شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب التعاون في بناء المسجد

          ░63▒ بَابُ: التَّعَاوُنِ فِي بِنَاءِ المَسْجِدِ، وقولِ اللهِ ╡: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ} الآية[التَّوبة:17].
          فيهِ: عِكْرِمَةُ: (أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ وَلابْنِهِ: انْطَلِقَا إلى أبي سَعِيدٍ فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ، فَانْطَلَقْنَا، فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ يُصْلِحُهُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَاحْتَبَى بِهِ، ثمَّ أَنْشَأَ يحَدِّثُنَا(1)، [خ¦447]
          حتَّى أَتَى على ذِكْرِ(2) بِنَاءِ المَسْجِدِ، فَقَالَ: كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَرَآهُ النَّبيُّ(3) صلعم، فَنْفضَ التُّرَابَ عَنْهُ، وَقَالَ(4): وَيْحَ عَمَّارٍ، يَدْعُوهُمْ إلى الجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إلى النَّارِ، قَالَ: يَقُولُ(5) عَمَّارٌ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الفِتَنِ).
          التَّعاون في بنيان المسجد(6) مِن أفضل الأعمال؛ لأنَّ ذلك ممَّا يجري للإنسان أجرُهُ بعد مماتِهِ، ومثل(7) ذلك حفر الآبار وتحبيس الأموالِ الَّتي يعمُّ العامَّة نفعها. قال المُهَلَّبُ: وفي هذا الحديث بيان ما اختُلِفَ فيه مِن قصٍّة عَمَّارٍ وقولِهِ: (يَدْعُوهُمْ إلى الجَنَّةِ ويَدْعُونَهُ إلى النَّارِ)، إنَّما يصحُّ ذلك في الخوارج الَّذين بعث إليهم عليٌّ ☺ عَمَّارًا ليدعوهم إلى الجماعة، وليس يصحُّ في أحدٍ مِن الصَّحابة؛ لأنَّه لا يجوز لأحدٍ مِن المسلمين أنْ يتأوَّل عليهم إلَّا أفضل التَّأويل؛ لأنَّهم أصحاب رسول الله صلعم الَّذين أثنى الله عليهم وشهد لهم بالفضل، فقال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}[آل عِمْرَان:110]. وقال(8) المفسِّرون: هُمْ أصحاب مُحَمَّدٍ صلعم(9)، وقد صحَّ أنَّ عَمَّارًا بعثَه عليٌّ إلى الخوارجِ يدعُوهُمْ إلى الجماعةِ الَّتي فيها العِصْمَةُ بشهادةِ النَّبيِّ صلعم: ((أَنَّ أُمَّتَهُ لَا تَجْتَمِعُ على ضَلَالَةٍ(10))). وفيه: أنَّ عمَّارًا فهم عَنِ النَّبيِّ صلعم أنَّ هذه الفتنة في الدِّين يُسْتَعَاذُ باللهِ منها، وفي الاستعاذةِ منها دليلٌ أنَّه لا يدري أحدٌ في الفتنة أمأجورٌ هو أو(11) مأزورٌ إلَّا بغلبة الظَّنِّ، ولو كان مأجورًا ما استعاذ بالله مِن الأجر، وهذا يَرُدُّ الحديثَ الَّذي رُوِيَ: ((لا تَسْتَعِيْذُوا باللهِ مِنَ الفِتْنَةِ، فإنَّها حَصَادُ المُنَافِقِيْنَ)). وقول عِكْرِمَةَ عن أبي سَعِيدٍ: ((فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَاحْتَبَى بِهِ(12)، ثُمَّ أَنْشَأَ فَحَدَّثَنَا(13)))، فيه أنَّ العالِمَ له أن يتهيَّأ للحديث ويجلس له جلسته. وفيه: أنَّ الرَّجُل العالِمَ يبعث ابنَهُ إلى عالِمٍ آخر ليتعلَّم منه؛ لأنَّ العلم لا يحوي جميعَهُ أحدٌ ولا يحيط به مخلوقٌ. وفيه: أنَّ أفعال البِرِّ للإنسان أن يأخذ منها ما(14) يشقُّ عليه إنْ شاء كما أخذ عَمَّارُ لَبِنَتَيْنِ، فاستحقَّ بذلك كرامةً مِن النَّبيِّ صلعم في نفضِهِ عنه الغُبَار، وذَكَرَ فضيلتَهُ الَّتي تأتي في الزَّمن الَّذي بعدَهُ. وفيه: علامة النُّبُوَّة؛ لأنَّه صلعم، أخبر بما يكون فكان كما قال.


[1] في (م) والمطبوع و(ص): ((فحدَّثنا)).
[2] قوله: ((عِكْرِمَةَ: أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ قَالَ له وَلابْنِهِ: انْطَلِقَا إلى أبي سَعِيدٍ فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ، فَانْطَلَقْنَا، فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ يُصْلِحُهُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَاحْتَبَى به، ثمَّ أَنْشَأَ فحَدِّثُنَا، حتَّى أَتَى)) ليس في (م). والعبارة في (م): ((فيه أبو سَعِيدٍ أنَّه ذكر...)).
[3] في (ص): ((نبي الله)).
[4] في (م): ((ويقول)).
[5] في (م): ((إلى النَّار، ويقول)).
[6] في (م): ((المساجد)).
[7] في (ص): ((مثل)).
[8] في (م) والمطبوع و(ص): ((قال)).
[9] في (ص): ((أصحاب رسول الله)).
[10] في (م) و(ص): ((بشهادة الرَّسول لا تجتمع أمَّتي على ضلال))، وفي (م): ((ضلالة)).
[11] في المطبوع و(م) و(ص): ((أم)).
[12] قوله: ((به)) ليس في (م).
[13] في (م): ((يحدَّثنا)).
[14] في (م): ((بما)).