شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يستر من العورة

          ░10▒ بَابُ: مَا يَسْتُرُ مِنَ العَوْرَةِ.
          فيهِ: أبو سَعِيدٍ وأَبُو هُرَيْرَةَ: (أَنَّ النَّبيَّ(1) صلعم نَهَى عَنِ(2) اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ، وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، لَيْسَ على فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ). [خ¦367]
          وفيهِ: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: (بَعَثَنِي النَّبيُّ(3) صلعم(4) نُؤَذِّنُ(5) يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى: أَنْ لا يَطُوفَ بِالبَيْتِ عُرْيَانٌ). [خ¦369]
          قال أبو عُبَيْدٍ: اشتمال الصَّمَّاء عند العرب: أن يشتملَ الرَّجُلُ بثوبٍ فيُجَلِّلَ به جسدَهُ كلَّهُ، ولا يرفع منه جانبًا فيُخْرِجُ منه يدَه، قال: وربَّما اضطجع فيه على هذه الحكاية(6)، كأنَّه يذهبُ إلى أنَّه لا يدري هل(7) يصيبه شيءٌ يريدُ الاحتراسَ منه والاتِّقاء بيديه، فلا يقدر لإدخالهما في ثيابه، فهذا كلام العرب، وأمَّا تفسير(8) الفقهاء فهو عندهم مثل الاضطباع، وهو أنْ يشتملَ بثوبٍ واحدٍ ليس عليه غيره، ويرفعه(9) مِن أحدِ(10) جانبَيه، فيضعه على منكبيه، فيبدو منه فَرْجُهُ. إلَّا أنَّ الاضطباعَ أن يدخلَ الثَّوبَ تحت يده اليمنى، ويبرزَ منكبَهُ الأيمن، وقد ذكر البخاريُّ في كتاب اللِّباس [خ¦5822] في حديث أبي هريرةَ وأبي سَعِيدٍ(11) عنِ النَّبيِّ صلعم تفسيرَ اشتمال الصَّمَّاء والاحتباء؛ قالَ: الصَّمَّاء أنْ يَجْعَلَ ثَوْبَهُ على أحدِ عاتِقَيْهِ فيبدو أَحَدُ شِقَّيه ليس عليه ثَوْبٌ، وهو نحو ما حكاه أبو عُبَيْدٍ عنِ الفقهاء، واختلف قول مالكٍ في اشتمال الصَّمَّاء إذا كان تحتها ثَوْبٌ، فمَرَّةً أجازها ومَرَّةً كرهها.
          والاحتِبَاءُ: هوَ أنْ يَحْتَزِمَ بالثَّوبِ على حَقَوَيهِ ورُكْبَتَيهِ وفَرْجَهُ بادٍ، كانَتِ العربُ تفعلُهُ؛ لأنَّه أرفقُ لها في جلوسها، وفي حديث أبي سَعِيدٍ وأبي هريرةَ في اللِّباسِ قالَ: / الاحتباءُ أنْ يَحْتَبِيَ بثَوْبٍ(12) وهو جالسٌ(13) ليسَ على فَرْجِهِ منهُ شيءٌ. وقالَ الخَطَّابيُّ: الاحتباءُ أنْ يَجْمَعَ ظَهْرَهُ ورِجْلَيهِ بثَوْبٍ، يُقَالُ: العَمَائِمُ تِيْجَانُ العَرَبِ، والحُباء حِيْطَانُهَا، يُقَالُ: حِبْوَةٌ وحُبْوَةٌ والكسرُ أَعْلَى. والاحتباءُ على ثوبٍ جائزٌ؛ لأنَّ رَسُولُ اللهِ صلعم إنَّما نهى عنه إذا كان كاشِفًا عن فَرْجِهِ. وكرهَ الصَّلاةَ مُحْتَبِيًا: ابنُ سِيرِينَ، وأجازها الحَسَنُ والنَّخَعِيُّ وعُرْوَةُ وسَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ وعُبَيْدُ بنُ عُمَيْرٍ، وكان سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ يُصَلِّي مُحْتَبِيًا، فإذا أرادَ أنْ يركعَ حَلَّ حبوته ثمَّ قَامَ ورَكَعَ، وصَلَّى التَّطوُّعَ محتبيًا عَطَاءٌ، وعُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ. واختلف العلماء في حَدِّ العَوْرَةِ، فقالت طائفةٌ: لا عورة منَ الرَّجُلِ(14) إلَّا القُبُلَ والدُّبُرَ، هذا قول ابن أبي ذئبٍ وأهلِ الظَّاهرِ، وعندَ مالكٍ حَدُّ العَوْرَةِ: ما بين السُّرَّةِ إلى الرُّكْبَةِ وهو قول أبي حنيفةَ والأوزاعيِّ(15) والشَّافعيِّ وأبي ثَوْرٍ وليست السُّرَّةُ ولا(16) الرُّكْبَةُ(17) عندهم بعَوْرَةٍ غير أبي حنيفةَ، فإنَّ الرُّكْبَةَ عنده عَوْرَةٌ، وهو قول عَطَاءٍ وأحمدَ(18)، وعند بعض أصحاب الشَّافعيِّ: السُّرَّةُ عَوْرَةٌ.
          وجه(19) القول الأوَّل: نهيه صلعم عن اشتمال الصَّمَّاءِ، وأن يَحتَبِيَ في ثَوْبٍ واحدٍ ليس على فَرْجِهِ منه شيءٌ، وقوله تعالى(20): {قَد(21) أَنْزَلْنَا عَلَيْكُم لِبَاسًا يُوَارِي سَوءَاتِكُمْ}[الأعراف:26]، وقال تعالى: {فَبَدَتْ(22) لَهُمَا سَوءَاتُهُمَا}[الأعراف:22]، وقال: {يُوَارِي(23) سَوْءَةَ أَخِيْهِ}[المائدة:31]، فدلَّ أنَّه لا عَوْرَةَ غير السَّوْءَةِ. وحُجَّةُ مَن قال: ما بين السُّرَّةِ إلى الرُّكْبَةِ عَوْرَةٌ، قوله صلعم لجَرْهَدٍ(24): ((الفَخِذُ عَوْرَةٌ))، ومنعهم مِن كشف الفَخِذِ(25) كمنعهم من الرَّعي حول الحِمَى. وحُجَّةُ مِن قال: إنَّ السُّرَّةَ ليست بعَوْرَةٍ أنَّ النَّبيَّ صلعم قَبَّلَ سُرَّةَ الحَسَنِ بنِ عليٍّ، وأنَّ أبا هريرةَ سأل الحَسَنَ كشف سُرَّتِهِ فقَبَّلَها، وقال: أُقَبِّلُ مِنْكَ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يُقَبِّلُهُ(26)، ولو كانَتْ عَوْرَةً ما قَبَّلَها أبو هريرةَ ولا مَكَّنَهُ الحَسَنُ منها، وقال الآخرون: ليس هذا بحُجَّةٍ؛ لأنَّ عَوْرَاتِ الصِّبْيَانِ ليست بمحرمةٍ؛ لأنَّه لا يلزمهم الأحكام والحُدُود(27).


[1] في (ص): ((الرسول)).
[2] في (م): ((وأبو هريرة نهى رسول الله صلعم عن)).
[3] في (ص): ((الرسول)).
[4] في مطبوع البخاري: ((أبو بَكْرٍ ☺)).
[5] في (م): ((أن أؤذن))، وفي مطبوع صحيح البخاري: ((فيمن يؤذن)).
[6] في المطبوع: ((الحال)).
[7] في المطبوع: ((لعلَّه)).
[8] قوله: ((تفسير)) ليس في (م).
[9] في (م): ((ليس غيره يرفعه)).
[10] في (ص): ((إحدى)).
[11] في (م): ((أبي سَعِيدٍ وأبي هريرة)).
[12] في المطبوع و(ص): ((يحتبي في ثوب)).
[13] قوله: ((وفي حديث أبي سعيد، وأبي هريرة)) ليس في (م)، وفي (م): ((أرفق لها في جلوسها، وبنحو هذا فسِّر في كتاب اللِّباس، قال هو أن يحتبي بثوبه وهو جالس)).
[14] في المطبوع و(ص): ((الرِّجال)).
[15] في (م): ((وهو قول الأوزاعيِّ وأبي حنيفةَ)).
[16] قوله: ((لا)) ليس في (م).
[17] في (ص): ((السرة والركبة)).
[18] قوله: ((وأحمد)) ليس في (م).
[19] في (م): ((وحجَّة)).
[20] في (م): ((منه شيء، واحتجُّوا بقوله تعالى)).
[21] في (م): ((و)).
[22] في (ص): ((بدت)).
[23] في (م) و(ص): ((ليواري)).
[24] صورتها في (ز) و(ص): ((لجرهدا)).
[25] زاد في (ص): ((جميعه)).
[26] في (م): ((يقبِّل)).
[27] قوله: ((وقال الآخرون: ليس هذا بحجَّة؛ لأنَّ عورات الصِّبيان ليست بمحرمة؛ لأنَّه لا يلزمهم الأحكام والحدود)) ليس في (م).