شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب رفع الصوت في المساجد

          ░83▒ بَابُ: رَفْعِ الصَّوْتِ فِي المَسْجِدِ.
          فيهِ: السَّائِبُ بنُ يَزِيْدَ(1) قَالَ: (كُنْتُ قَائِمًا فِي المَسْجِدِ، فَحَصَبَنِي رَجُلٌ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، فَقَالَ: اذْهَبْ، فَائتِنِي(2) بِهَذَيْنِ، فَجِئْتُهُ بِهِمَا، فقَالَ: مَنْ(3) أَنْتُمَا _و(4) مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟_ قَالَا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، قَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ البَلَدِ، لأوْجَعْتُكُمَا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صلعم). [خ¦470]
          وفيهِ: كَعْبٌ: (أَنَّهُ تَقَاضَى ابنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم فِي المَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، حتَّى سَمِعَهَا(5) رَسُولُ اللهِ صلعم وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا حتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، وَنَادَى: يا كَعْبَ بنَ مَالِكٍ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ(6)، فَأَشَارَ بِيَدِهِ(7) أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِكَ، قَالَ كَعْبٌ: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ: قُمْ فَاقْضِهِ)(8). [خ¦471]
          قال بعض النَّاس: أمَّا إنكار عُمَرَ ☺ رفع الصَّوت في المسجد، فيدلُّ أنَّهم رفعوا أصواتهم فيما لا يحتاجون إليه مِن اللَّغط الَّذي لا يجوز في المسجد، ولذلك بنى عُمَرُ ☺ البَطْحَاءَ(9) خارجَ المسجدِ؛ ليُنزِّهَهُ عن الخَنَا والرَّفَثِ، فسألهم إن كانوا مِن أهل البلد ممَّن تقدَّم العلم إليهم بإنكار رفع الصُّوت في اللَّغط(10) فيه، فلمَّا أخبراه أنَّهما(11) مِن غير(12) البلد عذرهما(13) بالجهل. وأمَّا ارتفاع صوت كَعْبٍ وابنِ أبي حَدْرُدٍ في المسجدِ، فلمَّا كانَ على(14) طلبِ حقٍّ واجبٍ، لم يُغَيِّرِ(15) النَّبيُّ صلعم ذلك عليهم، ولو كان لا يجوز رفع الصَّوت فيه في حقٍّ ولا غيرِه لما(16) تركَ النَّبيُّ صلعم، بيان ذلك إذ هو مُعَلِّمٌ، وقد فرض الله تعالى عليه ذلك. وأمَّا مذاهب العلماء في ذلك، فذهب(17) مالكٌ وطائفةٌ(18) أنَّه لا يُرفَعُ(19) الصَّوتُ في المسجدِ في العِلْمِ ولا غيرِهِ، قال مالكٌ: ولقد أدركَتِ النَّاس قديمًا يعيبون ذلك على بعض مَن يكون ذلك محلُّهُ، وما للعلم ترفع فيه الأصوات، إنِّي / لأكرَهُ ذلك، ولا أرى فيه خيرًا. رواه ابنُ عبدِ الحَكَمِ عنه، وقال مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ في «المبسوطِ»: لا بأسَ برفعِ الصَّوت في المسجدِ في الخبرِ يُخْبِرُونَهُ والخصومة تكون بينهم، ولا بأسَ بالأحداثِ الَّتي تكون بين النَّاس فيه مِن الشَّيء يعطونَهُ، وما يحتاجون إليه؛ لأنَّ المسجدَ مجتمعٌ للنَّاسِ ولا(20) بُدَّ لهم ممَّا يحتاجون إليه من ذلك، وأجاز أبو حنيفةَ وأصحابُهُ رفعَ الصَّوت في المسجدِ. ذكر ابنُ أبي خَيْثَمَةَ قال: حَدَّثَنا إبراهيمُ بنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ قالَ: مَرَرْتُ بأبي حنيفةَ وهوَ مَعَ أصحابِهِ في المسجدِ، وقدِ ارتفعَتْ أصواتُهُمْ، فقلْتُ: يا أبا حنيفةَ هذا في المسجدِ والصَّوتُ لا ينبغي أن يُرفَعَ فيهِ، فقالَ(21): دَعْهُمْ، فإنَّهمُ لا يفقهونَ(22) إلَّا بهذا.


[1] في المطبوع و(م): ((زيد)).
[2] في المطبوع: ((ائتني)).
[3] في (م): ((ممَّن)).
[4] في المطبوع و(م): ((أو)).
[5] في (م): ((سمعهما)).
[6] قوله: ((بن مالك قال لبيك يا رسول الله)) ليس في (م).
[7] في (م): ((وأشار إليه)).
[8] قوله: ((مِنْ دَيْنِكَ، قَالَ كَعْبٌ: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ: قُمْ فَاقْضِهِ)) ليس في (م)، وبدل منه قوله: ((الحديث)).
[9] في (م): ((البطيحاء)).
[10] في (م): ((باللَّغط)).
[11] في (م): ((أخبروه أنَّهم)).
[12] زاد في (ص): ((أهل)).
[13] في (م): ((عذرهم)).
[14] في (م): ((في)).
[15] في (م): ((لم يعير)).
[16] في (م): ((ما)).
[17] في (ص): ((فمذهب)).
[18] زاد في (م): ((إلى)).
[19] في (ص): ((لا يجوز)).
[20] في المطبوع: ((فلا)). في(ص) تحتمل: ((لا)).
[21] في (ص): ((قال)).
[22] في المطبوع: ((يفهمون)).