شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من قال: لا يقطع الصلاة شيء

          ░105▒ بَابُ: مَنْ قَالَ: لا يَقْطَعُ الصَّلاة شَيْءٌ.
          فيهِ: عَائِشَةُ: (أنَّه ذُكِرَ عِنْدَهَا مَا يَقْطَعُ الصَّلاة؛ فقَالُوا: الكَلْبُ وَالحِمَارُ وَالمَرْأَةُ، فَقَالَتْ(1): شَبَّهْتُمُونَا(2) بالكِلابِ والحُمُرِ، وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبيَّ(3) صلعم يُصَلِّي، وَأَنَا(4) على السَّرِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ القِبْلَة مُضْطَجِعَةً، فَتَبْدُو لِيَ الحَاجَةُ، فَأَكْرَهُ أَنْ أَجْلِسَ، فَأُوذِيَ النَّبيَّ(5) صلعم، فَأَنْسَلُّ مِنْ(6) رِجْلَيْهِ). [خ¦514]
          ذهب جمهور(7) أهل العلم إلى أنَّ الصَّلاةَ / لا يقطعها شيءٌ رُوِيَ ذلك عن عُثْمَانَ وعليٍّ وحُذَيْفَةَ وابنِ عُمَرَ، ومن التَّابعين: الشَّعْبِيُّ(8) وعُرْوَةُ، وهو قول مالكٍ والثَّوْرِيِّ وأبي حنيفةَ والشَّافعيِّ وأبي ثَوْرٍ وجماعةٍ، وقالَ الطَّحَاوِيُّ: زعم قومٌ أنَّ مرور الحائض والكلب الأسود والحمار يقطع الصَّلاة، ورُوِيَ هذا عن أَنَسٍ(9) والحَسَنِ البَصْرِيِّ، ورُوِيَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ وعطاءٍ أنَّ الكلب الأسود والحائض يقطعان الصَّلاة. وقالت طائفةٌ(10): لا يقطع الصَّلاة إلَّا الكلب الأسود، وبه قال أحمدُ واحتجَّ هؤلاء بما رواه مَنْصُورٌ عن حُمَيْدِ بنِ هِلَالٍ عن عبدِ اللهِ بنِ الصَّامتِ عن أبي ذرٍّ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهَ صلعم: ((يَقْطَعُ الصَّلاةَ المَرْأَةُ وَالحِمَارُ وَالكَلْبُ الأَسْوَدُ)) قلت: يا أبا ذرٍّ وما(11) بالُ الكلب الأسود مِن الأحمر والأبيض؟ قال: سألْتُ رَسُول الله صلعم عمَّا سألتني عنه فقالَ: ((الكَلْبُ الأَسْوَدُ شَيْطَانٌ)). وروى ابنُ أبي عَرُوْبَةَ عن قَتَادَةَ عَنِ الحَسَنِ عن عبدِ اللهِ بنِ مُغَفَّلٍ أنَّ النَّبيَّ صلعم قالَ: ((يَقْطَعُ الصَّلاةَ الكَلْبُ والحِمَارُ والمَرْأَةُ)). روى(12) هِشَامٌ عن يحيى عن عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ أحسبُه أسندَه إلى النَّبيِّ(13) صلعم قَالَ: ((يَقْطَعُ الصَّلاةَ الحَائِضُ والحِمَارُ والكَلْبُ الأَسْوَدُ واليَهُودِيُّ والنَّصْرَانيُّ)).
          واحتجَّ أهل المقالة الأُولى بحديث عَائِشَةَ أنَّ النَّبيَّ صلعم كان يُصَلِّي وهي بينَهُ وبينَ القِبْلَةِ معترضةٌ، وبما(14) رواه شُعْبَةُ عنِ الحَكَمِ عن يحيى بنِ الجزَّارِ عن صُهَيْبٍ عن ابنِ عَبَّاسٍ(15) قَالَ: ((مَرَرْتُ برَسُولِ اللهِ صلعم وهو يُصَلِّي وَأَنَا عَلَى حِمَارٍ ومَعِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَلَمْ يَنْصَرِفَ)).
          فبان في هذا الحديث أنَّهما مرَّا بين يدي النبي صلعم ودلَّ ذلك(16) أنَّ مرور الحمار بين يدي الإمام لا يقطع الصَّلاة. وروى سُفْيَانُ عن سِمَاكٍ عن عِكْرِمَةَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ ((أنَّه ذُكِرَ عِنْدَهُ مَا يَقْطَعُ الصَّلاةَ؟ فقالَ: الكَلْبُ والحِمَارُ، قالَ(17) ابنُ عبَّاسٍ: إليهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ ومَا يَقْطَعُ هذا، ولكنَّه يُكْرَهُ)). فهذا ابنُ عَبَّاسٍ قد قالَ بعد رَسُولِ اللهِ صلعم: إنَّ الحِمَارَ والكَلْبَ لا يَقْطَعَانِ الصَّلاةَ، فدلَّ أنَّ ما رواه عنه صُهَيْبٍ كان متأخِّرًا عمَّا رواه عنه عِكْرِمَةُ، وأنَّه ناسخٌ له؛ لأنَّه لا يجوز أن يُفتي بخلاف ما رواه عَنِ الرَّسُولِ صلعم إلَّا بعد ثبوت نسخِهِ عندَه، وبقي في(18) حديث أبي ذرٍّ أنَّه(19) فَصَلَ بينَ الكلبِ الأسودِ وغيرِه، فجعل الأسود خاصَّة يقطع الصَّلاة، وأنَّ النَّبيَّ صلعم بيَّن معنى ذلك بأنَّه(20) شيطانٌ.
          قال الطَّحَاوِيُّ: فأردنا أن ننظر هل عارض ذلك شيءٌ؟ فإذا أبو سَعِيدٍ قد رَوى(21) عَنِ النَّبيِّ صلعم أنَّه قال(22) في المارِّ بين يدي المُصَلِّي: ((فَلْيَدْرَأْهُ مَا اسْتَطَاعَ، فإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّما هُوَ شَيْطَانٌ))، وروى(23) ابنُ عُمَرَ مثلُهُ، ففي هذا الحديث(24) أنَّ كلَّ مارٍّ بين يدي المُصَلِّي شيطانٌ، وقد سوَّى في هذا بين بني آدم والكلب(25) الأسود في المرور، وقد أجمعوا على أنَّ مرور بني آدم بعضهم ببعضٍ لا يقطع الصَّلاة، رُوِيَ ذلك عَنِ النَّبيِّ صلعم مِن غير وجه مِن حديث عَائِشَةَ وأُمِّ سَلَمَةَ ومَيْمُونَةَ أنَّه ◙ كان يُصَلِّي وكلُّ واحدةٍ منهُنَّ معترضةٌ بينَه وبينَ القِبْلَةِ، وكلُّها ثابتةٌ من إخراج البخاريِّ. وقد جعل ◙ في حديث أبي سَعِيدٍ وحديث ابنِ عُمَرَ كُلَّ مارٍّ بين يدي المُصَلِّي شيطانًا، وأخبرنا(26) أبو ذرٍّ أنَّ الكلب الأسود أيضًا يقطع الصَّلاة؛ لأنَّه شيطانٌ، وكانت العِلَّة الَّتي جعل لها قطع(27) الصَّلاة قد جُعلت في بني آدم، وقد ثبتَ عنه ◙ أنَّهُم لا يقطعون الصَّلاة، فدلَّ ذلك أنَّ كلَّ مارٍّ بين يدي المُصَلِّي ممَّا(28) سوى بني آدم كذلك أيضًا لا يقطع الصَّلاة، وممَّا يدلُّ على ذلك أيضًا فُتْيَا ابنِ عُمَرَ أنَّ الصَّلاة لا يقطعها شيءٌ، وقد رُوِيَ عَنِ النَّبيِّ صلعم درءُ المُصَلِّي مَن مرَّ بين يديه، فدلَّ ذلك على ثبوت نَسْخِ ما رواه عنه ◙، وأنَّه(29) على وجه الكراهة(30) _والله أعلم(31)_ قالَه الطَّحاويُّ.


[1] في (م): ((قالت)).
[2] في (ص): ((شبهونا)).
[3] في (ص): ((الرسول)).
[4] في (م): ((وإنِّي)).
[5] في (ص): ((الرسول)).
[6] زاد في المطبوع و(ص): ((بين)).
[7] في (م): ((الجمهور من)).
[8] في (م): ((وابن عمر والشَّعبي)).
[9] في المطبوع: ((روى هذا أَنَسٌ)).
[10] في (م): ((عائشة)).
[11] في (م): ((يا أبا ذرٍّ: ما)).
[12] في (م) و(ص): ((وروى)).
[13] في (ص): ((الرسول)).
[14] في (م): ((وما)).
[15] زاد في (م): ((أنَّه)).
[16] قوله: ((ذلك)) ليس في (ص).
[17] في (م): ((فقال)).
[18] قوله: ((في)) ليس في (م).
[19] قوله: ((أنَّه)) ليس في (م).
[20] في (م): ((أنَّه)).
[21] في (م): ((أبو سعيد الخدريُّ قد روى)).
[22] قوله: ((أنَّه قال)) ليس في (م).
[23] في (م): ((وروي عن)).
[24] في (م): ((الباب)).
[25] في (م): ((وبين الكلب)).
[26] في (م): ((وأخبر)).
[27] في (م): ((الَّتي لها جعل بقطع)).
[28] زاد في (م): ((هو)).
[29] في (م): ((◙ من ذلك أو أنَّه)).
[30] في (ص): ((الكراهية)).
[31] في (م): ((الموفِّق)).