شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الخوخة والممر في المسجد

          ░80▒ بَابُ: الخَوْخَةِ(1) وَالمَمَرِّ فِي المَسْجِدِ.
          فيهِ: أَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ قَالَ: (خَطَبَ النَّبيُّ(2) صلعم فَقَالَ(3): إِنَّ اللهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، / فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللهِ(4)، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ(5)، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي(6): مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ؟ إِنْ يَكُنِ(7) اللهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللهِ(8)، فَكَانَ(9) رَسُولُ اللهِ صلعم هُوَ العَبْدَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ لا تَبْكِي إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي(10) خَلِيلًا، لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ(11) الإسْلامِ وَمَوَدَّتُهُ، لا يَبْقَيَنَّ فِي المَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ إِلَّا بَابُ أَبِي بَكْرٍ). [خ¦466]
          وفيهِ: ابنُ عَبَّاسٍ: (أنَّ النَّبيَّ(12) صلعم قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذي مَاتَ فِيهِ(13): لَيْسَ مِنَ النَّاسِ(14) أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ(15)) الحديثَ. [خ¦467]
          قال المُهَلَّبُ: فيه التَّعريض بالعلم للنَّاس، وإنْ قلَّ فهماؤه، خشية أنْ يدخل عليهم مساءَةٌ أو حُزْنٌ.
          وفيه: أنَّه لا يستحقُّ أَحَدٌ(16) العِلم حقيقةً إلَّا مَن فَهِمَ، والحافِظُ(17) لا يبلغ درجة الفَهْمِ، وإنَّما(18) يُقَالُ للحافظ عالمٌ بالنَّصِّ لا(19) بالمعنى والتَّأويل. ألا ترى أنَّ أبا سَعِيدٍ جعل لأبي بَكْرٍ مزيَّةً بفهمِهِ، أوجب له بها العلم حقيقةً وإن كان قد أوجب العلم للجماعة.
          وفيه(20): أنَّ أبا بَكْرٍ أعلم الصَّحابة؛ لأنَّ أبا سَعِيدٍ شهد له بذلك بحضرة جماعتهم، ولم ينكرْ ذلك عليه أَحَدٌ، ويدلُّ على صِحَّة ذلك مقامه بعد موت النَّبيِّ صلعم، ووقت(21) ارتداد العرب على بديهةٍ منه دون أن يطيش له جَنَانٌ، أو يختلج(22) له لسانٌ، وشدَّة نفسِهِ وثبات قَدَمِهِ، ولذلك حلف أبو هُرَيْرَةَ باللهِ الَّذي لا إله إلَّا هو: لولا أبو بَكْرٍ الصِّدِّيق ما عُبِدَ اللهُ، وسيأتي تمام(23) هذا المعنى(24) في كتاب الزَّكاة إنْ شاء الله تعالى [خ¦1399] [خ¦1400].
          وفيه: الحضُّ على اختيار ما عند الله ╡ والزُّهد في الدُّنيا والإعلام بمن اختار ذلك من الصَّالحين.
          وفيه: أنَّ على السُّلطان شكر مَن أحسن صحبتَهُ ومعونتَهُ بنفسِهِ ومالِهِ، والاعتراف له بالمنَّة، واختصاصه بالفضيلة الَّتي لم(25) يُشارك فيها، كما اختصَّ هو ◙ أبا بَكْرٍ بما لم يَخصَّ به غيرَهُ، وذلك أنَّه جعل بابَهُ في المسجد؛ ليخلفَهُ في الإمامة فيخرج(26) مِن بيتِهِ إلى المسجد، كما كان النَّبيُّ صلعم يخرج، ومنع النَّاس كلِّهم مِن ذلك دليلٌ على خلافة أبي بَكْرٍ بعد النَّبيِّ صلعم، ودليلٌ على أنَّ المرشَّح للخلافة يُخَصُّ بكرامةٍ تدلُّ على ترشُّحِهِ(27). وفيه: دليلٌ أنَّ الخليل فوق الصَّدِّيق والأخ. وفيه: استئلاف النُّفُوس بقولِهِ: (وَلَكِنْ خُوَّةُ(28) الإسْلَامِ أَفْضَل)، فاستألفهم بأنَّ حرمةَ الخُلَّةِ بمعنًى شاملٌ لهم(29) عندَهُ، وإن كان قد فضَّل أبا بَكْرٍ بما دلَّ على ترشُّحِهِ للأمر(30) بعدَهَ، وهكذا وقعَ في(31) الحديث: (وَلكِنْ خُوَّةُ الإِسْلَامِ أَفْضَلُ)، ولا أعرفُ معناه وقد وجدت الحديث في الباب بعدَه: ((وَلكِنْ(32) خُلَّةُ الإِسْلَامِ أَفْضَلُ))، وهو الصَّواب؛ لأنَّه ◙ صَرَفَ الكلامَ على ما تقدَّمَهُ مِن ذكر الخلالة، فأتى بلفظٍ مشتقٍّ منها، وهو ((الخُلَّةُ))، ولم أجدْ (خُوَّةٌ)، بمعنى ((خُلَّةٌ(33))) في كلام العرب(34)، وقال أبو سُلَيْمَانَ الخَطَّابيُّ: قولُهُ: (أَمَنَّ)(35): أسمح بمالِهِ وأبذل له، ولم يُرِدْ(36) معنى الامتنان؛ لأنَّ المِنَّةَ تُفْسِدُ الصَّنيعةَ، ولا مِنَّةَ لأحدٍ على رسول الله صلعم، بل له المِنَّةُ على الأمَّة قاطبةً، والمَنُّ في كلام العرب: الإحسان إلى مَن لا يستثيبُهُ، قال اللهُ ╡: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[ص:39]، وقال تعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}[المدثر:6]، أي: لا تُعْطِ لتأخذ مِن المكافأة أكثر ممَّا أعطيتَ.


[1] قوله: ((الخوخة)) ليس في (م).
[2] في (ص): ((الخدري فقال خطب الرسول)).
[3] في (م): ((فيه أبو سَعِيدٍ أنَّ النَّبيَّ صلعم خطب فقال)).
[4] قوله: ((فاختار ما عند الله)) ليس في (م).
[5] زاد في (م): ((الصِّدِّيق)).
[6] قوله: ((في نفسي)) ليس في (م).
[7] في (م): ((يكون)).
[8] قوله: ((بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللهِ)) ليس في (م).
[9] في (م): ((وكان)).
[10] قوله: ((من أمَّتي)) ليس في (م).
[11] في (م): ((خليلًا لاتَّخذته ولكن خوَّة)).
[12] في (ص): ((نبي الله)).
[13] زاد في (م): ((على المنبر)).
[14] قوله: ((من النَّاس)) ليس في (م).
[15] زاد في (م): ((من أبي بكر)).
[16] قوله: ((أحد)) ليس في (م).
[17] في (م): ((وأنَّ المحافظ)).
[18] في (م): ((درجته وإنَّما)).
[19] زاد في (م): ((عالم)).
[20] في (م): ((فبان)).
[21] في (م): ((وقت)).
[22] في (م): ((يتلحلح)).
[23] في (م): ((وسيأتي زيادة في)).
[24] قوله: ((المعنى)) ليس في (ص).
[25] في (م): ((لا)).
[26] قوله: ((ليخرج)) ليس في (م). في(ص) تحتمل: ((ليخرج)).
[27] في (م): ((ترشيحه)).
[28] في (ص): ((أخوة)).
[29] في (م): ((الخلَّة شاملة لهم)).
[30] في (م): ((على ترشيحه للأمر))، وفي المطبوع: ((على ترشُّحه للخلافة)).
[31] زاد في (م): ((هذا)).
[32] في (م): ((في الباب وموضع آخر من الكتاب، ولكن)).
[33] في (م): ((الخلَّة)).
[34] زاد في (م): ((وقال)).
[35] قوله: ((يريد)) ليس في (م).
[36] زاد في المطبوع و(م) و(ص): ((به)).