التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب وجوب صلاة الجماعة

          ░29▒ باب وُجُوبِ صَلاَةِ الجَمَاعَةِ.
          وَقَالَ الحَسَنُ: إِنْ مَنَعَتْهُ أُمُّهُ عَنِ العِشَاءِ فِي الجَمَاعَةِ شَفَقَةً لَمْ يُطِعْهَا.
          644- ثمَّ ذكر فيه حديث أبي هُريرة أَنَّ رَسولَ اللهِ صلعم قَالَ: (وَالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْتطَبَ ثُمَّ آَمُرَ بِالصَّلاَةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُر رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ، وَالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ العِشَاءَ).
          والكلام على ذلك مِن وجوهٍ:
          أحدها: هذا الحديث أخرجه مسلمٌ أيضًا، وكرَّره البخاريُّ في الباب قريبًا، وفي الإشخاص في باب: إخراج أهل المعاصي والخصوم من البيوت بعد المعرفة.
          ثانيها: استدلَّ به مَن قَالَ: الجماعة فرض عينٍ في غير الجمعة، وهو مذهب أحمد وابن المُنذر، وداود وابن خُزَيمةَ وجماعةٍ، والأظهر عن أحمد أنَّها ليست شرطًا للصِّحَّة، والأكثرون على أنَّها سنَّةٌ كما نقله القاضي عياضٌ وابن بطَّالٍ وغيرهما. وأجاب الجمهور بأنَّ هؤلاء المتخلِّفين كانوا منافقين، والسِّياق يقتضيه فإنَّه لا يُظنُّ بالمؤمنين مِن الصَّحابة أنَّهم يؤثرون ترك الصَّلاة خلفه ◙ وفي مسجده لأجل العظم السَّمين ولأنَّه لم يحرِّق بل همَّ به وتركه، والهمُّ بالشَّيء غير فعله، ولو كانت فرض عينٍ لَمَا تركهم.
          نعم في «سنن أبي داود»: ((لقد هممتُ أن آمر فِتيَتي فيجمعوا حُزَمًا مِن حطبٍ، ثمَّ آتيَ قومًا يُصلُّون في بيوتهم ليست لهم عِلَّةٌ فأحرِّقها عليهم)) وظاهرها أنَّهم كانوا مؤمنين.
          ثالثها: إن جُعلت الألف واللَّام في قوله: (ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاَةِ) للجنس فهو عامٌ، وإن جُعلت للعهد، ففي روايةٍ: ((أنَّها العشاء)) وفي أخرى: ((والفجر)) وفي أخرى: ((الجمعة)) وفي أخرى: ((يتخلَّفون عن الصَّلاة)) مطلقًا، ولا تضادَّ بينها لجواز تعدُّد الواقعة. نعم إذا كانت هي الجمعة، فالجماعة شرطٌ فيها ومحلُّ الخلاف إنَّما هو في غيرها.
          قَالَ البيهقيُّ: والَّذي تدلُّ عليه سائر الرِّوايات أنَّه عبَّر بالجمعة عن الجماعة، ونُوزع في ذلك.
          رابعها: فيه العقوبة بالمال وعُزِي إلى مالكٍ، وكان في أوَّل الإسلام ثمَّ نُسخ عند الجمهور.
          خامسها: فيه استخلاف الإمام عند عروض شغلٍ له، وإنَّما همَّ به بعد الإقامة لأنَّ ذلك الوقت تتحقَّق مخالفتهم وتخلُّفهم، فيتوجَّه اللَّوم عليهم.
          سادسها: فيه جواز الانصراف بعد إقامة الصَّلاة لعذرٍ.
          سابعها: تقديم الوعيد والتهديد على العقوبة، وهو مِن باب الدَّفع بالأخفِّ.
          ثامنها: قوله: (فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ) ظاهره أنَّه أراد حرقهم وقتلهم بالنَّار، إذ لو لم يرد ذلك لقال: فأحرِّق بيوتهم، ولم يقل: عليهم، وهذا يقوِّي ما سلف أنَّه في المنافقين لأنَّ المؤمن لا يُقتل بترك الجمعة إجماعًا، وإن حُكي فيه خلافٌ عندنا. وحديث النَّهي عن التَّعذيب بالنَّار يحتاج إلى الجمع بينه وبين ما نحن فيه، فإن ادَّعى أنَّه ناسخٌ فيحتاج إلى ثبتٍ؛ وإنَّ النَّسخ خلاف الأصل.
          تاسعها: فيه جواز الحلف مِن غير استحلافٍ، وهذا قسمٌ كان يجري على لسانه صلعم فنفوس العباد بيده تعالى أي: أمرها مردودٌ إليه، فيتصرَّف فيه على ما أراد، واللَّام في لقد جواب القسم، وهمَمت بالشَّيء أهُمُّ به: إذا عزمت عليه.
          عاشرها: أخذُ أهل الجرائم على غِرَّةٍ.
          الحادي عشر: قتل تارك الصَّلاة متهاونًا أي: إذا قلنا: إنَّ الخطاب للمؤمنين، كذا استدلَّ به القاضي. ورواية أبي داود تردُّه.
          الثاني عشر: معنى (أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ) أذهب إليهم.
          وقوله: (فَيُؤَذَّنَ لَهَا) كذا هو باللَّام، أي: أعلمت النَّاس لأجلها، ورُوي بالباء، أي: أعلمت بها، والهاء مفعولٌ ثانٍ.
          وقوله: (فَأُحَرِّقَ) يُقال: أحرقت الثَّوب وحرَّقته، والتَّشديد للتكثير، وهي أكثر في رواية هذا الحديث مِن التَّخفيف.
          الثالث عشر: (العَرْقُ) بفتح العين وإسكان الراء: العظم بما عليه مِن بقيَّة اللَّحم يُقال: عرَقتَه واعترَقته إذا أكلت ما عليه بأسنانك. وَقَالَ أبو عُبيدٍ: العَرق الفِدْرة مِن اللَّحم، أي: بالفاء لا بالقاف، وهي القطعة الكبيرة منه. وَقَالَ الخليل: العُراق: العظم بلا لحمٍ، فإن كان عليه لحمٌ فهو عَرقٌ. قَالَ القزَّاز في «جامعه»: وهو أكثر قولهم، وَقَالَ بعضهم: التَّعرُّق مأخوذٌ مِن العَرَق؛ كأنَّ المتعرِّق أكل ما عليه مِن اللَّحم وعَرِق. وعن ابن قُتَيبة: تُسَمَّى عَرقًا إذا كانت جرداء لا لحمَ عليها، وتُسمَّى عُراقًا وعليها اللَّحم. وفي «المحكم» عن ابن الأعرابيِّ في جمعه: عِراقٌ بالكسر وهو أقيس.
          الرابع عشر: (المِرْمَاتَانِ) بكسر الميم وفتحها، حكاهما في «المطالع»، واحدهما مِرماةٌ ما بين ظِلْفَي الشَّاة مِن اللَّحم، فالميم أصليَّةٌ. وَقَالَ الدَّاوديُّ: هما مضغتا لحمٍ، وَقَالَ: هما سهمان مِن سهام الرَّمي وهو / الأشبه؛ لأنَّه لمَّا قَالَ: عَرقًا سمينًا أراد به ما يُؤكل، فأتبعه بالسَّهمين لأنَّهما ممَّا يلهو، وقيل: هما سهمان يُلعب بهما في كومٍ مِن ترابٍ، فمَن أثبته فقد غلب وأحرز سبقه، وعلى هذا لا يجوز إلَّا الكسر فيه. وَقَالَ الأخفش: المِرماة: لعبةٌ كانوا يلعبونها بنصالٍ متعدِّدةٍ، يرمونها في كومٍ مِن ترابٍ فأيُّهم أثبتها في الكوم غلب.