شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب عقد الإزار على القفا في الصلاة

          ░3▒ بَابُ: عَقْدِ الإزَارِ عَلَى القَفَا فِي الصَّلَاةِ.
          وَقَالَ سَهْلُ بنُ سَعْدٍ: (صَلَّوْا مَعَ النَّبيِّ صلعم عَاقِدِي أُزُرِهِمْ على عَوَاتِقِهِمْ).
          فيهِ: جابرٌ: (أَنَّهُ صَلَّى فِي إِزَارٍ قَدْ عَقَدَهُ مِنْ قِبَلِ قَفَاهُ، وَثِيَابُهُ مَوْضُوعَةٌ على المِشْجَبِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: تُصَلِّي فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ! قَالَ(1) لَهُ: إِنَّمَا صَنَعْتُ ذَلِكَ لِيَرَانِي(2) أَحْمَقُ مِثْلُكَ، وَأَيُّنَا(3) كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ على عَهْدِ النَّبيِّ صلعم). [خ¦352]
          وقالَ جابرٌ مَرَّةً: (رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلعم يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ). [خ¦353]
          عَقدُ(4) الإزار على القفا في الصَّلاة إذا لم يكن مع الإزار سراويلُ ولا مئرزٌ، وهو معنى قوله صلعم(5): (زُرَّهُ وَلَوْ بِشَوْكَةٍ)، وهذا كلُّه تأكيد في ستر العورة في الصَّلاة؛ لأنَّه إذا عقد إزاره في قفاه وركع لم تبدُ عورته، فلذلك كان أصحاب النَّبيِّ صلعم يعقدون أُزرهم في الصَّلاة إذا لم يكن تحتها ثوبٌ آخر. وفي حديث جابرٍ مِن الفِقْهِ أنَّ العالِمَ قد(6) يأخذ بأيسر الشَّيء وهو يقدر على أكثر منه توسعةً على العامَّة وليُقتدى به؛ ألا ترى أنَّه صلَّى في ثوبٍ واحدٍ وثيابه على المِشْجَبِ. ففي ذلك جواز الصَّلاة في الثَّوب الواحد لمن يقدر على أكثر(7) منه، وهو قول جماعة(8) الفقهاء إلَّا أنَّه قد رُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ خلاف ذلك، ورُوِيَ عن ابنِ مَسْعُودٍ مثل قول(9) ابنِ عُمَرَ، وسأذكره في(10) الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى(11) [خ¦358]، وروى(12) ابن جُرَيْجٍ عن نافعٍ أنَّ ابنَ عُمَرَ كساه فدخل المسجد فوجده يصلِّي متوشِّحًا، فقال له: أليس لك ثوبان؟ قال: بلى(13)، قال: أرأيت لو استعنتُ بك وراء الدَّار كنت(14) لابِسَهُمَا؟ قال: نَعَمْ، قال: فالله أحقُّ أن نتزيَّنَ(15) له، فأخبره عن النَّبيِّ صلعم _أو عن عُمَرَ_ قال: ((لَا يَشْتَمِلُ أَحَدُكُمْ في الصَّلَاةِ اشتِمَالَ اليَهُوْدِ، ومَنْ(16) كَانَ لَهُ ثُوْبَانِ فَلْيَتَّزِرْ وَلْيَرْتَدِ، ومَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثُوْبَانِ فَلْيَتَّزِرْ ثمَّ يُصَلِّي)). وقد رواه مُوسَى بنُ عُقْبَةَ عن نافعٍ عن ابنِ عُمَرَ عنِ النَّبيِّ صلعم مِن غير شكٍّ. قال الطَّحَاوِيُّ: وقد روى هذا الحديث عن ابنِ عُمَرَ غيرُ نافعٍ فذكره سَالِمٌ لا عنِ(17) النَّبيِّ صلعم ورواه(18) اللَّيْثُ عن عُقَيْلٍ عن ابنِ شِهَابٍ عن سَالِمٍ عن ابنِ عُمَرَ عن أبيه، فذكره، وسَالِمٌ أثبتُ(19) مِن نافعٍ وأحفظُ،(20) ولم يذكر فيه النَّبيَّ صلعم، ورواه مالكٌ عن نافعٍ عن ابنِ عُمَرَ: أنَّه كَسَا نافعًا ثوبين، فقام يُصَلِّي في ثوبٍ واحدٍ فعاب ذلك عليه وقال: احذرْ ذلك؛ فإنَّ الله أحقُّ من تُجُمِّلَ له، لم(21) يذكر فيه رَسُولَ اللهِ صلعم ولا عُمَرَ. وقد روى عن النَّبيِّ صلعم: ((الصَّلاةُ في ثوبٍ واحدٍ)) جماعةٌ منهم: جابرٌ وأبو هريرةَ وعُمَرُ ابنُ أبي سَلَمَةَ وسَلَمَةُ بنُ الأَكْوَعِ، وهذه أحاديث تضادُّ ما رُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ في منع الصَّلاة في(22) الثَّوب الواحد، وبها أخذ الفقهاء ولم يُتَابَعِ ابنُ عُمَرَ على قوله في ذلك. والمِشْجَبُ: عودٌ يُنْصَبُ في البيوتِ تُعَلَّقُ فيه الثِّيابُ. وفي قول جابرٍ للَّذي أنكر عليه الصَّلاة في ثوبٍ واحدٍ: (إِنَّمَا صَنَعْتُ(23) ذَلِكَ لِيَرَانِي(24) أَحْمَقُ مِثْلُكَ)، أنَّه لا بأس للعالم أن يصف بالحمق مَن جهِل دينه، وأنكر على العلماء ما غاب عنه علمه مِن السُّنَّة، وقد قال في حديثٍ آخرٍ: ((أَحْبَبْتُ أَنْ يَرَانِي الجُهَّالُ مِثْلُكُمْ))، فجعل الحمق كنايةٍ عن الجهل، ذكره في بابِ الصَّلاةِ بغيرِ رداءٍ [خ¦370].


[1] في (ص): ((فقال)).
[2] في (م): ((ليس لأنِّي)).
[3] في (م): ((وإنَّما)).
[4] في (م): ((قال المؤلِّف: عقد)).
[5] زاد في (م): ((لسلمة بن أكوع)).
[6] قوله: ((قد)) ليس في (ص).
[7] في (م): ((لمن يجد أكثر)).
[8] زاد في المطبوع: ((من)).
[9] قوله: ((قول)) ليس في (ص).
[10] زاد في (م): ((هذا)).
[11] قوله: ((في الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى)) ليس في (ص).
[12] في (م): ((روى)).
[13] في (ص): ((نعم)).
[14] في (م): ((أكنت)).
[15] في (م): ((تزين))، وفي المطبوع و(ص): ((تتزيَّن)).
[16] في (م): ((من)).
[17] في (م): ((فذكره عن عمر لا عن)). في (ص): ((فذكره سالم عن)).
[18] في (م): ((رواه)).
[19] في (م): ((فهذا سالم وهو أثبت)).
[20] زاد في (م): ((رواه عن ابن عمر عن عمر)).
[21] في (م): ((فلم)).
[22] قوله: ((ثوبٍ واحدٍ. جماعة منهم: جابر وأبو هريرة وعمر ابن أبي سلمة وسلمة بن الأكوع، وهذه أحاديث تضادُّ ما رُوِيَ عن ابن عمر في منع الصَّلاة في)) ليس في (م).
[23] في (ص): ((فعلت)).
[24] في (م): ((ليس أنِّي)).