شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب القسمة وتعليق القنو في المسجد

          ░42▒ بَابُ: القِسْمَةِ وَتَعْلِيقِ القِنْوِ فِي المَسْجِدِ.
          قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: القِنْوُ: العِذْقُ، وَالاثْنَانِ قِنْوَانِ، وَالجَمَاعَةُ قِنْوَانٌ، مِثْلَ صِنْوٍ وَصِنْوَانٍ.
          وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ _يَعْنِي ابنَ طَهْمَانَ_: عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ: (أُتِيَ النَّبِيُّ صلعم بِمَالٍ مِنَ البَحْرَيْنِ(1): فَقَالَ: انْثُرُوهُ فِي المَسْجِدِ، وَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللهِ(2) فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ إلى الصَّلاةِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا(3) قَضَى الصَّلاةَ، جَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَمَا كَانَ يَرَى أَحَدًا إِلَّا أَعْطَاهُ(4)، إِذْ جَاءَهُ العَبَّاسُ ☺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَعْطِنِي فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ عَقِيلًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلعم(5): خُذْ، فَحَثَا فِي ثَوْبِهِ ثمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اؤْمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ إِلَيَّ، قَالَ: لَا، قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ: لَا، فَنَثَرَ مِنْهُ ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اؤْمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ عَلَيَّ، قَالَ: لَا، قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ: لَا،(6) فَنَثَرَ مِنْهُ، ثمَّ احْتَمَلَهُ، فَأَلْقَاهُ على كَاهِلِهِ ثمَّ انْطَلَقَ، فَمَا زَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ، حتَّى خَفِيَ عَلَيْنَا، عَجَبًا مِنْ حِرْصِهِ، فَمَا قَامَ رَسُولُ اللهِ صلعم وَثَمَّ مِنْهَا دِرْهَمٌ). [خ¦421]
          قال المُهَلَّبُ: فيه وضع ما النَّاس مشتركون فيه(7) مِن صدقةٍ أو غيرها في المسجد؛ لأنَّ المسجد لا يُحْجَبُ أحدٌ مِن ذوي الحاجة مِن دخوله والنَّاس فيه سواء، وكذلك أمور جماعة المسلمين يجب أن تُعمل في المسجد، وليس في هذا الباب تعليق قِنْوٍ في المسجد، وأغفله البخاريُّ ☼.
          وتعليق القِنْوِ في المسجد أمرٌ مشهورٌ، ثمَّ(8) ذكر ابنُ قُتَيْبة في «غريب الحديث»: أنَّ النَّبيَّ(9) صلعم خَرَجَ فرَأَى أَقْنَاءً(10) مُعَلَّقَةً في المَسْجِدِ، وذكر ثابتٌ في «غريب الحديث» أنَّ نبيَّ اللهِ أمر من كلِّ حائطٍ بقِنْوٍ(11) يعني للمسجد، معنى(12) ذلك أنَّ ناسًا كانوا يقدمون على رسول الله صلعم لا شيء لهم، فقالت الأنصار: ((يَا رَسُولَ اللهِ(13)، لَوْ عَجَّلنا قِنْوًا مِنْ كلِّ حَائِطٍ لهؤلاءِ، قَالَ: أَجَلْ، فافعلوا))، فجرى ذلك إلى اليوم، فهي الأقناءُ الَّتي تُعَلَّق في المسجد فيُعطاها المساكين، وكان عليها على عهد رَسُولِ اللهِ(14) صلعم: مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ.
          قال ابنُ(15) القَاسِمِ: قد سُئِلَ مالكٌ عن أقناءٍ تكون في المسجد وشبه ذلك، فقال: لا بأس بها، وسُئِلَ عنِ الماء الَّذي يُسْقَى في المسجد أترى(16) أن يُشْرَبَ منه قال: نعم، إنَّما يُجْعَلُ(17) للعَطْشَى، ولم يرد به أهل المسكنة، فلا أرى أن يترك شربه، ولم يزل هذا مِن أمر النَّاس قال: وقد سقى سعدُ بنُ عُبَاْدَةَ، فقيل له: في المسجد؟ قال(18): لَا، ولكن في منزله الَّذي كان فيه، وليس ما ذكره ثابتٌ أنَّ الأقناء كانت تُجْعَلُ في المسجد للمساكين بخلافٍ لقول مالكٍ؛ لأنَّ مالكًا إِذْ سُئِلَ عن الأقناء لم تكن تُجعل حينئذٍ للمساكين خاصَّةً؛ لأنَّ زمان مالكٍ كان النَّاس فيه أوسع حالًا منهم في أوَّل الإسلام، فكان يجعل(19) وقت(20) مالكٍ على طريق التَّوسعة للنَّاس لا يُراد بها المساكين، وإنَّما يُراد بها كلُّ مَن دخل المسجد مِن غنيٍّ أو مسكينٍ(21)، ألا ترى أنَّ مالكًا شبَّه ذلك بالماء الَّذي يُجعل للعطشان ولا يُراد به(22) المساكين، قال المُهَلَّبُ: وفيه مِن الفِقْهِ أنَّ القسمة إلى الإمام على قَدْرِ اجتهاده.
          وفيهِ: العطاء(23) لأحدِ الأصناف الَّذين ذكرهم الله تعالى في كتابه دون غيرهم؛ لأنَّه أعطى(24) العبَّاسَ لما شكا إليه(25) مِنَ الغُرْمِ الَّذي فَدَحَهُ، ولم يسوِّه في القسمة بين(26) / الثَّمانية الأصناف(27)، ولو قسم ذلك على التَّساوي لما أعطى العبَّاس بغير مِكْيَالٍ ولا ميزانٍ، وإنَّما أعطاه بقدر استقلاله مِن(28) الأرض، ولم يعط لأحدٍ غيره مثل ذلك، وفيه: أنَّ السَّلطان إذا عَلِمَ مِن النَّاس حاجةً إلى المال أنَّه لا يحلُّ له أن يدَّخر منه شيئًا كما فعل النَّبيُّ صلعم، وفيه: كرم رَسُولِ اللهِ صلعم وزهده في الدُّنيا وأنَّه لم يمنع شيئًا سُئِلَهُ إذا كان عنده.
          وفيه: أنَّ للسُّلطان أن يرتفع عمَّا يُدعى إليه مِن المهنة والعمل بيده، وله أن يمتنع مِن تكليف ذلك غيره إذا لم يكن للسُّلطان في ذلك حاجةٌ، وإن كان فيه نفعٌ لخاصَّةٍ مِن النَّاس إذا كان فيه ضررٌ لعامَّتهم.
          قالَ المُؤَلِّفُ: وإنَّما لم يأمر برفع المال على عنق العبَّاسِ _والله أعلم_ ليزجرَه ذلك عن الاستكثار في المال(29) الَّذي ظهر منه، وألَّا يأخذ مِن الدُّنيا فوق حاجته ويقتصر على ما يبلغ منها المحلُّ(30)، كما كان يفعله هو صلعم، ولهذا لم يرفعه على عنقه لئلَّا يعينه على ما لا يرضاه وما نَهى عنه.


[1] في (م): ((بَابُ القِسْمَةِ وَتَعْلِيقِ القِنْوِ فِي المَسْجِدِ. فيه أَنَسٌ: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلعم بِمَالٍ مِنَ البَحْرَيْنِ)).
[2] زاد في (م): ((صلعم)).
[3] في (م): ((فما)).
[4] زاد في (م): ((إياه)).
[5] قوله: ((رسول الله صلعم)) ليس في (م).
[6] قوله ((فَنَثَرَ مِنْهُ، ثمَّ ذَهَبَ، يُقِلُّهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اؤْمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ عَلَيَّ، قَالَ: لا، قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ: لا)) ليس في (م).
[7] في (م): ((ما النَّاس فيه مشتركون)).
[8] قوله: ((ثم)) ليس في (م).
[9] في (ص): ((نبي الله)).
[10] صورتها في (ز): ((قنا)).
[11] في (م): ((بقنا)).
[12] في (م): ((ومعنى)).
[13] قوله: ((يا رسول الله)) ليس في (م).
[14] في (م): ((النَّبيِّ)).
[15] في (م): ((أبو)).
[16] في (م): ((ترى)).
[17] في (م): ((جعل)).
[18] في (م): ((فقال)).
[19] زاد في المطبوع و(ص): ((في)).
[20] في (م): ((فكانت تجعل في وقت)).
[21] في (م): ((فقير))، وأشار إلى نسخة صحيحة: ((مسكين)).
[22] في (ص): ((بها)).
[23] في (م): ((الإعطاء)).
[24] في (م): ((لأنَّ إعطاء)).
[25] في (م): ((عليه)).
[26] في المطبوع و(ص): ((مع)).
[27] في (ز) حاشية: ((أقول: لا يصحُّ هذا الكلام لأنَّ الثَّمانية هي مصارف الزَّكوات، والزَّكاة حرامٌ على العبَّاس بل كان هذا المال إمَّا فيئًا أو غنيمةً... بعد الثَّمانية سهوٌ من النَّاسخ وكان بالأصل الثَّلاثة، بهذا الخطِّ وما يشبهه خط... الَّتي فعل سعد بن... ☼)) بعض الكلمات غير واضحة.
[28] في المطبوع: ((عن)).
[29] في (م): ((عن الحرص على الاستكثار من المال)). في (ص): ((الاستكثار من المال)).
[30] صورتها في (م): ((البخل)).