التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول فتأخر الأول

          ░48▒ باب مَنْ دَخَل لِيَؤُمَّ النَّاسَ فَجَاءَ الإِمَامُ الأَوَّلُ فَتَأَخَّرَ الأَوَّلُ أَوْ لَمْ يَتَأَخَّرْ، جَازَتْ صَلاَتُهُ.
          684- فِيهِ: عَائِشَةُ عَنِ النَّبِيِّ صلعم.
          قلت: تقدَّم في صلاته ◙ في مرضه [خ¦683]، ثمَّ ساق حديث سهلِ بن سعدٍ السَّاعديِّ: (أَنَّ رَسُولَ صلعم ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ...) إلى آخره.
          والكلام عليه مِن وجوهٍ:
          أحدها: هذا الحديث أخرجه البخاريُّ في سبعة مواضعَ هنا، وثلاثةٍ في الصَّلاة فيما يجوز مِن التَّسبيح والحمد للرَّجال، ورفع الأيدي فيها لأمرٍ ينزل به، والإشارة فيها، والسَّهو والصُّلح والأحكام، وأخرجه مسلمٌ أيضًا.
          ثانيها: بنو (عمرو بن عوفٍ) مِن ولد مالك بن الأَوس مِن الأنصار وكانوا بقُباءٍ فصلَّى ◙ الظُّهر ثمَّ أتاهم ليصلح بينهم، وكان بينهم شرٌّ وقتالٌ وترامَوا بالحجارة، فحُبِسَ وحانت الصَّلاة.
          ثالثها: فيه ذهاب الإمام للإصلاح بين رعاياه لئلَّا يختلفوا فيفسد حالهم، وفضل الإصلاح بين النَّاس.
          رابعها: قوله: (فَحَانَتِ الصَّلاَةُ، فَجَاءَ المُؤَذِّنُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ) هو بلالٌ إذ في أبي داودَ فقال _يعني ◙_ لبلالٍ: ((إن حضَرَتْ صلاة العصر ولم آتك فمُر أبا بكرٍ فليصلِّ بالنَّاس، فلمَّا حضرت العصر أذَّن بلالٌ ثمَّ أقام، ثمَّ أمر أبا بكرٍ فتقدَّم)) وفي هذه الرِّواية بيان أنَّ هذِه الصَّلاة هي العصر، وقدْ جاء أيضًا ذلك في بعض طرقه.
          خامسها: قوله: (فَقَالَ: أَتُصَلِّي لِلنَّاسِ فَأُقِيمَ؟) فيه سبع فوائدَ:
          الأولى: تقديم غير الإمام إذا تأخَّر ولم يُخف فتنةٌ وإنكارٌ مِن الإمام، وتقديم النَّاس لأنفسهم إذا غاب.
          الثانية: تقديم الأصلح والأفضل. الثالثة: عرض المؤذِّن وغيره التقدُّم على الفاضل وموافقته. الرابعة: تفضيل الصِّدِّيق ☺؛ حيث قُدِّم وإشارته صلعم بالثَّبات على حاله. ذكره ابن الجَوزيِّ وابن التِّين والنَّوويُّ، وقد أفدناك أنَّ الشَّارع هو الَّذي قدَّمه. الخامسة: تفضيل الصَّلاة في أوَّل الوقت. وَقَالَ ابن التِّين: إنَّهم خافوا فوتَ الوقت، وظنَّوا أنَّه ◙ لا يأتيهم في الوقت، ففيه المحافظة على الأوقات. السادسة: أنَّ الإقامة لا تصحُّ إلَّا عند إرادة الدُّخول في الصَّلاة لقوله: أتصلِّي فأقيم؟. السَّابعة: أنَّ المؤذِّن هو الذي يقيم، وهذا هو السُّنَّة، فإن أقام غيره كان خلاف السُّنَّة، نعم يُعتدُّ بأذانه عند الجمهور.
          سادسها: قوله: (فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلعم وَالنَّاسُ فِي الصَّلاَةِ) جاء في روايةٍ أخرى: أنَّه جاء بعد أن كبَّر الصدِّيقُ وكبَّر النَّاس، وخرق رَسُولُ الله صلعم ليصل إلى موضعه.
          ففيه جواز فعل الإمام ذلك عند الحاجة إليه لخروجه لطهارةٍ أو رُعافٍ أو نحوهما، ورجوعه، وكذا / مَن احتاج مِن المأمومين إلى الخروج لعُذرٍ.
          سابعها: قوله: (وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لاَ يَلْتَفِتُ) إنَّما كان لا يلتفت للنَّهي عنه في البخاريِّ كما سيأتي [خ¦751]. قَالَ ابن عبد البرِّ: وجمهور العلماء على أنَّ الالتفات لا يفسد الصَّلاة إذا كان يسيرًا.
          قلت: وهذا إذا كان لا لحاجةٍ فإن كان فلا كراهة، وسيعقد البخاريُّ له بابًا ستعلمه بعدُ فيما سيأتي، وفي أبي داودَ مِن حديث سهل بن الحنظليَّة: ((فجعلَ رَسُولُ الله صلعم يصلِّي وهو يلتفتُ إلى الشِّعب، وكان أرسلَ إليه فارسًا)) قَالَ الحاكم: سنده صحيحٌ، وكذا التفاتُ الصدِّيق عند الإكثار مِن التَّصفيق ولم ينكره عليه.
          ثامنها: رَفْعُ أبي بكرٍ يديه بحمد الله كان إشارةً منه لا كلامًا، كذا قَالَ ابن الجَوزيِّ، ويحتمل خلافه. قَالَ مالكٌ: مَن أُخبر في صلاته بسرورٍ فحمدَ الله تعالى لا يضرُّ صلاتَه، وله أن يتركه تواضعًا وشكرًا لله تعالى وللمنعم به، قَالَ ابن القاسم فيه: ومَن أُخبر بمصيبةٍ فاسترجع أو أُخبر بشيءٍ فقال: الحمد لله على كل حالٍ. قال الداوديُّ: وبنعمته تتمُّ الصَّالحات، لا يعجبني، وصلاته مجزئةٌ. قَالَ أشهب: إلَّا أن يريد بذلك قطع الصَّلاة.
          قلت: ففيه شكرٌ لله تعالى على الوجاهة في الدِّين، وأنَّ ذلك مِن أعظم النِّعم، قَالَ تعالى في عيسى: {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران:45].
          وفيه جواز إعلام المصلِّي بما يسرُّه.
          تاسعها: إنَّما لم يثبت أبو بكرٍ عند الإشارة إليه بالثبوت، وإن كان فيه مخالفةٌ لأنَّه فهم أنَّها إشارةُ تكريمٍ لا إلزام، ويدلُّ عليه شقُّ الشَّارع الصُّفوف حَتَّى خلص إليه، فلولا أنَّه أراد الإمامة لصلَّى حيث انتهى.
          وقوله: (مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صلعم) أي: لأنَّ الكبير شأنه التقدُّم، ويجوز أن يكون الصِّدِّيق خاف حدوث حادثٍ في الصَّلاة يغيِّر حكمًا، فلم يتولَّ الصلاة مع وجوده.
          العاشر: قوله: (وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللهِ صلعم، فَصَلَّى) استدلَّ به أصحابنا على جواز اقتداء المصلِّي بمَن يُحرم بالصَّلاة بعدَه، فإنَّ الصِّدِّيق أحرم بالصَّلاة أوَّلًا ثمَّ اقتدى به حين أحرم بعده، وهو أظهر القولين عندنا، وفيه الصَّلاة بإمامين على التَّعاقب، وقدْ سلف. ونقل ابن بطَّالٍ عن الأكثرين المنع بغير عذرٍ، قَالَ ابن بطَّالٍ: لا أعلم مَن يقول: إنَّ مِن كبَّر قبل إمامه فصلاته تامَّةٌ إلَّا الشَّافعيَّ بناءً على مذهبه أنَّ صلاة المأموم غير مرتبطةٍ بصلاة الإمام، وسائر الفقهاء لا يجيزون صلاة مَن كبَّر قبل إمامه.
          الحادي عشر: استنبط ابن بطَّالٍ وغيره جواز الاستخلاف مِن هذا الحديث، ووجهُه أنَّ الصِّدِّيق صار مأمومًا بعد أن كان إمامًا، وبنى القوم على صلاتهم، فكذا إذا خرج مِن الصَّلاة لسبق حدثٍ ونحوه يقدِّم رجلًا، وهو أظهر قولي الشَّافعيِّ، وبه قَالَ عمرُ وعليٌّ والحسن وعلقمة وعَطاءٌ والنَّخَعيُّ والثَّوريُّ ومالكٌ وأبو حَنيفة، وَقَالَ الشَّافعيُّ مرَّةً وأهل الظاهر: لا يستخلف، وادَّعى بعض المالكيَّة أنَّ تأخُّر الصِّدِّيق وتقدُّم الشَّارع مِن خواصِّه لأنَّهم كانوا تقدَّموه بالإحرام ولا يفعل ذلك بعدَه، وليس بظاهرٍ. وعن ابن القاسم في الإمام يُحدث فيستخلف ثمَّ ينصرف، فيأتي ثمَّ يخرج المستخلف ويتمُّ الأوَّل بالنَّاس أنَّ الصَّلاة تامَّةٌ، فإذا تمَّت الصَّلاة فينبغي أن يشير إليهم حَتَّى يتمَّ لنفسه، ثمَّ يسلِّم ويسلِّموا، فيجوز التقدُّم والتأخُّر في الصَّلاة.
          قَالَ ابن بطَّالٍ: وهذا القول مطابقٌ للحديث وبه ترجم البخاريُّ، وأكثر الفقهاء لا يقولون ذلك لأنَّه لا يجوز عندهم الاستخلاف في الصَّلاة إلَّا لعذرٍ، وَقَالَ أوَّلًا: هذا الحديث ردٌّ على الشَّافعيِّ وأهل الظاهر في إنكارهم الاستخلاف. وقد عرفت أنَه قولٌ عندَه، وأنَّ أظهر قولَيه جوازه.
          الثاني عشر: قوله: (مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ، فَلْيُسَبِّحْ فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ التُفِتَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ) وفي روايةٍ أخرى للبخاريِّ: ((فليقل: سبحانَ الله، فإنَّه لا يسمعُه أحدٌ حينَ يقولُ سبحانَ الله إلَّا التَفَتَ)).
          (التَّصفيق): هو التَّصفيح _بالحاء_ سواءً صفَّق بيده أو صفَّح، وقيل: هو بالحاء الضَّرب بظاهر اليد إحداهما على باطن الأخرى، وقيل: بل بإصبعين مِن أحداهما على صفحة الأخرى، وهو الإنذار والتَّنبيه. وبالقاف: ضرب إحدى الصَّفحتين على الأخرى، وهما للهو وللَّعب. وَقَالَ أبو داود: قَالَ عيسى بن أيُّوب: التَّصفيح للنِّساء: ضربٌ بإصبعين مِن يمينها على كفِّها اليسرى، قال الداوديُّ: في بعض الروايات ((فصفَّح القوم وإنَّما التَّصفيح للنِّساء)) يحتمل أنهم ضربوا بأكفِّهم على أفخاذهم.
          قلت: وإذا ضربت المرأة كان ببطن كفِّها الأيمن على ظهر كفِّها الأيسر، ولا تضرب بطن كفٍّ على كفٍّ على وجه اللَّعب واللهو، فإن فعلتْ ذلك على وجه اللَّعب بطلت صلاتها لمنافاة الصَّلاة، واحتجَّ به جماعة _كما قَالَ ابن التِّين_ مِن الحذَّاق على أبي حنيفةَ في قوله: إن سبَّح الرَّجل لغير إمامه لم تُجزِه صلاته.
          ومذهب مالكٍ والشافعيِّ: إذا سبَّح لِأعمى خوف أن يقع في بئرٍ أو خوفًا مِن دابَّةٍ أو حيَّةٍ أنَّه جائزٌ.
          وقال أصحاب أبي حَنيفة: إنَّ معنى قوله: (فَلْيُسَبِّحْ) أي: بإمامه إذا سهى لأنَّ سهو إمامه سهوٌ له، فأجاز له هذا لأنَّه مِن مصلحة الصَّلاة. وأجاب عنه بعضهم بأنَّ الخبر خرج على سببٍ كما سلف، فتصفيقهم ليُعلموا الصِّدِّيق بمجيئه ◙، وإنَّما كان السَّبب مع غير الإمام، وهذا لا يعود إلى الإمام، فما كان مثل هذا السَّبب جائزٌ، لكن قوله: (مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ) عامٌّ فيما كان مع الإمام وغيره.
          وَقَالَ مالكٌ: إنَّما قَالَ ذلك على معنى العتب لِما فعل، أي: ذلك للنِّساء فهو ذمٌ للتَّصفيق، فالمرأة تُسبِّح كالرَّجل لقوله ◙: (مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ) ومَنْ تقع على الذكور والإناث. قالَ: والتَّصفيق منسوخٌ بقوله: (مَن نابَه شيءٌ في صلاتِه فليسبِّح) وأنكره بعضهم. وَقَالَ: لأنَّه لا يختلف / أنَّ أوَّل الحديث لا ينسخ آخره، ومذهب الشَّافعيِّ والأوزاعيِّ: تخصيصُ النِّساء بالتَّصفيق، وهو ظاهر الحديث.
          وفي أبي داود: ((وَإذا نابكم شيءٌ في الصَّلاةِ فليسبِّحِ الرِّجالُ وليُصفِّحِ النِّساءُ)) وسيأتي في البخاريِّ في بابه من حديث أبي هُريرة [خ¦1203] وهو في مسلمٍ: ((التَّسبيحُ للرِّجالِ والتَّصفيقُ للنِّساءِ في الصَّلاةِ)).