شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب المرأة تطرح عن المصلى شيئًا من الأذى

          ░109▒ بَابُ: المَرْأَةِ تَطْرَحُ عَنِ المُصَلِّي شَيْئًا مِنَ الأذَى.
          فيهِ: ابنُ مَسْعُودٍ قَالَ: (بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلعم قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الكَعْبَةِ، وَجَمْعُ قُرَيْشٍ فِي مَجَالِسِهِمْ، إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَلا تَنْظُرُوا(1) إلى هَذَا المُرَائِي؟: أَيُّكُمْ يَقُومُ إلى جَزُورِ آلِ فُلانٍ فَيَعْمِدُ إلى فَرْثِهَا وَدَمِهَا وَسَلَاهَا فَيَجِيءُ بِهِ، ثمَّ يُمْهِلُهُ حتَّى إِذَا سَجَدَ وَضَعَهُ(2) بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَانْبَعَثَ أَشْقَاهُمْ، فَلَمَّا سَجَدَ النَّبيُّ(3) صلعم وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَثَبَتَ النَّبيُّ صلعم سَاجِدًا، فَضَحِكُوا، حتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ مِنَ الضَّحِكِ، فَانْطَلَقَ مُنْطَلِقٌ إلى فَاطِمَةَ، وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ، فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى، وَثَبَتَ النَّبيُّ صلعم سَاجِدًا، حتَّى أَلْقَتْهُ عَنْهُ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَسُبُّهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ(4) الصَّلاةَ، قَالَ: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، ثلاثًا، ثمَّ سَمَّى: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعَمْرِو بنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ وَالوَلِيدِ بنِ عُتْبَةَ(5)، وَأُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَوَاللهِ(6) لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثمَّ(7) سُحِبُوا إلى الْقَلِيبِ(8)، قَلِيبِ بَدْرٍ، ثمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: وَأُتْبِعَ أَصْحَابُ الْقَلِيبِ لَعْنَةً). [خ¦520]
          قال المؤلِّفُ(9): هذه التَّرجمة قريبةٌ من معنى الأبواب المتقدِّمة قبلها(10)، وذلك أنَّ المرأة إذا تناولت طرح ما على ظهر(11) المُصَلِّي من الأذى، فإنَّها لا تقصد إلى أخذ ذلك مِن ورائِه إلَّا كما تقصد إلى أخذِه مِن أمامِه، بل تتناول ذلك مِن أيِّ جهات المُصَلِّي أمكنها تناولُه وسَهُلَ عليها طرحُه، فإن لم يكن هذا المعنى أشدُّ من مرورها(12) بين يديه فليس بدونِه، ومن هذا الحديث استنبط العلماء حُكْمَ المُصَلِّي إذا صَلَّى بثوبٍ نجسٍ وأمكنه طرحُه في الصَّلاة فطرحَهُ(13)، فذهب الكوفيُّون إلى أنَّه يتمادى في صلاتِه ولا يقطعها، وروى ابنُ وَهْبٍ عن مالكٍ مثلُه، وذكرَه(14) في «المبسوط»، ورُوِيَ مثلُه عنِ ابنِ عُمَرَ(15) والقاسِمِ والنَّخَعِيِّ والحَسَنِ البَصْرِيِّ والحَكَمِ وحمَّادٍ. ولمالكٍ في «المدوَّنة» قولٌ آخرُ قال: يقطع وينزع الثَّوب النَّجس ويبتدئ صلاتَهُ، قالَ إِسْمَاعِيْلُ: وعلى مذهب عبدِ الملكِ يُتمُّ صلاتَه ولا يقطعها، ثمَّ يُعيد، وهو قول(16) الكوفيين، ورواية ابنِ وَهْبٍ عن مالكٍ أشبه، بدليلِ هذا الحديث، وقوله في «المدوَّنة»: يقطع وينزع الثَّوب النَّجس ويبتدئ صلاتَه، هو استحسانٌ منه واحتياطٌ للصَّلاة، والأصل في ذلك ما فعل النَّبيُّ صلعم مِن أنَّه لم يقطع / صلاتَهُ للسَّلا الَّذي وُضِعَ على ظهرِهِ، بل تمادى فيها حتَّى أكملها والحُجَّةُ في السُّنَّةِ لا فيما خالفها، وأمَّا قول عبدِ الملكِ: يُتمُّ الصَّلاة ثمَّ يعيد؛ فلا وجه له؛ لأنَّه لا يخلو أن(17) يجوز له التَّمادي فيها أو لا يجوز، فإن جاز له التَّمادي فلا معنى لإعادتِه، وإن كان لا تجزئُه صلاتُه فلا معنى لأمرِه(18) بالتَّمادي في ما لا يجزئُه. وهؤلاء الَّذين دعا عليهم رَسُولُ اللهِ صلعم كانُوا ممن لم تُرْجَ إجابتهم ورجوعهم إلى الإسلام، فلذلك دعا عليهم(19) بالهلاك، فأجاب الله تعالى دعاءَهُ فيهم، وهم الَّذين أخبرَهُ الله ╡ أنَّه كفاه إيَّاهم بقولِهِ تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ}[الحجر:95]، وأمَّا كلُّ مَن رجا منه(20) صلعم الرُّجوع والتَّوبة عمَّا هو عليه فلم يعجل بالدُّعاء عليه، بل دعا له بالهدى والتَّوبة فأجاب الله تعالى دعاءَه فيهم.
          وفيهِ: الدُّعاء على أهل الكفر إذا جَنَوْا جنايات وآذوا المؤمنين.


[1] في (م) و(ص): ((تنظرون)).
[2] في (م): ((وضع)).
[3] في (ص): ((الرسول)) في المواضع الثلاث.
[4] زاد في (م): ((صلعم)).
[5] في (م): ((شيبة)).
[6] قوله: ((فوالله)) ليس في (م).
[7] قوله: ((ثمَّ)) ليس في (م).
[8] قوله: ((القلب)) ليس في (م).
[9] قوله: ((قال المؤلِّف)) ليس في (م).
[10] قوله: ((قبلها)) ليس في (م).
[11] قوله: ((ظهر)) ليس في المطبوع.
[12] زاد في المطبوع: ((من)).
[13] قوله: ((فطرحه)) ليس في (م).
[14] في (ص): ((وذكر)).
[15] في (م): ((وروى ابن وهبٍ عن مالك والمبسوط مثله، وهو قول ابن عمر)).
[16] في (م): ((وقول)).
[17] زاد في (م): ((يكون)).
[18] في (م): ((فما معنى أمره)).
[19] قوله: ((رسول الله صلعم كانوا ممن لم تُرجَ إجابتهم ورجوعهم إلى الإسلام، فلذلك دعا عليهم)) ليس في (م).
[20] زاد في (ص): ((الرسول)).