شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب كراهية التعري في الصلاة وغيرها

          ░8▒ بَابُ: كَرَاهِيَةِ التَّعَرِّي فِي الصَّلاةِ وَغَيْرِهَا.
          فيهِ: جابرٌ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم كَانَ يَنْقُلُ مَعَهُمُ الحِجَارَةَ لِلكَعْبَةِ، وَعَلَيْهِ إِزَارُهُ، فَقَالَ لَهُ العَبَّاسُ عَمُّهُ: يَا ابنَ أَخِي لَوْ حَلَلْتَ إِزَارَكَ فَجَعَلْتَهُ على مَنْكِبَيْكَ دُونَ الحِجَارَةِ، قَالَ: فَحَلَّهُ فَجَعَلَهُ(1) على مَنْكِبَيْهِ، فَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَمَا رُئِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عُرْيَانًا صلعم). [خ¦364]
          بنيان(2) الكعبة كان والنَّبيُّ صلعم غلامٌ قبل البعثة(3) بمدَّةٍ، وقيل: كان حينئذٍ(4) ابن خمسة عشر عامًا(5)، وقد بعثه الله ╡ بالرسالة إلى خلقه وعلَّمه ما لم يكن يعلم، وأنزل عليه في القرآن ما حمله أن يأمر: ((ألَّا يَطَوَّفَ(6) بالبَيْتِ عُرْيَانًا(7)))، ونسخ بذلك ما كانوا عليه من جاهليَّتهم من مسامحتهم(8) في النَّظر إلى العورات، وكان صلعم قد جبلَه اللهُ على جميل الأخلاق وشريف الطِّباع، ألا ترى أنَّه غشي عليه وما رُئِيَ بعد ذلك عريانًا. وفائدة هذا الحديث قوله: (فَمَا رُئِيَ(9) بَعْدَ ذَلِكَ عُرْيَانًا). ففيه أنَّه لا ينبغي التَّعري للمرء بحيث تبدو عورته لعين النَّاظر إليها، والمشي عريانًا بحيث لا يأمن أَعْيَن الآدميين إلَّا ما رُخِّصَ فيه مِن رؤية(10) الحلائل لأزواجهنَّ عُرَاةً. قال الطَّبَرِيُّ: وقد حدَّثنا ابنُ حُمَيْدٍ عن هارونَ بنِ المُغِيْرَةَ عن سِمَاكِ بنِ حَرْبٍ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عَبَّاسٍ عنِ العَبَّاسِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ، وذكر الحديث وقال فيه: أنَّه لما سقط النَّبيُّ صلعم نظر(11) إلى السَّماء وأخذ إزارَه، وقال: ((نُهِيْتُ عَنْ أَنْ أَمْشِيَ عُرْيَانًا))، فقلت: ((اكْتُمْهَا النَّاسَ مَخَافَةَ أَنْ يَقُولُوا(12) مَجْنُونٌ)). فدلَّ هذا الحديث أنَّه لا يجوز التَّعرِّي في الخلوة ولا لأعين النَّاس. وقيل: إنَّما مخرج القول منه لذلك الحال(13) الَّتي كان عليها، فحيث(14) كانت(15) قُرَيْشٌ رجالها ونساؤها(16) تنقل معه الحجارة، فقال: ((نُهِيْتُ أَنْ أَمْشِيَ عُرْيَانًا))، في مثل هذه الحالة ولو كان ذلك نهيًا مِن الله تعالى له عن التَّعرِّي في كلِّ مكانٍ لكان قد نهاه عن التَّعرِّي للغُسْل مِن الجنابة في الموضع الَّذي قد أمن أن يراه فيه أحدٌ إلَّا الله، إذ كان المغتسل لا يجد بُدًّا مِن التَّعرِّي، ولكنَّه صلعم نُهِيَ عن التَّعرِّي بحيث يراه أحدٌ. وفي نهيه صلعم عن المشي عريانًا بيانٌ أنَّه لا يجوز القُعُود عريانًا في موضعٍ يكون معناه معنى الموضع الَّذي نُهي فيه عن المشي عريانًا، وذلك القعود بحيث يراه مَن لا يحلُّ له أن يرى عورته، فكان القعود عريانًا في معنى المشي عريانًا(17)، ولذلك نهى النَّبيُّ صلعم عن دُخُول الحمَّام بغير إزارٍ. فإن قيل: فما أنت قائلٌ في حديث القَاسِمِ عن أبي أُمَامَةَ عن النَّبيِّ صلعم أنَّه قالَ: ((لَوْ أَسْتَطِيْعُ أَنْ أُوَارِي عَوْرَتِي مِنْ شِعَارِي لَوَارَيْتُها(18)))؟، وفي قول عليِّ بنِ أبي طالبٍ ☺: ((إِذَا كَشَفَ الرَّجُلُ عَوْرَتَهُ أَعْرَضَ عَنْهُ المَلَكُ))؟، وفي قول أبي مِجْلَزٍ(19) قال: قال أبو مُوسَى الأَشْعَرِيِّ: ((إنِّي لأَغْتَسِلُ(20) في البَيْتِ المُظْلِمِ فَمَا أُقِيْمُ صُلْبِي حَيَاءً مِنْ رَبِّي))؟. قالَ الطَّبَرِيُّ: قيل له: حديث أبي أُمَامَةَ إنْ صحَّ عن النَّبيِّ صلعم فهو منه محمولٌ على وجه الاستحباب لاستعمال السَّتر(21) والنَّدب لأمَّته إلى ذلك، وكذلك كان ذلك مِن عليٍّ(22) وأبي مُوسَى(23)، / لا على(24) أنَّهما رأيا أنَّ ذلك حرامٌ؛ لأنَّ الله تعالى لا يغيب عنه شيءٌ مِن خلقه عُرَاةً كانوا أو عليهم ثيابٌ، فلا وجه لترك إقامة الصُّلب عند الاغتسال، ولو كان العبد إذا لم يقمْ صلبه ليستتر(25) من جسده عن ربِّهِ(26) شيءٌ كان ذلك معنًى صحيحًا، فأمَّا وهو لو انطبق بعضه على بعض لم يغب شيءٌ مِن أجزاء جسده عن عين ربِّه تعالى ذِكْرُه، فلا وجه لترك إقامة الصُّلب عند الاغتسال في الخلوة حياءً من الله تعالى، بل ذلك(27) إلى أن يكون سببًا لتضييع غسل بعض جسده أقرب منه(28) إلى أن يكون حياءً من الله ╡.


[1] قوله: ((فجعله)) ليس في (م).
[2] في (م): ((قال: بنيان)).
[3] في (ص): ((المبعث)).
[4] في المطبوع و(ص): ((يومئذٍ)).
[5] في (م): ((خمس عشرة سنة)).
[6] في (ص): ((يطف)).
[7] في (م): ((عريان)).
[8] قوله: ((من مسامحتهم)) ليس في (م).
[9] في (م): ((لم ير)).
[10] في (م): ((عورة)).
[11] في (م): ((لما سقط مغشيًا عليه نظر)).
[12] زاد في (م): ((إنَّه)).
[13] في (م): ((قيل للمستدل بذلك إنَّما مخرج القول بذلك كان للحال)).
[14] في (م): ((بحيث)).
[15] في (ص): ((كان)).
[16] في المطبوع و(ص): ((نساؤها ورجالها)).
[17] قوله: ((وذلك القعود بحيث يراه من لا يحلُّ له أن يرى عورته، فكان القعود عريانًا في معنى المشي عريانًا)) ليس في (م) و(ص).
[18] في (م): ((لواريت)).
[19] في (م): ((مخلب)).
[20] في (م): ((لأغسل)).
[21] في المطبوع و(ص): ((السُّترة)).
[22] زاد في (م): ((بن أبي طالب)).
[23] زاد في (م): ((☻)).
[24] قوله: ((على)) ليس في (م).
[25] في (م): ((أيستر عنه))، وفي المطبوع و(ص): ((استتر)).
[26] قوله: ((عن ربه)) ليس في (م).
[27] زاد في المطبوع و(ص): ((داعية)).
[28] قوله: ((منه)) ليس في (م).