شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء

          ░1▒(1) كَيْفَ فُرِضَتِ الصَّلاة فِي الإسْرَاءِ.
          وَقَالَ(2) ابنُ عَبَّاسٍ: حَدَّثَنِي(3) أَبُو سُفْيَانَ فِي حَدِيثِ هِرَقْلَ، فَقَالَ: (يَأْمُرُنَا _يَعْنِي النَّبيَّ صلعم_ بِالصَّلاةِ وَالصِّدْقِ وَالعَفَافِ).
          فيهِ: أَنَسٌ قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُول اللهِ صلعم قَالَ: (فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي ثمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثمَّ أَطْبَقَهُ، ثمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إلى السَّمَاءِ، فَلَمَا جِئْتُ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا)، الحديثَ(4)، وذَكَرَ حديثَ الإسراءِ. [خ¦349]
          قَالَ: (فَفَرَضَ اللهُ على أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلاةً، فَقَالَ لي مُوسَى: ارْجِعْ إلى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَجَعْتُ، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إلى مُوسَى، فقُلْتُ: وَضَعَ شَطْرَهَا، قَالَ: ارجِعْ إلى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيْقُ، فَرَاجَعْتُ(5)، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إلى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُهُ، فَقَالَ: هي(6) خَمْسٌ(7) وَهُنَّ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ، فَقَالَ: ارجِعْ إلى رَبَّكَ، قُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، ثمَّ أُدْخِلْتُ الجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا المِسْكُ).
          وفيهِ: عَائِشَةُ قَالَتْ: (فَرَضَ اللهُ الصَّلاةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي الحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلاةُ السَّفَرِ وَزِيدَ فِي صَلاةِ الحَضَرِ). [خ¦350]
          أجمع العلماء على أنَّ فرض الصَّلاة كان في الإسراء، واختلفوا في تاريخ الإسراء، فقال الذَّهَبِيُّ في «تاريخه»: أُسْرِيَ برسولِ اللهِ صلعم بعد مبعثه بثمانية عشر شهرًا.
          وقال أبو إِسْحَاقَ الحَرْبِيِّ: أُسْرِيَ بالنَّبيِّ صلعم ليلة سبع وعشرين مِن ربيع الأوَّل قبل الهجرة بسنةٍ، وفُرضت الصَّلاة عليه. وقال مُوسَى بنُ عُقْبَةَ عنِ ابنِ شِهَابٍ: إنَّ الإسراء كان قبل الهجرة بسنةٍ، وروى يُونُسُ بنُ بُكَيْرٍ عن عُثْمَانَ بن عبدِ الرَّحمنِ الوَقَّاصِيِّ عنِ ابنِ شِهَابٍ: أنَّ الصَّلاة فُرِضَتْ بمكَّة بعد ما أُوحي إليه بخمس سنين. فعلى قول مُوسَى بنِ عُقْبَةَ: إذا كان الإسراء قبل الهجرة بسنةٍ، فهو بعد مبعثه بتسع سنين، أو باثنتي عشرة سنةٍ على اختلافهم(8) في مقامه بمكَّة بعد مبعثه، وقول الزُّهْرِيِّ أَوْلى مِن قول الذَّهَبِيِّ؛ لأنَّ ابنَ إِسْحَاقَ قال: أُسْرِيَ برسول الله صلعم وقد فشا الإسلام بمكَّة وفي القبائل كلِّها، ورواية الوَقَّاصِيِّ أَوْلى مِن رواية مُوسَى بنِ عُقْبَةَ؛ لأنَّهم لا يختلفون أنَّ خَدِيْجَةَ صَلَّتْ معه بعد فرض الصَّلاة عليه، وتوفِّيت قبل الهجرة بأعوامٍ. قال ابنُ إِسْحَاقَ: ثمَّ إنَّ جِبْرِيْلَ أتى النَّبيَّ(9) صلعم حين فُرِضَتِ الصَّلاة عليه في الإسراءِ فَهَمَزَ له بعقبِهِ في ناحيةِ مِنَ الوادي فانفجرَتْ عينُ ماءِ مُزْنٍ، فتَوَضَّأَ جِبْرِيْلُ ومُحَمَّدٌ يَنْظُرُ، فَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلعم، وقد أقرَّ اللهُ عينه، فأَخَذَ بيدِ خَدِيْجَةَ ثمَّ أَتَى بها(10) العين فَتَوَضَّأَ كما توضأ جِبْرِيْلُ، ثمَّ صَلَّى هُوَ وخَدِيْجَةُ رَكْعَتَيْنِ كما صلَّى جِبْرِيْلُ، فهذا يدلُّ أنَّ الإسراء كان قبل الهجرة بأعوامٍ؛ لأنَّ خَدِيْجَةَ قيل: إنَّها توفِّيت قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل: بثلاثٍ. وأمَّا قول ابنِ إِسْحَاقَ: أنَّ جِبْرِيْلَ نزل عليه بالوضوء، فإنَّما أخذه _والله أعلم_ مِن حديث زَيْدِ بنِ حارثةَ، رواه عُقَيْلٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عن عُرْوَةَ عن أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ عن أبيه: ((أَنَّ النَّبيَّ صلعم في أَوَّلِ مَا أُوْحِيَ إليهِ أَتَاهُ جِبْرِيْلُ فَعَلَّمَهُ الوُضُوءَ، فَلَمَا فَرَغَ مِنَ الوُضُوءِ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ(11) فَرْجَهُ)). وقالَ نافعُ بنُ جُبَيْرٍ: ((أَصْبَحَ النَّبيُّ صلعم لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيْلُ حِيْنَ زَاغَتِ الشَّمْسُ فَصَلَّى بِهِ))، ولذلك سُمِّيت: الأولى، وقال جماعةٌ مِن العلماء: لم يكن على النَّبيِّ صلعم صلاةٌ مفروضةٌ قبل الإسراء إلَّا ما كان أُمِرَ به مِن قيام اللَّيل من غير تحديد ركعاتٍ معلوماتٍ، ولا وقتٍ محصورٍ، فكان يقوم أدنى مِن ثلثيه(12) ونصفه وثلثه، وقامه المسلمون معه نحوًا مِن حولٍ حتَّى شَقَّ عليهم، فأنزل الله التَّخفيف عنهم ونسخَه. وقال ابن عَبَّاسٍ: لمَّا نزلت: {يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ}[المزمل:1]كانوا يقومون نحوًا مِن قيامهم في رمضان، حتَّى نزل آخرها، وكان بَيْنَ أَوَّلها وبَيْنَ(13) آخرها حولٌ. وفي حديث الإسراء إعلام فرض الصَّلاة كيف كان، وقد تقدَّم. وإجماع الأمَّة على عدد فرض الصَّلاة وأنَّها خمس صلواتٍ وعددها وركوعها وسُجُودها / غير أبي حنيفةَ فإنَّه شَذَّ وزاد أنَّ الوتر فرضٌ، وليس ذلك في حديث الإسراء، فأدخل البخاريُّ حديث عائشة في هذا الباب ليبينَ أنَّ فرض الصَّلاة كان ركعتين ركعتين، وإن كان السَّلف قد اختلفوا في ذلك، فرُوِيَ عن ابنِ عَبَّاسٍ ونافعِ بنِ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ والحَسَنِ البَصْرِيِّ وابنِ جُرَيْجٍ: أنَّ الصَّلاة فُرِضَتْ في الحضر أربعًا أربعًا(14) وفي السَّفر ركعتين، وأنَّ جِبْرِيْلَ نزلَ صبيحةَ ليلة الإسراء فأقامَ لرسولِ اللهِ صلعم الظُّهْرَ أربعًا، والعصر أربعًا، والعشاء أربعًا(15). وقال مَيْمُونُ(16) بنُ مِهْرَانَ والشَّعْبِيُّ وابنُ إِسْحَاقَ وجمهور العلماء بظاهر حديث عَائِشَةَ: أنَّ الصَّلاة فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ في الحَضَرِ والسَّفَرِ، على أنَّ عائشةَ قد(17) أفتت بخلاف هذا الحديث، فكانت تُتِمُّ في السَّفر، وقد قال بعض من أنكر حديث عائشةَ: أنَّه معارضٌ لكتاب الله ╡، وهو قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوْا مِنَ الصَّلَاةِ}[النِّساء:101]، وهذا يدلُّ أنَّ صلاة السَّفر كانت كاملةً؛ لأنَّه لا يجوز أن يُؤمروا بالقصر إلَّا من شيءٍ تامٍّ قبل القصر، قال: ويدلُّ على هذا(18) ما رواه قَتَادَةُ عن سُلَيْمَانَ اليَشْكُرِيِّ أنَّه سأل جابرَ بنَ عبدِ اللهِ عن إقصار الصَّلاة في الخوف أيُّ يومٍ أُنزل(19)، وأين هو؟ قال: ((انطَلَقْنَا نَتَلَقَّى عِيْرَ قُرَيْشٍ مِنَ الشَّامِ حَتَّى إذا كُنَا بِنَخْلٍ جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللهِ صلعم فقالَ(20): يا مُحَمَّدُ، تَخَافُنِي؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فمَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي، قَالَ: اللهُ، قالَ: فَسَلَّ السَّيفَ فتَهَدَّدَهُ القَوْمُ وأوعدُوهُ، فنَادَى رَسُولُ اللهِ صلعم بالرَّحِيْلِ، وأخذ السَّلاح، ونُوْدِي بالصَّلاةِ، فصَلَّى رَسُولُ اللهِ صلعم بطائفةٍ مِنَ القَوْمِ رَكْعَتَيْنِ، وطائفةٌ مِنَ القَوْمِ(21) يَحْرُسُونَهُمْ، ثمَّ جَاءَ الآخرونَ فصَلَّى بهِمْ رَكْعَتَيْنِ والآخرونَ يَحْرُسُونَهُمْ، فكَانَ للنَّبيِّ صلعم أربعَ ركعاتٍ وللقَوْمِ رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ، فيومئذٍ أَنْزَلَ اللهُ صَلَاةَ الخَوْفِ)). فالجواب(22): أنَّه لا تعارض بين حديث عائشةَ وبين كتاب اللهِ تعالى، وذلك أنَّه يجوز أن يكون فرض الصَّلاة كان ركعتين ركعتين في الحضر والسَّفر كما قالت عائشةُ(23)، فلمَّا زِيْدَ في صلاة الحضر قيل لهم: إذا ضربتم في الأرض فصلُّوا ركعتين(24) مثل الفريضة الأولى، ولا جناح عليكم في ذلك، وقد جاء هذا المعنى بَيِّنًا في حديث عائشةَ، روى داودُ بنُ أبي هِنْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عن عائشةَ قالَتْ: ((أَوَّلُ مَا فُرِضَتِ الصَّلاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فلمَّا قَدِمَ النَّبيُّ(25) صلعم المدينةَ صَلَّى إلى كلِّ صلاةٍ مثلَها غيرَ المَغْرِبِ فإنَّها وِتْرُ صَلاةِ النَّهَارِ، وصلاةُ الصُّبْحِ لطُوْلِ قراءتِهَا، وكانَ إذا سَافَرَ عَادَ إلى صَلاتِهِ الأُوْلَى))، رواه مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عن عُرْوَةَ عن عَائِشَةَ قالَتْ: ((فُرِضَتِ الصَّلاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ هاجَرَ النَّبيُّ صلعم، ففُرِضَتْ أربعًا، وتُرِكَتْ صَلاةُ السَّفَرِ على الأَوْلَى))(26)، هذا المعنى للطَّحَاوِيِّ بل هو في كتاب البخاريِّ الَّذي شرحته بهذا الكتاب في باب: التَّأريخ بعد الهجرة(27) [خ¦3935]. فإن قيل: فقد يكون(28) قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوْا مِنَ الصَّلَاةِ}[النِّساء:101]، بعد إتمام الصَّلاة في الحضر(29) قلت: فما معنى ذكر الجُنَاح في ذلك؟ قيل: المعنى في ذلك _والله أعلم_ أنَّ اللهَ تعالى ذكر قصَّة الصَّلاة في حال الخوف، وسَنَّ النَّبيُّ صلعم مِن الرُّخصة في هيئتها صفةً مفارقةً لجميع صلوات حالَ الأمن، فوضع الله الجناح عن عباده في قصر عددها وتغيير هيئتها، وجعل القصر في السَّفر رفقًا بعباده وتخفيفًا عنهم كما قال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ ☺ ليَعْلَى بنِ أُمَيَّةَ حين قال له: ما لنا نقصر وقد أَمِنَّا؟ قال: تلك صدقةٌ تصدَّق الله عليكم فاقبلوا صدقته.(30) فدلَّ إتمام عائشةَ في السَّفر أنَّ القصر ليس بمعنى الحتم ولا إلزام(31) للمسافر، إذ لو كان كذلك لم يجز أن تُتمَّ في السَّفر، وإنَّما أتمَّت(32) لأنَّها فهمتِ المعنى في ذلك من النَّبيِّ صلعم، ويشهد لصحَّة تأويلها في ذلك قول عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ(33)☺: تلك صدقةٌ تصدَّق اللهُ بها عليكم فاقبلوا صدقته. وقد(34) أجمعت الأمَّة أنَّه لا يلزم المتصدِّق عليه قبول الصَّدقة فرضًا، وسأزيد في(35) هذا الباب بيانًا في أبواب قصر الصَّلاة في السَّفر إن شاء الله تعالى [خ¦1090]. وقال(36) إِسْمَاعِيْلُ بنُ إِسْحَاقَ: وأمَّا(37) حديث قَتَادَةَ عن(38) سُلَيْمَانَ اليَشْكُرِيِّ فهو(39) ضعيفٌ؛ لأنَّ قَتَادَةَ لم يسمع منه شيئًا، وسمعت عليَّ بنَ المدينيِّ يقول: مات سُلَيْمَانُ اليَشْكُرِيِّ قبل جابرِ بنِ عبدِ اللهِ، وإنَّما كانت صحيفةً فكان قَتَادَةَ وغيره يحدِّثون بما وجدوا فيها. وقد رُوِيَ عن جابرٍ خلاف حديث سُلَيْمَانَ اليَشكُرِيِّ، روى شُعْبَةُ عنِ الحَكَمِ عن يَزِيْدَ الفَقِيْرِ عن جابرٍ قالَ: ((صَلَّيْنَا مَعَ النَّبيِّ(40) صلعم صَلَاةَ الخَوْفِ فَرَكَعَ بالصَّفِ المُقَدَّمِ / رَكْعَةً وسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثمَّ تَأَخَرُوا وتَقَدَّمَ(41) الآخَرُونَ فَرَكَعَ بِهِمْ رَكْعَةً وَاحِدَةً وسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، فَصَارَ للنَّبيِّ صلعم رَكْعَتَيْنِ والنَّاسُ(42) رَكْعَةً رَكْعَةً(43)))، فهذا معارضٌ لحديث اليَشْكُرِيِّ. قال المُهَلَّبُ: وقوله في حديث الإسراء: ((فَفَرَجَ صَدْرِي ثمَّ غَسَلَهُ، ثمَّ جَاءَ بِطِسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلَئٍ حِكْمَةً وإيمانًا فأَفْرَغَهُ في صَدْرِي)). فيه من الفِقْهِ: أنَّ أمور الله تعالى المعظَّمة لا بأس بتحليَّتِها واستعمال الذَّهب والفضَّة فيها بخلاف سائر أمور الدُّنيا الَّتي نُهِي عن استعمال الذَّهب والفضَّة فيها من أجل السَّرف(44)، ألا ترى أنَّه أبيح تحلية المصحف الَّذي فيه(45) كلام الله ╡ كما جاءه جِبْرِيْلُ بالحكمة والإيمان من عند الله ╡ في(46) طستٍ من ذهبٍ، وذكر أبو عُبَيْدٍ في كتاب «فضائل القرآن» باب: تزيين المصاحف وحليتها بالذَّهب والفضَّة، وقال عليُّ بنُ أبي(47) وائلٍ(48): كان ابنُ مَسْعُودٍ إذا مُرَّ عليه بمصحفٍ وقد(49) زُيِّنَ بالذَّهب، قال: إنَّ أحسن ما زُيِّنَ به المصحف تلاوته(50).
          وعن ابنِ عَبَّاسٍ أنَّه كان إذا رأى المصحف قد فُضِّضَ أو أُذْهِبَ(51) قال: تُغْرُون(52) به السَّارق، وزينته في جوفه، وأجاز ابنُ سِيرِينَ تزيين المصحف وتحليته، وكذلك أبيح حلية(53) السَّيف الَّذي هو من أمر الله تعالى وسلطانه على من كفر به، والخاتم الَّذي(54) يطبع به عهود الله وعهود رسله النَّافذة إلى أقطار الأرض بالدِّين، وما سوى ذلك من متاع الدنيا فممنوع من التَّحلية(55) غير حُلِيِّ النِّساء والمباح(56) لهن ليتزيَّنَّ به للرِّجَال. وفيه: أنَّ أرواح المؤمنين يُصعد بها إلى السَّماء؛ ألا ترى أنَّه وجد آدم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء في السَّماء. وقوله في آدم: ((عَنْ يَمِيْنِهِ أَسْوِدَةٌ وعَنْ يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، فإذَا نَظَرَ عَنْ يَمِيْنِهِ ضَحِكَ، وإذَا نَظَرَ عَنْ شِمَالِهِ بَكَى))، فيه دليلٌ على أنَّ أعمال بني آدم الصَّالحة تَسُرُّ أباهم آدم ◙، وأنَّ أعمالهم السَّيِّئة تسوؤه وتحزنه. وفيه: دليلٌ أنَّه يحب أن يرحبَ بكلِّ أحدٍ من النَّاس في حُسْنِ لقائه بأكرم المنازل وأقرب القرابة، ألا ترى أنَّه لمَّا(57) كان مُحَمَّدٌ صلعم من ذريَّته قال:(58) مرحبًا بالابنِ الصَّالحِ، ومن كان من غير ذريته قال له: مرحبًا بالأخِ الصَّالحِ، فكذلك يُحَبُّ أن يُلاقَى المرءُ بأحسن صفاته وأعمَّها بجميل(59) الثَّناء عليه، ألا ترى أنَّ كلَّهم قال له: ((الصَّالح)) لشمول الصَّلاح على سائر الخلال الممدوحة من الصِّدق والأمانة والعفاف والصِّلة والفضل، ولم يقل(60) أحدٌ: مرحبًا بالنَّبيِّ الصَّادق الأمين(61) وما شاكله، لشمول الصَّلاح وعمومه لسائر(62) خلال الخير. وفيه: دليلٌ أنَّ أوامر الله تعالى تُكْتَبُ بأقلامٍ شتَّى، لقوله: ((أَسْمَعُ صَرِيْفَ الأَقْلَامِ))، ففي هذا أنَّ العلم ينبغي أن يُكْتَبَ بأقلامٍ كثيرةٍ، تلك سُنَّةٌ في سماواته فكيف في أرضه؟. وقوله: ((لَا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدِيَّ))، يعني: ما قضاه وأحكمه من آثارٍ معلومةٍ وآجالٍ مكتوبةٍ وأرزاقٍ معدودةٍ، وشبه ذلك مما لا يبدَّل(63) لديه، وأمَّا ما نسخه(64) تعالى رفقًا بعباده فهو الَّذي قال فيه تعالى: {يَمْحُو الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ}[الرَّعد:39]. وفيه: جواز النَّسخ قبل الفعل؛ ألا ترى أنَّه ╡ نسخ الخمسين صلاةً قبل أن تُصَلَّى بخمس صلواتٍ تخفيفًا عن عباده، ثمَّ تفضَّل عليهم بأن جعل ثواب الخمس صلوات كثواب الخمسين، إذ(65) جعل الحسنة عشرًا. وفيه: جواز الاستشفاع والمراجعة في الشَّفاعة مرَّةً بعد أخرى. وفيه: الاستحياء من التَّكثير في الحوائج خشية الضَّعف عن القيام بشكرها. وفيه: دليلٌ أنَّ الجنَّة في السَّماء.
          وقوله(66): (ودَخَلْتُ الجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا حَبَايِلُ اللُّؤْلُؤِ)، هو تصحيفٌ _والله أعلم_ والصَّواب: (جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ)، كذلك فسَّره ثابتٌ عن ابنِ السِّكِّيْتِ، وقال: الجَنْبَذَةُ والجُنْبُذَةُ ما ارتفع من البناء، وبهذا(67) اتَّضح معنى اللَّفظة؛ لأنَّه ◙ إنَّما وصف أرض الجنَّة وبنيانها، فقال: ترابها مسكٌ وبنيانها لُؤْلُؤٌ وقد ذكر البخاريُّ هذه اللَّفظة في كتاب الأنبياء عن عَنْبَسَةَ عن يُونُسَ(68) عن ابنِ شِهَابٍ، كما فَسَّرَها أهل اللُّغة: (جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ)، وإنَّما جاء الغلط فيها _والله أعلم_ من قبل اللَّيْثِ(69) عن يُونُسَ، وقد ذكر الطَّبَرِيُّ هذا المعنى مبيَّنًا في بعض طرق حديث الإسراء من طريق مَيْمُونَ بنِ سِيَاهٍ عن أَنَسٍ قالَ فيهِ: ((ثمَّ انطَلَقَ بِهِ إلى بَابِ الجَنَّةِ فإذَا هُوَ بِنَهْرٍ هُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وأَحَلَى مِنَ العَسَلِ بِجَنْبَتَيْهِ قِبَابُ الدُّرِ، قَالَ: مَا هذا يَا جِبْرِيْلُ؟ قَالَ: هذا الكَوْثَرُ الَّذي أَعْطَاكَ اللهُ وهذِهِ مساكنك، وأَخَذَ جِبْرِيْلُ بِيَدِهِ مِنْ تُرْبَتِهِ فإذَا هُوَ مِسْكٌ أَذْفَرٌ)) وذكر الحديث. روى(70) الأَصِيْلِيُّ بإسنادِهِ / عن مُحَمَّدِ بنِ العَلَاءِ الأَيْلِيِّ عن يُونُسَ الأَيْلِيِّ عن الزُّهْرِيِّ وقالَ فيهِ: ((دَخَلْتُ الجَنَّةَ فَرَأَيْتُ فيها جَنَابِذَ مِنَ اللُّؤْلُؤِ، وتُرَابُهَا المِسْكُ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هذا يَا جِبْرِيْلُ؟ قَالَ: للمُؤَذِّنِيْنَ والأَئِمَّةَ مِنْ أُمَّتِكَ)). وقوله: (عَنْ يَسَارِهِ(71) أَسَاوِدَ(72)) فهو(73) جمع سَوَادٍ، والسَّواد الشَّخص كما قال الشَّاعر:
يُغْشَوْنَ حَتَّى مَا تَهِـرُّ كِلَابُهُـْم                      لَا يَسْأَلُوْنَ عَنِ السَّوَادِ المُقْبِلِ


[1] زاد في (م): ((باب)).
[2] في (ص): ((كيف فرضت قال)).
[3] قوله: ((ابن عبَّاس حدَّثني)) ليس في (م).
[4] قوله: ((فلما جئت إلى السَّماء الدُّنيا، الحديث)) ليس في (م).
[5] في المطبوع: ((فرجعت)).
[6] في المطبوع و(ص): ((هنَّ)).
[7] في (م): ((فَفَرَضَ اللهُ على أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلاةً، فَقال لي مُوسَى: ارْجِعْ إلى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَجَعْتُ، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فقال موسى: راجعْ رَبَّكَ، فراجعه مرَّة بعد أخرى، حتَّى ردَّها إلى خمس، قَالَ: هي خَمْسٌ)).
[8] في (م): ((الاختلاف)).
[9] في (ص): ((الرسول)).
[10] في (م): ((خديجة فجاء بها)).
[11] زاد في (م) والمطبوع و(ص): ((فنضح)).
[12] في (م): ((من ثلثي اللَّيل)).
[13] قوله ((بين)) ليس في المطبوع و(م) و(ض).
[14] قوله ((أربعًا)) ليس في المطبوع و(م).
[15] في (م): ((والعصر والعشاء أربعًا أربعًا)).
[16] زاد في (ص): ((ابن ميمون)).
[17] قوله: ((قد)) ليس في (ص).
[18] في (م): ((ذلك)).
[19] في (م): ((نزل)).
[20] في (ص): ((قال)).
[21] قوله: ((من القوم)) ليس في (م).
[22] في (م): ((وقال الطَّحاويُّ: فالجواب)).
[23] في (م): ((لعائشة)).
[24] في (م): ((فصلُّوا ركعتين ركعتين)).
[25] في (ص): ((الرسول)).
[26] زاد في (ص): ((وجدت)).
[27] قوله: ((هذا المعنى للطَّحاويِّ بل هو في كتاب البخاريِّ الَّذي شرحته بهذا الكتاب في باب: التَّأريخ بعد الهجرة)) ليس في (م).
[28] في (م): ((فقد يجوز أن يكون)).
[29] زاد في (م): ((كما)).
[30] زاد في (م): ((قال غيره)).
[31] في (م): ((والإلزام)).
[32] في (م): ((تمَّت)).
[33] قوله: ((ابن الخطَّاب)) ليس في (م) و(ص).
[34] في (ص): ((قد)).
[35] قوله: ((في)) ليس في (م).
[36] في المطبوع و(ص): ((قال)).
[37] قوله: ((وأمَّا)) ليس في (م).
[38] قوله: ((قتادة عن)) ليس في (م).
[39] قوله: ((فهو)) ليس في (م).
[40] في (ص): ((الرسول)).
[41] في (م): ((ثمَّ تقدَّم)).
[42] في (م): ((وللنَّاس)).
[43] قوله ((وسجد سجدتين، فصار للنَّبيِّ صلعم ركعتين والنَّاس ركعة ركعة)) ليس في (م).
[44] في (م): ((الشَّرف)).
[45] في (م): ((هو)).
[46] في المطبوع: ((من)).
[47] في المطبوع: ((وقال الأعمش عن أبي)).
[48] في (م): ((وقال عن أبي)).
[49] في (م): ((قد)).
[50] زاد في (م): ((بالحقِّ)).
[51] في (م): ((ذُهِّب)).
[52] في (م): ((أتغرون)).
[53] في (م): ((تحلية)).
[54] في (م): ((وأبيح خاتم الفضَّة لما يطبع)).
[55] في (م): ((الحلية)).
[56] في (م): ((المباح)).
[57] في (م): ((أن من)).
[58] زاد في (م): ((له)).
[59] في (م): ((لجميل)).
[60] زاد في (م): ((له)).
[61] في (م): ((أو الأمين)).
[62] في (م): ((سائر)).
[63] زاد في (م): ((القول)).
[64] زاد في (م): ((الله)).
[65] في المطبوع: ((أو)).
[66] في المطبوع: ((وفيه)).
[67] في (م): ((وعلى هذا)).
[68] قوله: ((عن يونس)) ليس في (م).
[69] زاد في (م): ((ابن سعد)).
[70] في المطبوع و(م): ((وروى)).
[71] في (م): ((وعن يمينه)).
[72] في المطبوع و(م) و(ص): ((أسودة)).
[73] في (ص): ((هن)).