شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق

          ░29▒ بَابُ: قِبْلَةِ أَهْلِ المَدِينَةِ وَأَهْلِ المَشْرِقِ(1).
          لَيْسَ فِي المَشْرِقِ وَلا فِي المَغْرِبِ(2)، لِقَوْلِ النَّبيِّ صلعم: (لا تَسْتَقْبِلُوا القِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا).
          فيهِ: أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ أنَّ النَّبيَّ(3) صلعم قَالَ: (إِذَا أَتَيْتُمُ الغَائِطَ، فَلَا تَسْتَقْبِلُوا القِبْلَةَ، وَلا تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا). قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: فَقَدِمْنَا الشَّامَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ بُنِيَتْ قِبَلَ القِبْلَةِ فَنَنْحَرِفُ وَنَسْتَغْفِرُ اللهَ. [خ¦394]
          قالَ المُؤَلِّفُ(4): قوله: (بَابُ: قِبْلَةِ أَهْلِ المَدِينَةِ وَأَهْلِ الشامِ والمَشْرِقِ)، يعني: وقِبْلَة مشرق الأرض كلِّها إلَّا ما قابَل مشرق مَكَّة مِن البلاد الَّتي تكون تحت الخطِّ المارِّ عليها مِن المشرق إلى المغرب، فحُكْمُ مشرق الأرض كلِّها كحُكْمِ مشرق أهل المدينة والشَّام في الأمر بالانْحراف عند الغائط؛ لأنَّهم إذا شرَّقوا أو غرَّبوا لم يستقبلوا القِبْلَةَ ولم يستدبروها، وهؤلاء أُمروا بالتَّشريق والتَّغريب واستعمال هذا الحديث.
          وأمَّا مَا قابل مشرق مكَّة مِن البلاد الَّتي تكون تحت الخطِّ المارِّ عليها مِن مشرقها إلى مغربها، فلا يجوز لهم استعمال هذا الحديث، ولا يصحُّ لهم أنْ يشرِّقوا ولا أنْ يغرِّبوا؛ لأنَّهم إذا شرَّقوا استدبروا القِبْلَةَ وإذا غرَّبوا استقبلوا(5)، وكذلك مَن كان موازيًا لمغرب مكَّة إن غرَّب استدبر القِبْلَة وإن شرَّق استقبلها، وإنَّما ينحرف إلى الجنوب أو الشِّمال، فهذا هو تغريبه وتشريقُه، ولم يذكر البخاريُّ مغرب الأرض كلِّها؛ إذ العِلَّة فيها مشتركة مع المشرق فاكتفى(6) بذكر المشرق عنِ المغرب؛ لأنَّ المشرق أكبر(7) الأرض المعمورة وبلاد الإسلام في جهة مغرب الشَّمس قليلٌ.
          وتقدير التَّرجمة: بابُ قِبْلَةِ أهلِ المدينةِ وأهلِ الشَّامِ والمشرقِ والمغربِ، ليس في التَّشريق ولا في التَّغريب(8) يعني أنَّهم عند الانحراف للتَّشريق والتَّغريب ليسوا مواجهين القِبْلَة(9) ولا مستدبرين لها.
          فإن قال قائلٌ: كيف يكون قوله: (لَيْسَ فِي المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ) بمعنى التَّشريق والتَّغريب؟ قيل: هذا صحيحٌ في لغة العرب ومعروفٌ عندهم.
          أنشدَ ثعلبٌ في(10) «المجالس»:
أبَعَـدَ مَغْرِبَهُمْ نَجْدًا وسَاحَتُهـا                      أَرْجُو مِنَ الدَّمْعِ تَغْيَيْضًا وإِقْلَاعـًا
          قال ثعلبٌ: معناه أبعد تغريبهم.
          وحمل أبو أيُّوبَ الحديث على العُمُوم في الصَّحارى وغيرها، وخالفه غيره لحديث ابن عُمَرَ، وقد تقدَّم ما للعلماء في ذلك في كتاب الطَّهارة فأغنى عن إعادته [خ¦144].


[1] في المطبوع و(م) و(ص): ((وأهل الشَّام والمشرق)).
[2] زاد في المطبوع و(ص): ((قِبْلَة)).
[3] في (ص): ((نبي الله)).
[4] قوله: ((قال المؤلِّف)) ليس في (م).
[5] في (م) و(ص): ((استقبلوها)).
[6] في (م): ((واكتفى)).
[7] في (ص): ((أكثر)).
[8] في المطبوع و(ص): ((ليس في المشرق ولا في المغرب)).
[9] في (م): ((للقِبْلَةِ)).
[10] زاد في (م): ((كتاب)).