شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب إذا صلى في ثوب له أعلام ونظر إلى علمها

          ░14▒ بَابُ: إِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ لَهُ أَعْلامٌ وَنَظَرَ إِلَيهَا(1).
          فيهِ: عَائِشَةُ: (أَنَّ النَّبِيَّ(2) صلعم صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلامٌ، فَنَظَرَ إلى أَعْلامِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إلى أَبِي جَهْمٍ، وَائْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلاتِي(3))، وقَالَ مَرَّةً: (كُنْتُ أَنْظُرُ إلى عَلَمِهَا وَأَنَا فِي الصَّلاةِ، فَأَخَافُ أَنْ تَفْتِنَنِي). [خ¦373]
          قالَ المُؤَلِّفُ: النَّظر في الصَّلاة إلى الشَّيء إذا لم يقدح في الرُّكوع والسُّجود لا يُفْسِدُ الصَّلاة، وإن كان مكروهًا كلُّ ما يشغل المُصَلِّي عن صلاته ويلهيه عن الخشوع، فلمَّا شغلته(4)◙ عن بعض خشوعه / تشاءم بها وردَّها، وقال سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ: إنَّما ردَّ رَسُولُ اللهِ صلعم الخَمِيْصَةَ إلى أبي جَهْمٍ(5)؛ لأنَّها(6) كانت سبب غفلته وشغله(7) عن ذكر الله ╡، كما قالَ: ((اخرُجُوا عَنْ هذا الوَادِي الَّذي أصَابَكُمْ فيه الغَفْلَةُ، فإنَّهُ وادٍ بِهِ شَيْطَانٌ))، قالَ: ولمْ يكنْ رَسُولُ اللهِ صلعم ليبعث إلى غيره بشيءٍ يكرهه لنفسه؛ ألا ترى قوله صلعم لعائشةَ في الضَّبِ: ((إنَّا لَا نَتَصَدَّقُ بِمَا لَا نَأْكُلُ))، وكان رَسُولُ اللهِ صلعم أقوى خلق الله على دَفْعِ الوسوسةِ، ولكن كرهها لدَفْعِ الوسوسةِ كما قالَ لعَائِشَةَ: ((أَمِيْطِي عَنَّا قِرَامَكِ، فإنَّه لا تَزَالُ تَصَاوِيْرُهُ تَعْرِضُ لي في صَلَاتِي)).
          وفي رَدِّه صلعم الخَمِيْصَة تنبيهٌ منه وإعلامٌ أنَّه يجب على أبي جَهْمٍ مِن اجتنابها في الصَّلاة مثلما(8) وجب على النَّبيِّ صلعم؛ لأنَّ أبا جَهْمٍ أحرى أن يعرض له مِن الشُّغل بها أكثر مما خشي النَّبيُّ صلعم، ولم يُرِدِ النَّبيُّ صلعم بردِّ الخميصةِ عليه منعه مِن تملُّكها ولباسها في غير الصَّلاة، وإنَّما معناها كمعنى الحُلَّةِ الَّتي أهداها لعُمَرَ(9) بنِ الخَطَّابِ ☺، وحَرَّمَ عليه لباسها وأباح له الانتفاع بها وبيعها(10).
          وفيه دليلٌ: أنَّ الواهبَ والمُهدِيَّ إذا رُدَّتْ عليه عطيَّةٌ(11) مِن غير أن يكون هو الرَّاجع فيها، فله أن يقبلها؛ إذ لا عار عليه في قبولها.
          وفيهِ: أنَّ النَّبيَّ صلعم آنسَ أبا جَهْمٍ حين ردَّها إليه بأنْ سألَهُ(12) ثوبًا مكانها لعلمه(13) أنَّه لم يَرُدَّ عليه هديته استخفافًا به، ولا كراهةً(14) لكسبه، وفيه: تكنية الإمام والعالم لمن هو دونه.
          قال أبو عُبَيْدٍ: والخَمِيْصَةُ كِسَاءٌ مُرَبَّعٌ أَسْوَدُ له عَلَمَانِ، وقال ثعلبٌ: أَنْبِجَانِيَّةٌ(15) _بفتحِ الباءِ وكسرِها_ كلُّ ما كَثُفَ والتَفَّ، قالوا: شاةٌ أَنْبِجَانِيَّةٌ كثيرةُ الصُّوفِ مُلْتَفَّةٌ، وقال الأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ: كِسَاءٌ مَنْبَجَانِيٌّ(16) منسوبٌ إلى مَنْبِجَ، ولا يُقَالُ: أَنْبِجَانِيٌّ، قالَ أَبُو حاتمٍ: قُلْتُ: لم فُتِحَتِ الباءُ وإنَّما نُسِبَتْ إلى مَنْبِجَ، قَالَ: خَرَجَ مَخْرَجَ مَنْظَرَانِيٍّ ومَخْبَرَانِيٍّ ألا ترى أنَّ الزِّيادة فيه والنَّسب ممَّا يتغيَّر له البناء؟.


[1] في (م): ((إلى أعلامها)).
[2] في (ص): ((نبي الله)).
[3] في (م): ((ألهتني عن صلاتي آنفًا)).
[4] في (ص): ((شغله)).
[5] قوله: ((إلى أبي جهم)) ليس في (م).
[6] في (ص): ((لأنه)).
[7] في (م): ((وشغل)).
[8] في (م): ((ما)).
[9] في (م): ((عمر)).
[10] في (م): ((بيعها والانتفاع بها)).
[11] في المطبوع و(ص): ((هديته))، وفي (م): ((عطيته)).
[12] في (ص): ((إليه بإرساله)).
[13] في المطبوع و(ص): ((يعلمه))، وفي (م): ((ليعلمه)).
[14] في (ص): ((كراهية)).
[15] في (ص): ((منبجانية)).
[16] في (ص): ((منبجانية)).