شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد

          ░48▒ بَابُ: هَلْ تُنْبَشُ(1) قُبُورُ مُشْرِكِي الجَاهِلِيَّةِ، وَيُتَّخَذُ مَكَانُهَا مَسَاجِدَ.
          لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلعم(2): (لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ) وَمَا يُكْرَهُ مِنَ الصَّلاةِ فِي القُبُورِ.
          وَرَأى عُمَرُ أَنَسَ بنَ مَالِكٍ يُصَلِّي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: (القَبْرَ، القَبْرَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالإعَادَةِ).
          فيهِ: عَائِشَةُ: أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا(3) بِالحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَذَكَرَتَا ذلكَ لِلنَّبِيِّ صلعم فَقَالَ: (إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ، بَنَوْا على قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ(4) الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ(5) شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ). [خ¦427]
          وفيهِ: أَنَسٌ قَالَ: قَدِمَ النَّبيُّ(6) صلعم المَدِينَةَ، فَنَزَلَ أَعلى المَدِينَةِ فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو عَمْرِو بنِ عَوْفٍ، فَأَقَامَ النَّبيُّ صلعم(7) فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثمَّ أَرْسَلَ إلى بَنِي النَّجَّارِ، فَجَاؤُوا مُتَقَلِّدِين السُّيُوفِ، فكَأَنِّي أَنْظُرُ إلى نبِيِّ اللهِ على رَاحِلَتِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ رِدْفُهُ، وَمَلَأُ(8) بَنِي النَّجَّارِ حَوْلَهُ(9)، حتَّى أَلْقَى بِفِنَاءِ أَبِي أَيُّوبَ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُصَلِّيَ، حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ، وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الغَنَمِ، وَإنَّهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ، فَأَرْسَلَ إلى مَلَأِ بَنِي النَّجَّارِ(10)، فَقَالَ: يَا بَنِي النَّجَّارِ، ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا، قَالُوا: لَا، وَاللهِ لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إلى(11) اللهِ ╡، قَالَ أَنَسٌ: فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ(12) قُبُورُ المُشْرِكِينَ، وَ(13) فِيهِ(14) خَرِبٌ ونَخْلٌ، فَأَمَرَ النَّبيُّ(15) صلعم بِقُبُورِ المُشْرِكِينَ / فَنُبِشَتْ، ثمَّ بِالخَرِبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، فَصَفُّوا(16) النَّخْلَ قِبْلَةَ المَسْجِدِ، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الحِجَارَةَ، وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ، وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ، والنَّبيُّ(17) صلعم مَعَهُمْ، وَهُوَ يَقُولُ:
اللَّهُمَّ لا خَيْرَ إِلا خَيْـرُ الآخِرَهْ                      فَاغْفِرْ لِلأنْصَارِ وَالمُهَاجِـرَة(18). [خ¦428]
          قالَ المُؤَلِّفُ: أمَّا نبش قبور المشركين ليُتَّخَذَ مكانها مساجدٌ، فلم أجدْ فيه نصًّا لأحدٍ مِن العلماء، غير أنَّي وجدتُ اختلافهم في نبش قبورهم طلبًا للمال، فأجاز ذلك الكوفيُّون والشَّافعيُّ وقال الأوزاعيُّ: لا يفعل؛ لأنَّ النَّبيَّ صلعم لما مرَّ(19) بالحِجر قال: ((لَا تَدْخُلُوا بُيُوْتَ الَّذِينَ ظَلَمُوا إلَّا أَنْ تَكُوْنُوا بَاكِيْنَ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيْبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ))، فنَهى أن ندخل عليهم بيوتهم فكيف قبورهم.
          قال الطَّحَاوِيُّ: وقد أباح دُخُولها على وجه البُكاءِ، واحتجَّ مَن أجاز ذلك بحديث أَنَسٍ أنَّ النَّبيَّ صلعم أمر بقبور المشركين، فنُبشت عند بناء المسجد.
          قال الطَّحَاوِيُّ: واحتجَّ مَن أجاز ذلك أنَّ النَّبيَّ صلعم لما خرج إلى الطَّائف قال: ((هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ)) وهو أبو ثَقِيْفٍ، وكان مِن ثَمُودَ وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج أصابته النَّقمة بهذا المكان، وآية ذلك أنَّه دُفن معه غصنٌ مِن ذهبٍ، فابتدره النَّاس ونبشوه، واستخرجوا منه الغصن، وإذا جاز نبشها لطلب المال، فنبشها للانتفاع بمواضعها لبناء مسجدٍ أو غيره أَوْلى.
          فإن قيل: فهل يجوز أن يُبنى المسجد على قبور المسلمين؟ وهل يدخل ذلك في معنى لعنة اليهود لاتِّخاذهم قبور أنبيائهم مساجد؟ قيل: لا يدخل في ذلك لافتراق المعنى؛ وذلك أنَّه صلعم أخبر أنَّ اليهود(20) يتَّخذون قبور أنبيائهم مساجد ويقصدونها بعبادتهم، وقد نسخ الله جميع المعبودات بالإسلام والتَّوحيد، وأمر بعبادته(21) لا شريك له(22).
          قال غيره(23): والقبور الَّتي أمر النَّبيُّ صلعم بنبشها لبناء المسجد كانت قبورًا لا حرمة لأهلها؛ لأنَّ العرب هنالك(24) لم يكونوا أهل كتابٍ، فلم يكن لعظامهم حرمةٌ، ولو كانوا أهل كتابٍ لا(25) تُنبش؛ لأنَّهم ماتوا قبل الإسلام فهم على أديان أنبيائهم لهم حرمة الإيمان بأنبيائهم، وهم والمسلمون سواءٌ، وكذلك أهل الذِّمَّة اليوم مِن اليهود والنَّصارى، لا يجوز نبش قبورهم لاتِّخاذ مسجدٍ ولا غيره، فإن لم يكونوا أهل ذِمَّةٍ وكانوا أهل حربٍ(26) واحتيج إلى موضع قبورهم، فلا بأس بنبشها إن كانت قُبرت بعد الإسلام، وإن كانت قديمةً قبل الإسلام فلا يجوز ذلك لما قلنا إنَّ لهم حرمة الإسلام(27) بأنبيائهم، إلَّا أن يُعلم أنَّهم لم يكونوا أهل كتابٍ.
          وأجاز أكثر الفقهاء نبشَ قبور المشركين طلبًا للمال، وهذا قول أَشْهَبَ(28) وقال: ليس حُرمتهم موتى بأعظم منها أحياءً، وهو مأجورٌ في فعل ذلك بالأحياء منهم، وقال مالكٌ في «المدوَّنة»: أكرهه وليس بحرامٍ.(29)
          وقال ابنُ القاسمِ: لو أنَّ مقبرةً مِن مقابر المسلمين عَفَتْ، فبنى قومٌ عليها مسجدًا لم أرَ بذلك بأسًا، وكذلك ما كان لله تعالى لا بأس أن يُستعان ببعضه على بعضٍ، ويُنقل بعضه إلى بعضٍ(30)، فمعناه أنَّ المقابر هي وقفٌ مِن أوقاف المسلمين لدفن موتاهم لا يجوز لأحدٍ تملُّكها، فإذا عفت ودثرت واستُغني عن الدَّفن فيها جاز صرفها إلى المسجد؛ لأنَّ المسجد أيضًا وقف مِن أوقاف المسلمين لا يجوز تملُّكه لأحدٍ كما لا يجوز تملُّك المقبرة فنقلها إذا دثرت إلى المسجد معناهما واحدٌ في الحُكْمِ.
          وقوله: (فأولَئِكَ(31) شِرَارُ الخَلَقِ عندَ اللهِ) فيه نهيٌ عن اتِّخاذ القُبُور مساجد، وعن فعل التَّصاوير.
          قال المُهَلَّبُ: وإنَّما نُهِيَ عن(32) ذلك _والله أعلم_ قطعًا للذريعة ولقرب عبادتهم الأصنام واتِّخاذ القُبُور والصُّورة(33) آلهة، ولذلك نهى عُمَرُ أَنَسًا عنِ الصَّلاة إلى القبر، وكان له مندوحةٌ عن استقباله وكان يمكنه الانحراف عنه(34) يمنةً أو يسرةً، ولمَّا لم يأمره بإعادة الصَّلاة عُلِمَ أنَّ صلاته جائزةٌ.


[1] صورتها في (ز): ((ينبش)).
[2] في (ص): ((لقوله)).
[3] في (م): ((رأياها)).
[4] في (م): ((تيك)).
[5] في (م): ((أولئك)).
[6] في (ص): ((نبي الله)).
[7] قوله: ((النَّبيُّ صلعم)) ليس في (م). في (ص): ((فأقام الرسول)).
[8] زاد في (ص): ((من)).
[9] قوله: ((فكَأَنِّي أَنْظُرُ إلى نَّبِيِّ الله على رَاحِلَتِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ رِدْفُهُ، وَمَلُأ بَنِي النَّجَّارِ حَوْلَهُ)) ليس في (م).
[10] قوله: ((وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُصَلِّيَ، حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ، وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الغَنَمِ، وَإنَّهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ، فَأَرْسَلَ إلى مَلأ بَنِي النَّجَّارِ)) ليس في (م).
[11] في (ص): ((من)).
[12] قوله: ((ما أقول لكم)) ليس في (م).
[13] في المطبوع و(ص): ((وكان)).
[14] قوله: ((فيه)) ليس في (م).
[15] في (ص): ((الرسول)).
[16] في (ص): ((وصفف)).
[17] في (ص): ((والرسول)).
[18] قوله: ((فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ المَسْجِدِ، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الحِجَارَةَ، وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ، وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ، والنَّبيُّ صلعم مَعَهُمْ، وَهُوَ يَقُولُ: ~ اللَّهُمَّ لا خَيْرَ إِلا خَيْـرُ الآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلأنْصَارِ وَالمُهَاجِـرَة)) ليس في (م)، وبدلها ذكر: ((الحديث)).
[19] في (ص): ((أمر)).
[20] زاد في (ص): ((كانوا)).
[21] زاد في المطبوع و(ص): ((وحده)).
[22] قوله: ((قالَ المُؤَلِّفُ: أمَّا نبش قبور المشركين ليتَّخذ مكانها مساجد، فلم أجد فيه نصًّا... إلى قوله... بالإسلام والتَّوحيد، وأمر بعبادته لا شريك له)) ليس في (م) هنا وقد جاء قسم منها بعد قوله القادم: ((وقال مالكٌ في «المدوَّنة»: أكرهه وليس بحرام)).
[23] قوله: ((غيره)) ليس في (م).
[24] في (م): ((هناك)).
[25] في المطبوع و(ص): ((لم)).
[26] قوله: ((وكانوا أهل حرب)) ليس في (م).
[27] قوله: ((الإيمان)) ليس في (م).
[28] في (م): ((للمال، وهو قول الكوفيين والشَّافعيِّ وأشهب)).
[29] زاد في (م) هنا: ((وقال الأوزاعيُّ: لا يفعل؛ لأنَّ النَّبيَّ صلعم لما مرَّ بالحجر قال: لا تدخلوا بيوت الَّذين ظلموا إلَّا أن تكونوا باكين مخافة أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فنهى أن ندخل بيوتهم فكيف قبورهم. قال الطَّحَاوِيُّ: وقد أباح دخولها على وجه البكاء، واحتجَّ من أجاز ذلك بحديث أنسٍ أنَّ النَّبيَّ صلعم أمر بقبور المشركين، فنبشت عند بناء المسجد، وبأنَّ النَّبيَّ صلعم لما خرج إلى الطَّائف قال: هذا قبر أبي رِغَالٍ، وهو أبو ثقيفٍ من ثمود وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلمَّا خرج أصابته النِّقمة بهذا المكان، وآية ذلك أنَّه دفن معه غصنٌ من ذهبٍ، فابتدره النَّاس ونبشوه، واستخرجوا منه الغصن، وإذا جاز نبشها لطلب المال، فنبشها للانتفاع بمواضعها لبناء مسجدٍ أو غيره أولى. فإن قيل: فهل يجوز أن تبنى المساجد على قبور المسلمين؟ وهل يدخل ذلك في معنى لعنة اليهود لاتِّخاذهم قبور أنبيائهم مساجد؟ قيل: لا يدخل في ذلك لافتراق المعنى فيه وذلك أنَّه ╕ أخبر أنَّ اليهود كانوا يتَّخذون قبور أنبيائهم مساجد ويقصدونها بعبادتهم، وقد نسخ الله جميع المعبودات بالإسلام والتَّوحيد، وأمر بعبادته وحده لا شريك له)) وهي ناقصةٌ في أوَّل شرح الباب.
[30] زاد في (م): ((ومعنى قول ابن القاسم أنَّ بناء المسجد على القُبُور الَّتي عفت ولا تنبش لأنَّ عائشة ♦ قالت: كسر عظم المؤمن كحرمة كسره حيًّا، وقوله ما كان لله فلا بأس أن يستعان ببعضه على بعضٍ وبنقل بعضه إلى بعضٍ)).
[31] في (م): ((أولئك)). في (ص): ((وأولئك)).
[32] في (م): ((إنَّما نهي من)).
[33] في (ص): ((والصور)).
[34] قوله: ((عنه)) ليس في (م). في (ص): ((يمكنه عنه الانحراف)).