شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب وجوب الصلاة في الثياب

          ░2▒ بَابُ: وُجُوبِ الصَّلاة فِي الثِّيَابِ
          وَقَوْلِهِ ╡: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}[الأعراف:31]وَمَنْ صَلَّى مُلْتَحِفًا(1) فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَيُذْكَرُ(2) عَنْ سَلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ أنَّ النَّبيَّ(3) صلعم قَالَ: (يَزُرُّهُ وَلَوْ بِشَوْكَةٍ). وفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ، وَمَنْ صَلَّى فِي الثَّوْبِ الَّذي يُجَامِعُ(4) فِيهِ مَا لَمْ يَرَ أَذًى، وَأَمَرَ النَّبيُّ(5) صلعم أَلَّا يَطُوفَ بِالبَيْتِ عُرْيَانٌ.
          فيهِ: أُمُّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: ((أُمِرْنَا أَنْ نُخْرِجَ الحُيَّضَ يَوْمَ العِيدَيْنِ وَذَوَاتِ الخُدُورِ فَيَشْهَدْنَ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَدَعْوَتَهُمْ، وَيَعْتَزِلُ الحُيَّضُ عَنِ المُصَلَّى(6)، قَالَتِ امْرَأَةٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِحْدَانَا لَيْسَ لَهَا جِلْبَابٌ، قَالَ: لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا)). [خ¦351]
          الواجب مِن اللَّباس(7) في الصَّلاة(8) ما يستر به العورة، وأمَّا غير ذلك مِن الثِّياب فالتَّجمُّل بها في الصَّلاة حَسَنٌ، والله أحقُّ من تُجُمِّلَ له، وأجمع أهل التَّأويل على أنَّ قوله تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}[الأعراف:31]، نزلت مِن أجل الَّذين كانوا يطوفون بالبيت عُرَاةً، ولذلك أمر النَّبيُّ صلعم ألَّا يطوف بالبيت عُرْيَانٌ.
          وقوله: (يزرُّه(9) وَلَوْ بِشَوْكَةٍ)، و(لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا)، يدلُّ على وجوب(10) ستر العورة في الصَّلاة؛ لأنَّه إذا زَرَّهُ أَمِنَ عند ركوعه وسجوده أن تبدو عورته.
          قال ابنُ القَصَّارِ: وقد اختلف النَّاس في ستر العورة في الصَّلاة، فبعض أصحاب مالكٍ يقول: إنَّ السُّترة من سنن الصَّلاة، وإليه ذهب إِسْمَاعِيْلُ القاضي(11) وأبو الفرجِ المالكيِّ بعد أن ذكر أنَّه يجيء على مذهب مالكٍ أن يكون فرضًا لقوله في كفَّارة المساكين: إنْ كساهم وكانوا نساءً فدرعٌ درعٌ(12) وخمارٌ، وإن كانوا رجالًا فثوبٌ ثوبٌ(13)، وذلك أدنى ما تجزئ به الصَّلاة(14)، فدلَّ أنَّ الصَّلاة لا تجزئ إلَّا بذلك.
          وكان أبو بَكْرٍ الأَبْهَرِيُّ يقولُ: إنَّ ستر العورة فرضٌ في الجملة، على الإنسان أن يسترها عن أَعْيُنِ المخلوقين في الصَّلاة وغيرها(15)، والصَّلاة أوكد مِن غيرها(16)، وقال أبو حنيفةَ والشَّافعيُّ: إنَّها من فرض الصَّلاة، فاحتجَّ(17) إِسْمَاعِيْلُ بأنَّه يجوز له ستر عورته قبل الدُّخول في الصَّلاة بغير نيَّةً، وإنَّما هي آلةٌ يؤتى بها قبل الصَّلاة، فلو كانت فرضًا لما صحَّ الإتيان بها إلَّا بنيَّةٍ كالطَّهارة. قال ابنُ القَصَّارِ: فالجواب أنَّ التَّوجه إلى القِبْلَة مما تختص به الصَّلاة ويجوز بغير نيَّةً، ولا يدلُّ ذلك على سقوط فرضه مع القدرة عليه، واحتجَّ إِسْمَاعِيْلُ أيضًا بأنَّه لو كان فرضًا في الصَّلاة لكان العريان لا يجوز له أن يُصَلِّي؛ لأنَّ كلَّ شيءٍ من فُرُوض الصَّلاة يجب الإتيان به مع القدرة عليه أو ببدله مع عدمه كالعاجز عن القيام يصلِّي قاعدًا، وكالعاجز عن الرُّكوع والسُّجُود يومئ، أو كالتَّيمُّم مع عدم(18) الماء، والَّذي صلَّى عريانًا لم يفعل في اللُّبس فعلًا يقوم مقام اللُّبس مع عدمه. وقد أُجيب عن ذلك بأنَّنا لا نقول: إنَّ ستر العورة يجب لأجل الصَّلاة، فلا معنى لاعتباره بأفعال الصَّلاة، وبما يجب لأجلها كالوضوء الواقع إلى بدلٍ، وكالقِبْلَة وغير ذلك مما تختصُّ به الصَّلاة، وإنَّما هو فرضٌ(19) في الجملة، ويتأكَّد حُكْمُ الصَّلاة فيه، وليس كلُّ شيءٍ من فروض الصَّلاة يسقط إلى بدلٍ مع الضَّرورة؛ لأنَّ القراءة واجبةٌ(20) على المنفرد وتسقط عنه خلف الإمام لا إلى بدلٍ، وكذلك الأُمِّيُّ الَّذي لا يُحْسِنُ القراءة ولا التَّسبيح تصحُّ صلاته مِن غير بدلٍ. فإن قيل: فعلى أيِّ شيءٍ يُحْمَلُ قول مالكٍ: إنَّ الحُرَّةَ إذا صَلَّتْ بغير خِمَارٍ أنَّها تُعيد في الوقت، ولو كان فرضًا لوجب أن تُعيد في الوقت وبعده قيل: يُحْمَلُ على أنَّه يُعْفَى عنِ القليل منها لاختلاف النَّاس في ذلك، ولم(21) يقل مالكٌ: إنَّها لو صَلَّتْ مكشوفةَ السَّوأة أنَّها تُعيد في الوقت مع قدرتها على ستر ذلك، ولو قال ذلك(22) لم يمنع مِن كون السَّتر فرضًا، ألا ترى أنَّ الصَّلاة في الدَّار المغصوبة وفي الثَّوب المغصوب والوضوءَ بالماء المغصوب فرضٌ عليه ألَّا يُصَلِّي بشيءٍ من ذلك، ولو صلَّى بجميع ذلك كان قد ترك الفرض وعصى وعليه / الإعادة في الوقت ولا يُعيد بعد الوقت، وكذلك التَّسمية على الذَّبيحة. فبعض الفروض إذا تركها عمدًا أعاد في الوقت، وبعضها يختلف حكمها في العمد والنِّسيان، وبعضها يتَّفق، وإنَّما هو على حسب الأدلَّة في قوَّة بعضه وانخفاض بعضه، وحديث سَلَمَةَ بنِ الأَكْوَعِ أصلٌ في هذه المسألة وهو قوله: (يَزُرُّهُ(23) وَلَوْ بِشَوْكَةٍ)، ولو كان ستر العورة سُنَّةٌ لم يقل له ذلك، وإنَّما قال البخاريُّ: وفي(24) إسناده نظرٌ؛ لأنَّ رواية الدَّرَاوَرْدِيِّ(25) عن مُوسَى بنِ(26) مُحَمَّدِ بنِ(27) إبراهيمَ عن أبيه عن سَلَمَةَ بنِ الأَكْوَعِ، قالَ: قلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، إنِّي أُعَالِجُ الصَّيْدَ فأُصَلِّي(28) في القَمِيْصِ الوَاحِدِ، قالَ: ((نَعَمْ، وَزِرَّهُ(29) ولَو بِشَوْكَةٍ)). ومُوسَى بنُ مُحَمَّدٍ في(30) حديثه مناكيرٌ، قاله البخاريُّ في «كتاب الضُّعفاء» ورخصَّ مالكٌ في الصَّلاة في القميص محلول الإزار(31) ليس عليه سراويلٌ ولا رداءٌ، وهو قول الكوفيين والشَّافعيِّ وأبي ثَوْرٍ، إلَّا أنَّه إنْ رأى من جيبه عورته أعاد الصَّلاة عندهم.


[1] في (ص): ((ملتفعًا)).
[2] في (ص): ((يذكر)).
[3] في (ص): ((الرسول)).
[4] في (م) صورتها: ((لامع)).
[5] في (ص): ((الرسول)).
[6] في (م): ((مصلَّاهم)).
[7] في (ص): ((بين الناس)).
[8] قوله: ((في الصَّلاة)) ليس في (م).
[9] في (م): ((يزر)).
[10] قوله: ((وجوب)) ليس في (م).
[11] في (م): ((والقاضي)).
[12] قوله: ((درع)) ليس في (م).
[13] قوله: ((ثوب)) ليس في (م).
[14] في (م): ((الصَّلاة به)).
[15] في (م): ((وغير الصَّلاة)).
[16] قوله: ((والصَّلاة أوكد مِن غيرها)) ليس في (ص).
[17] في (م): ((واحتجَّ)).
[18] زاد في المطبوع: ((وجود)).
[19] في (ص) كتب فوقها ما صورته: ((فيه)).
[20] في (ص): ((واجب)).
[21] في المطبوع و(ص): ((فلم)).
[22] في (م): ((هذا)).
[23] في (م): ((زره)). في (ص): ((تزره)).
[24] في (م): ((في)).
[25] في (م): ((الدَّاروردي)).
[26] قوله ((موسى بن)) ليس في (م).
[27] في (ص): ((عن)).
[28] في (م): ((أفأصلِّي)).
[29] في (م): ((زرَّه)).
[30] قوله: ((في)) ليس في (م).
[31] في (م): ((الأزرار)).