شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب يرد المصلي من مر بين يديه

          ░100▒ بَابُ: يَرُدُّ المُصَلِّي(1) مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ.
          وَرَدَّ(2) ابنُ عُمَرَ في التَّشَهُّدِ وفي الرُّكْعَةِ، وَقَالَ: إِنْ أَبَى إلَّا أَنْ تُقَاتِلَهُ فَقَاتِلْهُ(3).
          فيهِ: أَبُو سَعِيْدٍ: (أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي يَوْمِ جُمُعَةٍ إلى سُتْرَةٍ، فَأَرَادَ شَابٌّ مِنْ بَنِي أَبِي مُعَيْطٍ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَفَعَ أبو سَعِيْدٍ فِي صَدْرِهِ، فَنَظَرَ الشَّابُّ، فَلَمْ يَجِدْ مَسَاغًا إِلَّا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعَادَ لِيَجْتَازَ، فَدَفَعَهُ أبو سَعِيْدٍ أَشَدَّ مِنَ الأُوْلَى، / فَنَالَ مِنْ أَبِي سَعِيْدٍ، ثمَّ دَخَلَ على مَرْوَانَ، فَشَكَا إِلَيْهِ مَا لَقِيَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَدَخَلَ أبو سَعِيدٍ خَلْفَهُ على مَرْوَانَ، فَقَالَ: مَا لَكَ وَلابنِ أَخِيكَ يَا أَبَا سَعِيدٍ؟ قَالَ(4): سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم يَقُولُ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ(5) النَّاسِ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ). [خ¦509]
          قال بعض الفقهاء: واتَّفق(6) العلماء على(7) دفع المارِّ بين يدي المُصَلِّي إذا صَلَّى إلى سُتْرَةٍ، وليس له إذا صَلَّى إلى غير سُتْرَةٍ أن يدفع مَنْ مَرَّ بين يديهِ لأنَّ النَّبيَّ صلعم جعل ما(8) بينَهُ وبين السُّتْرَةِ مِن حَقِّه الَّذي يجب له(9) مَنْعُهُ ما دام مُصَلِّيًا، فأمَّا إذا صَلَّى إلى غير سُتْرَةٍ، فليس له أن يدرأ أحدًا لأنَّ التَّصرُّف والمشي مباحٌ لغيرِهِ في ذلك الموضع الَّذي يُصَلِّي فيه وهو وغيرُهُ(10) سَواءٌ، فلم يستحقَّ أن يمنع شيئًا منه إلَّا ما قام الدَّليل عليه، وهي(11) السُّتْرَةُ الَّتي وردت السُّنَّة بمنعِها، وقال مالكٌ: لا يَرُدُّهُ وهو ساجدٌ فإنَّما(12) استحقَّ المقاتلة؛ لأنَّه لا عُذْرَ له بعد أن جَعل له عَلَمًا يمرُّ مِن ورائِهِ، والمُقَاتَلَةُ هاهنا: المُدَافَعَةُ في لُطْفٍ، وأجمعوا أنَّه لا يُقاتلُهُ بسيفٍ(13) ولا(14) يخاطبُهُ، ولا يبلغُ به مَبلغًا يُفسِدُ(15) صلاتَهُ لأنَّه إن فعل ذلك كان أضرَّ على نفسِهِ مِنَ المارِّ بين يديهِ. قالَ المؤلِّفُ(16): والفرق بين ما يدرأُ فيه المُصَلِّي مَنْ مرَّ بين يديه وما(17) لا يدرأُ مِنَ المسافةِ، هو المقدارُ الَّذي(18) ينالُ المُصَلِّي فيه المارَّ بين يديه وإذا(19) مَرَّ ليدفعَهُ، لإجماعِهِمْ أنَّ المشي في الصَّلاة لا يجوز ولو أجزنا له المشي إليه بَاعًا أو بَاعَينِ(20) أثرٍ لركبنا(21) أكثر من ذلك، وهذا(22) لا يجوز بالإجماعٍ(23)، واتَّفق الفقهاء أنَّه إذا مَرَّ بينَ يديهِ وفاتَ ولم يدركْهُ مِن مقامِهِ أنَّه لا يمشي وراءَهُ ولا يردُّهُ. واختلفُوا إذا جاز بين يديه وأدركَهُ هل يردُّهُ أم لا؟ فقال ابن مَسْعُودٍ: يردُّهُ، ورُوِيَ(24) عن سالِمِ بنِ عبدِ اللهِ(25) والحَسَنِ البَصْرِي، وقال أَشْهَبُ: يردُّهُ(26) بإشارةٍ ولا يمشي إليه لأنَّ مشيَهُ إليه أشدُّ مِن مرورِهِ بينَ يديهِ، فإنْ مشى إليه وردَّهُ لم تفسدْ(27) صلاتُهُ، وقالَ الشَّعْبِيُّ: لا يردُّه إذا جاز بين يديه لأنَّ ردَّه مرورٌ ثانٍ، ولا وجه له وهو قول مالكٍ والثَّوْرِيِّ وإِسْحَاقَ. فإنْ دافعَهُ فمات فاختُلِفَ فيه، فقال ابنُ شَعْبَانَ: عليهِ الدِّيَةُ في مالِهِ كاملةً(28)، وقيل: الدِّيَةُ على عَاقِلَتِهِ، وقيل: هو هَدْرٌ على حسب ثَنِيَّةِ العَاضِّ له(29)؛ لأنَّه فِعْلٌ تولَّدَ من فِعْلٍ(30) أصلُهُ مباحٌ؛(31) فإنَّما هو شيطانٌ، يُرِيدُ أنَّه فَعَلَ فِعْلَ الشَّيطانِ في أنَّه(32) شَغَلَ قلبَ المُصَلِّي عن مُناجاةِ ربِّهِ والإخلاصِ له، كما يخطرُ الشَّيطانُ بين المرء ونفسِهِ في الصَّلاة، فيذكِّرُهُ ما لم يذكرْ ليشغلَهُ عن مناجاةِ ربِّهِ، ويخلط عليه صلاتَهُ. وفيه: أنَّه يجوز أن يُقَالَ للرَّجُل إذا فَتَنَ في الدِّين: شيطانٌ، ولا عقوبة على من قال له(33) ذلك(34). وفيه: أنَّ الحُكْمَ للمعاني لا للأسماء بخلاف ما يذهب إليه أهل الظَّاهر في نفيهم القياس؛ لأنَّه يستحيل أن يصير المارُّ بين يدي المُصَلِّي(35) شيطانًا لمرورِهِ، فثبت أنَّ الحُكْمَ للمعاني لا للأسماء وهو قولُ جمهورِ الأمَّة(36).
          وقوله: (فَلَمْ يَجِدْ(37) مَسَاغًا) يعني طريقًا يمكنُه المرور(38) منها، يُقالُ: سَاغَ الشَّرابُ في الحَلْقِ سَوْغًا: سَلسَ، وسَاغَ الشَّيءُ: طَابَ، في(39) كتاب «الأفعال».


[1] زاد في (ص): ((على)).
[2] في (م): ((وروى)).
[3] في (م): ((قاتله)).
[4] في (م): ((فقال)).
[5] في (م): ((إلى سُتْرَةٍ من)).
[6] في (ص): ((اتفق)).
[7] في (م): ((فإنَّما هو شيطانٌ، العلماء متفقون على)).
[8] زاد في (م): ((يمرُّ)).
[9] في (م): ((عليه)).
[10] زاد في (م): ((فيه)).
[11] في المطبوع و(م) و(ص): ((وهو)).
[12] في (م): ((وإنَّما)).
[13] زاد في المطبوع و(ص): ((ولا يخاطفه في أخرى)).
[14] قوله: ((ولا)) ليس في (ص).
[15] زاد في (م): ((به)).
[16] قوله: ((قال المؤلِّف)) ليس في (م).
[17] في (م): ((وبين ما)).
[18] زاد في (م): ((لا)).
[19] في المطبوع و(م) و(ص): ((إذا)).
[20] زاد في المطبوع و(م) و(ص): ((من غير)).
[21] في (م): ((لزمنا)).
[22] في (م): ((وهو)).
[23] في المطبوع و(م) و(ص): ((بإجماعٍ)).
[24] زاد في المطبوع و(م) و(ص): ((ذلك)).
[25] قوله: ((بن عبد الله)) ليس في (م).
[26] في (ص): ((ويرده)).
[27] زاد في (م): ((بذلك)).
[28] في (م): ((كلِّه)).
[29] قوله: ((له)) ليس في (م).
[30] في (م): ((عمل)).
[31] زاد في (م): ((وقوله)). في(ص): ((من أصل فعله مباح)).
[32] في حاشية (ص): ((وأنه)).
[33] قوله: ((له)) ليس في (م).
[34] في (ص): ((قال ذلك له)).
[35] زاد في (م): ((شيطانًا، وإنَّما أراد أنَّه فعل فعل الشَّيطان لا أنَّه انقلب)).
[36] في (م): ((الأئمة)).
[37] قوله: ((فلم يجد)) ليس في (م).
[38] في (ص): ((المرار)).
[39] في المطبوع و(م): ((من)).