شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الحدث في المسجد

          ░61▒ بَابُ: الحَدَثِ فِي المَسْجِدِ.
          فيهِ: أَبُو هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ(1) اللهِ صلعم قَالَ: (المَلائِكَةُ تُصَلِّي على أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ، مَا لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ). [خ¦445]
          قالَ المُهَلَّبُ: معنى هذا الباب أنَّ الحَدَثَ(2) في المسجد خطيئةٌ يُحْرَمُ بها المُحْدِثُ استغفار الملائكة(3) ودعاؤهم المرجو بركته، ويدلُّ على ذلك قوله صلعم(4): ((النُّخَامَةُ في المَسْجِدِ خَطِيْئَةٌ وَكَفَارَتُهَا دَفْنُهَا))، فلمَّا كان للنُّخَامة كفَّارةٌ قيل للمتنخِّمِ(5): تمادى في المسجد في صلاتك وابقَ فيه مدعوًّا لك، ولمَّا لم يكن للحَدَثِ في المسجد كفَّارةٌ ترفع أذاه كما رَفَعَ الدَّفْنُ أذى النُّخامة لم يتمادى الاستغفار له ولا الدُّعاء، وجب زوال الملائكة عنه لما آذاهم به مِن الرَّائحةِ الخبيثةِ، والله أعلم.
          قالَ المُؤَلِّفُ: فمن كان كثير الذُّنُوب وأراد أن يحطَّها اللهُ ╡ عنه بغير تعبٍ فليغتنم ملازمة مكان مُصَلَّاهُ بعد الصَّلاة ليستكثر مِن دعاء الملائكة واستغفارهم له، فهو(6) مرجوٌ إجابتُه لقولِهِ تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ(7) إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}[الأنبياء:28]، وقد أخبر ◙ أنَّه مَن وافق تأمينُهُ تأمينَ الملائكة غُفِرَ له ما تقدَّم مِن ذنبه(8)، وتأمين الملائكة إنَّما هو مَرَّةً واحدةً عند تأمين الإمام ودعاؤهم لمن قعد في مُصَلَّاه دائمًا أبدًا(9) ما دام قاعدًا فيه، فهو أحرى بالإجابة، وقد شبَّه صلعم انتظار الصَّلاة بعد الصَّلاة بالرِّباط وأكَّد ذلك بتكرارِه مَرَّتين بقولِه: ((فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ))، فعلى كلِّ مؤمنٍ عاقلٍ سمع هذه الفضائل الشَّريفة أن يحرص على الأخذ بأوفر الحظِّ منها ولا تمرَّ عنه صفحًا.
          وقد اختلف السَّلف في جلوس المُحدِثِ في المسجد فرُوِيَ عن أبي الدَّرْدَاءِ أنَّه خرج مِن المسجد فَبَالَ، ثمَّ دَخَلَ وتَحَدَّثَ مَعَ أصحابِهِ ولمْ يَمَسَّ ماءً، وعَنْ عليِّ بنِ أبي طالبٍ مثلُه، ورُوِيَ ذلك عن عَطَاءٍ والنَّخَعِيِّ وسَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ. وكَرِهَ أن يتعمَّدَ الجلوس في المسجدِ على غير وضوءٍ سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ والحَسَنُ البصريُّ وقالَا: يمرُّ مَارًّا ولا يجلسُ فيه.


[1] في (ص): ((نبي)).
[2] في (م): ((الحديث)).
[3] زاد في (م): ((له)).
[4] في (ص): ((قول الرسول)).
[5] في (م): ((قيل له)).
[6] في (م): ((وهو)).
[7] في (م): ((يستغفرون)).
[8] قوله: ((ما تقدَّم من ذنبه)) ليس في (م).
[9] قوله: ((أبدًا)) ليس في (م).