شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الصلاة في مواضعِ الإبل

          ░50▒ بَابُ: الصَّلاةِ فِي مَوَاضِعِ الإبِلِ.
          فيهِ: ابنُ عُمَرُ: (أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي إلى بَعِيرِهِ، فَقَالَ(1): رَأَيْتُ النَّبيَّ(2) صلعم يَفْعَلُهُ). [خ¦430]
          اختلف العلماء في هذا الباب فكرَه مالكٌ والشَّافعيُّ الصَّلاة في أعطان الإبل، وقال ابنُ القاسِمِ: لا بأس بالصَّلاة فيها إن سَلِمت مِن مذاهب النَّاس، وقال أَصْبَغُ: مَن(3) صَلَّى فيها أعاد في الوقت.
          وقال الطَّحَاوِيُّ: ذهب قومٌ إلى أنَّ الصَّلاة في أعطان الإبل مكروهةٌ حَتَّى غلا بعضهم في ذلك فأفسد الصَّلاة، واحتجُّوا بما رواه يونسُ عنِ الحَسَنِ عن عبدِ اللهِ بنِ مُغَفَّلٍ أنَّ النَّبيَّ(4) صلعم قَالَ: ((صَلُّوا في مَرَابِضِ الغَنَمِ، ولَا تُصَلُّوا في أَعْطَانِ الإبِلِ))، وبما روى(5) أبو مُعَاوِيَةَ عنِ الأَعْمَشِ عَنْ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ(6) _مولى بني هَاشِمٍ وكانَ ثقةً وكانَ الحَكَمُ يأخذُ عنهُ_ عَنْ عبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي ليلى عَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ عَنِ النَّبيِّ صلعم أَنَّه قَالَ: ((لَا تُصَلُّوا في مَبَارِكِ الإبِلِ وصَلُّوا في مَرَابِضِ الغَنَمِ))، وخالفهم آخرون فأجازوا الصَّلاة في أعطان الإبل، واحتجُّوا بأنَّ الآثَار(7) الَّتي جاءت بالنَّهي عنِ الصَّلاة في أعطان الإبل قد تكلَّم النَّاس في معناها، والسَّبب الَّذي من أجلِه كان(8) النَّهي، فقال قومٌ: إنَّما ذلك لأنَّ مِن عادةِ أصحاب الإبلِ التَّغوُّط بقربها فينجِّسون(9) أعطانها، ومن عادة أصحاب الغَنَمِ ترك التَّغوُّط بينها، ورُوِيَ(10) عن شَرِيكِ بنِ عبدِ اللهِ أنَّه كان يفسِّر الحديث بهذا.
          وقالَ يحيى بنُ آدمَ: ليس العِلُّة عندي هذه وإنَّما هي لما يُخَافُ مِن وثوبها وعطب مَن تلاقي حينئذٍ، ألا تراه يقول: ((فَإِنَّهَا جِنٌّ خُلِقَتْ مِنْ جِنٍّ))، وقال(11) في حديث رافعِ بنِ خَدِيْجٍ: ((إِنَّ لهذِهِ الإبِلِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الوَحْشِ))، وهذا غير مخوفٍ من الغَنَمِ، فأمر باجتناب الصَّلاة في مَعَاطِنِ الإبِلِ خوف ذلك لا لنجاسةٍ، وقد ثبت حديث ابن عُمَرَ أنَّ النَّبيَّ(12) صلعم: ((كَانَ يُصَلِّي إلى بَعِيْرِهِ))، فعُلم بذلك أنَّه لم ينهَ عنِ الصَّلاة في أعطان الإبل لأنَّه لا تجوز الصَّلاة بحذائها، واحتمل أن تكون الكراهية لعِلَّة ما يكون في مَعَاطِنِها مِن أرواثها وأبوالها، فنظرنا في ذلك فرأينا مَرَابِضِ الغَنَمِ، كلٌّ قد أجمع على جواز(13) الصَّلاة فيها، وكان حُكْمُ أبوالِ الإبلِ وأرواثِها كحُكْمِ أبوالِ الغَنَمِ وأرواثِها لا فرق بين ذلك في نجاسةٍ وطهارةٍ؛ لأنَّ مَن جعل أبوال الإبل طاهرةً جعل أبوال الغَنَمِ كذلك، ومن جعل أبوال الإبل نجسةً جعل أبوال الغَنَمِ كذلك، فلما أُبِيْحَتِ(14) الصَّلاةُ في مَرَابِضِ الغَنَمِ في الحديث الَّذي نُهي فيه عَنِ الصَّلاة في أعطانِ الإبِلِ ثبتَ أنَّ النَّهي عن ذلك ليس لعِلَّة نجاسة ما يكون منها، فإن كان لما قاله(15) شَرِيْكٌ فإنَّ الصَّلاة مكروهةٌ حيث يكون الغائط والبول عَطَنًا كان أو غيره، وإن كان لما قاله يحيى فإنَّ الصَّلاة مكروهةٌ بحيث يخاف على النُّفُوس عَطَنًا كان أو(16) غيره، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار، وأمَّا مِن طريق النَّظر فإنَّا رأيناهمْ(17) لا يختلفون في مَرَابِضِ الغَنَمِ أنَّ الصَّلاة فيها جائزةٌ، وإنَّما اختلفوا في الإبِلِ فرأينا حُكْمَ لحمان(18) الإبل كحُكْمِ لحمان الغَنَمِ في طهارتها، ورأينا حُكْمَ أبوالها كحُكْمِ أبوالها في طهارتها أو نجاستها، فكان يجيء في(19) النَّظر أن يكون حُكْمُ(20) الصَّلاة في مواضع(21) الإِبِل ِكَهُوَ في مواضع الغَنَمِ قياسًا ونظرًا، وهذا قول أبي حنيفةَ وأبي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ.


[1] في (م): ((وقال)).
[2] في (ص): ((الرسول)).
[3] في (م): ((ومن)).
[4] في (ص): ((نبي الله)).
[5] في (م): ((رواه)).
[6] قوله: ((بن عبد الله)) ليس في (م).
[7] في (م): ((بأن قالوا إنَّ الآثار)).
[8] في (م): ((الَّذي كان من أجله)).
[9] في المطبوع و(ص): ((فتنجس)).
[10] في (م): ((روي)).
[11] زاد في (م): ((◙)).
[12] في (ص): ((نبي الله)).
[13] قوله ((جواز)) ليس في (م).
[14] في (ص): ((أبيح)).
[15] في (م): ((قال)).
[16] في (م): ((على النُّفوس كان عطنًا أو)).
[17] في (ص): ((رأينا)).
[18] في (م): ((بحمان))، وكذا ما بعدها.
[19] زاد في المطبوع و(ص): ((حكم)).
[20] قوله: ((حكم)) ليس في (ص).
[21] في (م): ((موضع))، وكذا ما بعدها.