التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة

          ░82▒ باب إِيجَابِ التَّكْبِيرِ وَافْتِتَاحِ الصَّلاَةِ.
          اختلف العلماء في تكبيرة الإحرام. فقال مالكٌ والشَّافعيُّ وأحمد: هي ركنٌ. وَقَالَ أبو حنيفةَ: شرطٌ، وهو وجهٌ عندنا كما حكاه الرُّوْيانيُّ في «بحره». وتظهر فائدة الخلاف فيما لو كبَّر وفي يده نجاسةٌ فألقاها في أثنائه، أو أحرم قبل الزَّوال ثمَّ زالت في أثنائه، أو أحرم مكشوفَ العورة ثمَّ ستر في أثنائه.
          وفي المسألة قول ثالث أنَّها تنعقد بالنِّيَّة بلا تكبيرٍ، حكاه ابن المُنذر عن الزُّهريِّ، وَقَالَ: لم يقل به غيره، وكذا قَالَ ابن العربيِّ في «قبسه»: لم يقل إنَّها ليست بفرضٍ غيرُه، وحكاه ابن التِّين عن الحسن بن صالحٍ. وذهب الجمهور فيما حكاه ابن بطَّالٍ إلى وجوبها. وذهبت طائفةٌ إلى أنَّها سنَّةٌ، رُوي ذلك عن سعيد بن المسيِّب والحسن والحكَم والزُّهريِّ والأوزاعيِّ وقالوا: إنَّ تكبير الرُّكوع يجزئه مِن تكبيرة الإحرام. ورُوي عن مالكٍ في المأموم ما يدلُّ على أنَّه سنَّةٌ، ولم يختلف قوله في المنفرد والإمام أنَّها واجبةٌ على كلِّ واحدٍ منهما، وأنَّ مَن نسيها يستأنف الصَّلاة. وَقَالَ ابن العربيِّ: وقع في «المدوَّنة» وهمٌ بنسبة هذا القول لابن المسيِّب وليس له.
          والصَّحيح أنَّها فرضٌ. وَقَالَ ابن قُدامة في «المغني»: لا تنعقد الصَّلاة إلَّا بالتَّكبير سواءٌ تركه سهوًا أو عمدًا، وهو قول ربيعةَ والثَّوريِّ ومالكٍ والشَّافعيِّ وإسحاق وأبي ثورٍ. قلت: وبه قَالَ أحمد وداود، وحكى أبو الحسن الكَرْخيُّ الحنفيُّ عن ابن عُليَّة والأصمِّ كقول الزُّهريِّ السَّالف. وَقَالَ ابن بَزيزة: قالت طائفةٌ بوجوب تكبير الصَّلاة كلِّه. وعكس آخرون فقالوا: كلُّ تكبيرة في الصَّلاة ليست بواجبةٍ مطلقًا منهم ابن شهابٍ وابن المسيِّب وغيرهما.
          وروى هؤلاء أنَّها _يعني: تكبيرة الإحرام_ ليست بواجبةٍ فأجازوا الإحرام بالنِّيَّة لعموم: ((الأعمالُ بالنِّيَّات)). والجمهور أوجبوها خاصَّةً دون ما عداها. واختلف مذهب مالكٍ، هل يحملها الإمام عن المأموم أم لا؟ قولان.
          حجَّة الجمهور قوله صلعم: (فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا) فذكر تكبيرة الإحرام دون غيرها مِن سائر التَّكبير، وكذا حديث المسيء في صلاته: ((إذا قُمت إلى الصَّلاة فكبِّر)) ثمَّ ذكر الباقي مِن غير ذكر تكبيرٍ آخر. والإجماع قائم على أنَّ مَن ترك سائر التَّكبير غير تكبيرة الإحرام أنَّ صلاته جائزةٌ، فدلَّ على أنَّ ما عداها غير لازمٍ. لكن عن أحمدَ أنَّها واجبةٌ تُبطِل بالتَّرك عمدًا، وتُجَبر بالسُّجود سهوًا، وصحَّ أيضًا: ((تحريمُها التَّكبيرُ وتحليلُها التَّسليمُ)). وحجَّة مَن سنَّها أنَّ المراد بها الإعلام، فصارت كغيرها.
          ثمَّ اختَلف العلماء هل يجزئ الافتتاح بالتَّسبيحِ والتَّهليلِ مكان التَّكبير؟ فقال مالكٌ وأبو يوسف والشَّافعيُّ وأحمد وإسحاق: لا يجزئ إلَّا اللهُ أكبر. وأجاز الشَّافعيُّ: اللهُ الأكبر. وَقَالَ الكوفيُّون: يجزئ مِن التَّكبير ما قام مقامه مِن تعظيم الله وذكره. حجَّة الجمهور أنَّه ◙ كان يقول: ((الله أكبر)) وقد قَالَ: ((صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي)).
          ثمَّ استدلَّ البخاريُّ _☼_ لما ذكره بحديثين:
          732- 733- أحدهما: حديث أنسٍ مِن طريقين عنه: ((أنه ◙ رَكِبَ فَرَسًا، فَجُحِشَ شِقُّهُ...)) الحديث.
          وقد سبق في باب: الصلاة في السطوح [خ¦378]، وفي باب: إنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به [خ¦689].
          وفي الطَّريق الثَّاني ما بوَّب له وهو: (فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا)، دون الطَّريق الأوَّل، فهو أمسُّ بالتَّقديم عليه، نعم قدَّم الأوَّل لتصريح سماع الزُّهريِّ مِن أنسٍ فأمِن التَّدليس، ثمَّ ساق الثَّاني لمطابقة ما ترجم له. واعترض الإسماعيليُّ فقال: ليس في الطَّريق الأوَّل ذكر التَّكبير ولا ذكر الافتتاح، ومع هذا فالثَّاني ليس فيه إيجاب التَّكبير وإنَّما فيه إيجاب الَّذين يُكبِّرون لا يسبقون إمامهم بها، ولو كان ذلك إيجابًا لكان قوله: ((وإذا قَالَ: سمع الله لمَن حمده. فقولوا: ربَّنا لك الحمد)) إيجابًا له على المأموم. وفيما ذكره نظرٌ، وقد أسلفنا بيان الوجوب منه فإنَّه أمرٌ والأمرُ للوجوبِ. وأهل الظَّاهر أوجبوا قول: سمع الله لمَن حمده عند القيام مِن الرُّكوع. قَالَ ابن حزمٍ: فإن كان مأمومًا ففرضٌ عليه أن يقول بعد ذلك: ربنا لك الحمد، أو: ولك الحمد.
          وأمَّا قول البخاريِّ: / (وافتتاح الصَّلاة) فلعلَّ مرادَه: وافتتاح الصَّلاة به؛ فإنَّه لم يُذكر في الباب ما يدلُّ للافتتاح، أو أنَّه لمَّا ذكر التَّكبير الَّذي هو افتتاح الصَّلاة أحال على ما يأتي بعدُ مِن الأبواب الَّتي فيها الرَّفعُ وشبهه.