْصَرَفَ رَجُلٌ...) الحديث.
          وأخرجه مسلمٌ أيضًا، وطرَّقَه الدَّارقطنيُّ، وأخرجه أحمدُ مِن حديث بُرَيدةَ بإسنادٍ صحيحٍ: ((أنَّ معاذًا صلَّى بأصحابه العِشاء فقرأ فيها: ‎{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر:1] فقام رجلٌ مِن قَبْلِ أن يفرَغَ فصلَّى وذهبَ)) وفي روايةٍ للشَّافعيِّ: ((فقرأ سورة البقرة والنِّساء)). ومِن حديث أنسٍ قَالَ: ((كان معاذٌ يؤمُّ قومَه فدخلَ حَرامٌ...)) الحديث، وفيه: ((فلمَّا طوَّل تجوَّزتُ في صلاتي، وكانت صلاةَ المغربِ)) كما ساقه أبو داودَ فيجوز تعدُّد الواقعة واتِّحادها. إذ عرفت ذلك فالكلام على الرِّواية الثَّانية مِن أوجهٍ:
          أحدها: قد عرفت بيان الرَّجل المبهم فيه. وقيل: اسمه حازمٌ، وقيل: حزمُ بن أبي كعبٍ، وقيل: سُلَيم بن الحارث.
          ثانيها، قوله: (فَانْصَرَفَ رَجُلٌ) ظاهره أنَّهُ كمَّلها وحده، لكن جاء في روايةٍ لمسلمٍ: ((فانحرفَ الرَّجلُ فسلَّم ثمَّ صلَّى وحدَه وانصرفَ)). وَقَالَ البيهقيُّ: لا أدري هل حُفِظت هذه اللَّفظة أم لا؛ لكثرة مِن رواه عن سفيانَ بدونها، وانفرد بها محمَّد بن عبَّادٍ عن سفيان. قلت: فعلى هذا تكون هذِه الرِّواية شاذَّةٌ، ويؤيِّد ذلك أنَّ في «مسند أحمد» مِن حديث أنسٍ أنَّ هذا الرجل لمَّا رأى معاذًا طوَّل تجوَّز في صلاته، وهو يقتضي أنَّه أتمَّها منفردًا.
          وقوله: (فَسَلَّمَ) لا أعلم مَن قَالَ به مِن القدماء، لكن حكى المازَريُّ خلافًا أنَّه هل يخرج بسلامٍ أم لا؟.
          ثالثها: قوله: (فَقَالَ: فَتَّانٌ) ثلاثًا. أو قَالَ: (فَاتِنًا) ثلاثًا، الفاتِن: الَّذي يوقع الفتنة بين النَّاس. والفتَّان: الَّذي يكثر ذلك مِنه تقول: فتَنت وأَفتَنت، وأنكر الأصمعيُّ الثاني، ففتَّانٌ أبلغُ مِن فاتنٍ، ويجوز أن يكون المراد بها هنا العذاب، أي: تُعذِّب النَّاس بالتَّطويل. وقد قيل في قوله تعالى: {الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج:10] عذَّبوهم.
          وفي رواية: (أفتَّانٌ) بالهمزة، وهي همزة استفهامٍ تتضمَّن الإنكار، والتَّكرار مبالغةٌ في الإنكار. وقوله هنا: (فَتَّانٌ) ثلاثًا خبرُ متبدأٍ محذوف، أي: أنت فتَّانٌ. وجاءَ في روايةٍ: <فتَّانٌ أنت>.
          رابعها: قوله: (وَأَمَرَهُ بِسُوْرَتَيْنِ مِنَ المُفَصَّلِ) قَالَ عمرٌو: لا أحفظهما. جاء في «الصَّحيح»: قَالَ سفيانُ: فقلت لعمرٍو: إنَّ أبا الزُّبير حَدَّثَنَا عن جابرٍ أنَّه قَالَ: اقرأ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] {وَالضُّحَى} [الضحى:1] {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1] و{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1]، فقال عمرو: نحو هذا. وفي رواية: و{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار:1] وفي رواية: و{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1].
          خامسها: ظاهر الحديث أنَّ للمأموم قطعَ القدوة ويتمُّ منفردًا، وهو أصحُّ الأقوال عندنا بعذرٍ وبغيره. ثانيهما: التَّفرقة، ومنعه أبو حَنيفة، وهو مشهور مذهب مالكٍ، وعن أحمد حكايةُ روايتين فيه، وعدُّوا طول القراءة عذرًا. قَالَ النَّوويُّ: والاستدلال به ضعيفُ لأنَّه ليس في الحديث أنَّه فارقه وبنى على صلاته، بل في تلك الرِّواية أنَّه سلَّم وقطع الصَّلاة مِن أصلها ثمَّ استأنفها، ففيه دلالةٌ لجواز إبطالها بعذر، وقد علمت ما في هذِه الرِّواية. وأمَّا الرِّواية الأولى فقدَّمها البخاريُّ لعلُوِّها وإن كانت غير ما بوَّب له، وستعرف فقهها موضعَ ذكر البخاريِّ لها قريبًا [خ¦705].