شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}

          ░30▒ بَابُ: قَوْلِهِ ╡: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}[البقرة:125] / فيهِ: ابنُ عُمَرَ: (أنَّ النَّبِيُّ صلعم قَدِمَ إلى البَيْتِ فطَافَ بِهِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ المَقَامِ رَكْعَتَيْنِ). [خ¦395] [خ¦396]
          وفيهِ: أنَّ بلالًا قَالَ: (صَلَّى النَّبِيُّ صلعم رَكْعَتَيْنِ فِي الكَعْبَةِ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ على يَسَارِهِ إِذَا دَخَلْتَ، ثمَّ خَرَجَ فَصَلَّى فِي وَجْهِ الكَعْبَةِ رَكْعَتَيْنِ). [خ¦397]
          وفيهِ: ابنُ عَبَّاسٍ: (لَمَّا دَخَلَ النَّبيُّ(1) صلعم البَيْتَ دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا وَلَمْ يُصَلِّ، حتَّى خَرَجَ مِنْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي قُبُلِ الكَعْبَةِ وَقَالَ: هَذِهِ القِبْلَةُ). [خ¦398]
          اختلف أهل التأويل في قوله(2): {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}[البقرة:125]، فقال ابن عبَّاسٍ: الحجُّ كلُّه مقامُ إبراهيمَ، وقال مجاهدٌ: الحَرَمُ كلُّه مقامُ إبراهيمَ، وقال عَطَاءٌ: مقامُ إبراهيمَ: عَرَفَةُ والمزدلفةُ والجِدارُ(3) والجِمارُ(4)، وقال السُّدِيُّ: هو الحِجرُ بعينهِ(5) الَّذي وقفَ عليهِ إبراهيمُ.
          واختلفوا في قوله: {مُصَلًّى}، فقال مجاهدٌ(6): مَدْعَى، كأنَّه أخذَه من صَلِّيت بمعنى دعوت، وقال الحَسَنُ: قِبْلَةٌ، وقال السُّدِيُّ وقَتَادَةُ(7): أُمِرُوا أن يُصَلُّوا عنده.
          قال الطَّحَاوِيُّ: ولما اختلفوا في تأويل هذه الآية، واختلفت الآثار في صلاته صلعم، فروى ابنُ عُمَرَ أنَّه صلعم صَلَّى عند المقام ركعتين، وقال بلالٌ: إنَّه صَلَّى في الكَعْبَةِ ثمَّ خَرَجَ فصَلَّى في وَجْهِ الكَعْبَةِ رَكْعَتَيْنِ، وقال ابنُ عبَّاسٍ: إنَّه صَلَّى(8) رَكْعَتَيْنِ في قُبُلِ الكَعْبَةِ، وقالَ: هذه القِبْلَةُ، أردنا أن نعلم الصَّحيحَ مِن ذلك، فوجدنا ابنَ عَبَّاسٍ قال: الحجُّ(9) كلُّه مقامُ إبراهيمَ، وقال مجاهدٌ: الحَرَمُ كلُّه، ووجدنا مَن صَلَّى إلى الكعبة مِن الجهات الثلاث الَّتي لا تُقابل مقام إبراهيمَ، فقد أدَّى فرضه عَلِمْنَا أنَّ الفرض في القِبْلَةِ إنَّما هو البيت لا مقام إبراهيمَ، ويشهد لذلك قول ابنِ عَبَّاسٍ أنَّه صَلَّى حين صَلَّى خارجَ البيتِ(10) قُبُلِ الكعبةِ، وقال: هذِهِ القِبْلَةُ، لم يستقبلِ المقامَ، وكذلك حين صَلَّى في البيت على ما رواه بلالٌ لم يستقبلِ المقامَ، وإنَّما يكون المقامُ قِبْلَةً إذا جعلَه(11) المُصَلِّي بينه وبين القِبْلَةِ على ما جاء في حديث ابن عُمَرَ، وأجمع العلماء أنَّ الكعبة كلَّها قبلةٌ مِن أي ناحية استُقْبِلَتْ.
          وأمَّا اختلاف الآثار أنَّه صلعم صَلَّى في البيتِ وأنَّه لم يُصَلِّ، فالآثار أنَّه صَلَّى أكثر، ولو تساوت في الكثرة لكان الأخذ بالمُثْبِتِ أَوْلى مِن النَّافي على ما يقوله العلماء في الشَّهادات.
          فقد روى أنَّه صلعم صَلَّى في البيتِ غيرَ بلالٍ جماعةٌ منهم: أُسَامَةُ بنُ زيدٍ وعُمَرُ بنُ الخَطَّابِ وجابرٌ وشَيْبَةُ بنُ عُثْمَانَ وعُثْمَانُ بنُ طَلْحَةِ من طُرُقٍ حِسَانٍ ذكرها الطَّحَاوِيُّ كلَّها(12) في «شرح معاني الآثار».
          وقالَ(13) المُهَلَّبُ: ويحتمل أن يكون صلعم دَخَلَ البيتَ مَرَّتَيْنِ، فالمرَّةُ الواحدةُ صَلَّى فيه، والمرَّةُ الأُخرَى(14) دعا ولم يُصَلِّ، فلم تتضادَّ الأخبار في ذلك.
          وقد اختلف العلماء في الصَّلاة في البيتِ وعلى ظهرِ الكعبةِ، فقال أبو حنيفةَ والشَّافعيُّ: يُصَلِّي فيه الفريضةَ والنَّافلةَ، وقال مالكٌ: لا يُصَلِّي فيه الفريضةَ ولا ركعتي الطَّواف الواجب، فإنْ صَلَّى أعاد في الوقت، ويجوز أن يُصَلِّي فيه النَّافلةَ، وقال(15) الطَّبَرِيُّ: لا تُصَلَّى فيه فريضةٌ ولا نافلةٌ، وحُجَّة مالكٍ قوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ}[البقرة:144]، وهي قُبَالَتَهُ، ومَن صَلَّى في جوف الكعبةِ لم يقابل شطرها؛ لأنَّه يحصل مستقبلًا للبعض مستدبرًا للبعض ولا تحصل كلُّها(16) قُبَالَتَهُ إلَّا أن يكون خارجًا منها.
          وحُجَّة أبي حنيفةَ والشَّافعيِّ أنَّه مَن صَلَّى خارجًا منها، فإنَّه يستقبل بعضها، وصلاته جائزةٌ بإجماعٍ؛ لأنَّ ما عن يمين ما استقبل مِن البيت وما عن يساره ليس هو مستقبله، فلم يتعبد باستقبال كلِّ(17) جهاته، فكان النَّظر على ذلك أنَّ(18) مَن صَلَّى فيه فقد استقبل إحدى جهاته وترك غيرها، وما ترك من ذلك فهو في حُكْمِ ما كان(19) عن يمينه وشماله إذا كان خارجًا منه، فثبت قول مَن أجاز الصَّلاة فيها(20)، هذا قول أبي جعفرٍ الطَّحَاوِيِّ(21).


[1] في (ص): ((الرسول)).
[2] زاد في (م): ((تعالى)).
[3] قوله: ((والجدار)) ليس في (م).
[4] زاد في المطبوع و(ص): ((في أخرى)).
[5] في (م): ((نفسه)).
[6] قوله: ((فقال مجاهد)) ليس في (م).
[7] في المطبوع و(م) و(ص): ((قتادة والسُّديُّ)).
[8] زاد في (م): ((◙)).
[9] في (ص): ((الحجر)) وكتب في الحاشية: ((نسخة: الحج)).
[10] في (م): ((أنَّه ◙ حين صَلَّى خارج البيت)).
[11] في (م): ((جعل)).
[12] قوله: ((كلَّها)) ليس في (م).
[13] في (م) و(ص): ((قال)).
[14] في (م): ((الآخرة)).
[15] في (ص): ((قال)).
[16] قوله: ((كلَّها)) ليس في (م).
[17] في (م): ((جميع)).
[18] زاد في المطبوع و(ص): ((كلَّ)).
[19] قوله: ((كان)) ليس في (م).
[20] في (ص): ((في)).
[21] في (م): ((من أجاز الصَّلاة في البيت، قاله الطَّحاويُّ)).